الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجزء الاول
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المحقق
الحمد لله الذى أنزل القرآن، وكرّم بنى آدم بعلم البيان، والصلاة والسلام على خير بنى عدنان، أفضل الخلق بالحقيقة لا المجاز، وأعلمهم بأسرار الكتابة وحقيقة الإعجاز.
وبعد؛ فإن كتاب الطراز، ليحيى بن حمزة العلوى اليمنى «1» المتوفى سنة 705 هـ يعد من الكتب البلاغية التى حاول أصحابها الخروج على طريقة السكاكى، تلك الطريقة المنطقية العقلية الجافة، بما تشتمل عليه من المبالغة فى التقسيم والتقعيد والتعقيد كذلك، كما يغلب عليها الإيجاز والاختصار الشديد المخل بحق البلاغة، مع ندرة الشواهد والتحليلات البلاغية.
وقد حاول يحيى العلوى تقليد ابن الأثير فى طريقته الأدبية التحليلية فى تناول علوم البلاغة، هربا من جفاف التناول المنطقى عند السكاكى ومن لفّ لفّه.
ونستطيع أن نقول: إن العلوى قد نجح فى سلوك الطريقة الأدبية إلى حد كبير؛ وذلك واضح في كثرة شواهده، بل اختلاف تلك الشواهد فى كثير من الأحيان عن الشواهد المكرورة عند السكاكى وأتباعه، وإن كان فى بعض الأحيان وخاصة فى فنون البديع لا يكاد يعدو تلك الشواهد التى درج السكاكى وأتباعه على الاستشهاد بها. وتتميز طريقته كذلك بكثرة التحليلات الأدبية، وقد أولى القرآن عناية خاصة، ولا عجب فى ذلك فقد نذر نفسه لبيان أسرار إعجازه كما هو واضح من عنوان كتابه، «الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز» .
ولكننا لن نبالغ فى الثناء على العلوى لنرتقى به إلى رتبة عبد القاهر الذى نوّه العلوى بذكره فى مقدمته، ولكنه قرر أنه لم يطلع على كتابيه (دلائل الإعجاز) و (أسرار البلاغة) ،
وأنه لم ير منهما إلا شذرات فى تعليقات العلماء تنبى عما وراءها من روعة وإبداع.
بل إننا نقرر أنه لا يرقى كذلك إلى براعة ابن الأثير، ودقة نظراته وتحليلاته الرائعة.
ولكن لا يعدم القارىء لهذا الكتاب أن يجد محاولات جادة للعلوى فى الخروج على ربقة السكاكى ومدرسته، ويتضح ذلك من محاولاته المتكررة لمناقشة السّكاكى والرد عليه فى مواضع عديدة.
ومع ذلك فقد قرأ العلوى مفتاح العلوم للسكاكى وتأثر به كذلك، وهو وإن حاول الخروج على طريقة المدرسة السكاكية بطريقته الأدبية فى التناول والتحليل؛ فإنه لم يستطع التخلص كذلك من طريقة تلك المدرسة فى كثرة التقسيمات والتفريعات فهو يقلد فى ذلك السكاكى والرازى حيث يبنى كتابه على مقدمات ومقاصد ومكملات
…
إلخ.
غير أننا نقول إنه يبقى لذلك الكتاب أسلوبه الأدبى، وتحليله الرائع، وكثرة شواهده، وتنوعها واختلافها عن المكرر المردود فى كتب البلاغة على كثرتها.
هذا، ولم نأل جهدا فى ضبط متن هذا الكتاب، وتخريج ما تيسر لنا من شواهده ونصوصه، وإخراجه إخراجا جيدا أنيقا يليق بقيمته العلمية.
والله نسأل أن ينفع به فى معرفة أسرار بلاغة كتابه، وعلوم إعجازه، وأن يجزل المثوبة لنا ولكل من ساعد فى إخراجه؛ إنه سبحانه نعم المولى، ونعم النصير.
كتبه عبد الحميد بن أحمد الهنداوى غفر الله له ولوالديه وللمسلمين الجيزة فى 15/6/1421 هـ 15/8/2000 م
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله الذى أنطق لسان الإنسان، فأفصح بعجيب البلاغة وسحر البيان. وأوضح منار البرهان. فأشرقت أنواره عن حقائق العرفان. وفتق أغشية الأفئدة بما ألهمها من أسرار العلوم وشرفها بمنطق اللسان. فهى تهتز بما أفيض عليها من عوارف الإحسان.
وتميس وتختال لما خولها من فواضل الجود والكرم والامتنان صنوان وغير صنوان. خلق الإنسان من الطين اللازب الصلصال. وأجرى لسانه بالفصاحة وسقاه من نميرها العذب السلسال. فسبحان القيوم المختص بصفات الكبرياء ونعوت الجلال. المنفرد بالألوهية، والباقى وجهه من غير فناء ولا زوال.
والصلاة على من تبوأ من الفصاحة ذروتها، واقتعد من البلاغة مكان صهوتها. حتى ظهرت من جبهته أسرار طلعتها. وتبلجت من بهجته أنوار زهرتها. ووضح نهارها.
وطلعت شموسها وأقمارها. وصفت مشارعها للورّاد، وراقت مشاربها لمن قصد وأراد.
ودل على مصداق هذه المقالة قوله «أنا أفصح من نطق بالضاد» فعند ذاك أفصح أبيّها وأنقاد. وسهل مراسها على الفرسان والنقاد، المصطفى من أطيب العناصر، والحائز لقصب السبق من المعالى وأشرف المفاخر، محمد الأمين على الأنباء الغيبية، ومستودع الأسرار الحكمية والحكمية، وعلى آله الطيبين أطواد العلم الراسخة، ومثاقيل الحكم الراجحة، صلاة تقيم، ولا تريم، إنه منعم كريم.
أما بعد فإن العلوم الأدبية، وإن عظم فى الشرف شأنها، وعلا على أوج الشمس قدرها ومكانها، خلا أن علم البيان هو أمير جنودها، وواسطة عقودها، فلكها المحيط الدائر، وقمرها السامر الزاهر، وهو أبو عذرتها، وإنسان مقلتها، وشعلة مصباحها، وياقوتة وشاحها. ولولاه لم تر لسانا يحوك الوشى من حلل الكلام. وينفث السحر مفتر الأكمام. وكيف لا وهو المطلع على أسرار الإعجاز، والمستولى على حقائق علم المجاز.
فهو من العلوم بمنزلة الإنسان من السواد، والميهمن عليها عند السبر والحك والانتقاد ولما
فيه من الغموض ودقة الرموز، واحتوائه على الأسرار والكنوز، استولت عليه يد النسيان والذهول، وآلت نجومه وشموسه إلى الانكساف والأفول، ولم يختص بإحرازه من العلماء إلّا واحد بعد واحد، وطالما قيل «إذا عظم المطلوب قل المساعد» ، وما ذاك إلا لقصور الهمم عن بلوغ غاياته، وعجزها عن إدراكه والوصول إلى نهاياته.
ثم إن المقصود بهذا الإملاء هو الإشارة إلى معاقد هذا العلم ومناظمه. والتنبيه على مقاصده وتراجمه. وقد كثر فيه خوض علماء الأدب. وأتى فيه كل بمبلغ جده وجهده.
ومنتهى علمه ومقدار وجده. حرصا منهم على بيانه. وشغفا منهم بضبطه وإتقانه. وأتوا فيه بالغث والسمين. والنازل والثمين. وهم فيما أتوا به من ذلك فريقان. فمنهم من بسط كلامه فيه نهاية البسط، وخلط فيه ما ليس منه فكان آفته الإملال. ومنهم من أوجز فيه غاية الإيجاز، وحذف منه بعض مقاصده فكان آفته الإخلال. لم أطالع من الدواوين المؤلفة فيه مع قلتها ونزورها إلا أكتبة أربعة، أولها: كتاب المثل السائر للشيخ أبى الفتح نصر بن عبد الكريم المعروف بابن الأثير. وثانيها: كتاب التبيان للشيخ عبد الكريم وثالثها: كتاب النهاية لابن الخطيب الرازى. ورابعها: كتاب المصباح لابن سراج المالكى.
وأول من أسس من هذا العلم قواعده. وأوضح براهينه وأظهر فوائده. ورتب أفانينه.
الشيخ العالم النحرير علم المحققين عبد القاهر الجرجانى. فلقد فك قيد الغرائب بالتقييد.
وهد من سور المشكلات بالتسوير المشيد. وفتح أزهاره من أكمامها. وفتق أزراره بعد استغلاقها واستبهامها. فجزاه الله عن الإسلام أفضل الجزاء. وجعل نصيبه من ثوابه أوفر النصيب والإجزاء. وله من المصنفات فيه كتابان، أحدهما لقبه «بدلائل الإعجاز» والآخر لقبه «بأسرار البلاغة» . ولم أقف على شىء منهما مع شغفى بحبهما، وشدة إعجابى بهما، إلا ما نقله العلماء فى تعليقهم منهما. ولست بناقص لأحد فضلا. ولا عائب له قولا.
فأكون كما قال بعضهم.
بنقصك أهل الفضل بان لنا
…
أنك منقوص ومفضول
ولا أدّعى لنفسى إحراز الفضل والاستبداد بالخصل فأكون كما قال بعضهم:
ويسىء بالإحسان ظنّا لا كمن
…
هو بابنه وبشعره مفتون
ولا أسلّم نفسى عن خطإ وزلل. ولا أعصم قولى عن وهم وخطل «فالفاضل من تعدّ سقطاته. وتحصى غلطاته» إلا بتوفيق الله وعصمته. والسالم من ذلك كتاب الله المجيد الذى لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
[فصلت: 42] .
ثم إن الباعث على تأليف هذا الكتاب هو أن جماعة من الإخوان شرعوا علىّ فى قراءة كتاب «الكشاف» تفسير الشيخ العالم المحقق أستاذ المفسرين محمود «بن عمر الزمخشرى» فإنه أسّسه على قواعد هذا العلم، فاتضح عند ذلك وجه الإعجاز من التنزيل. وعرف من أجله وجه التفرقة بين المستقيم والمعوجّ من التأويل. وتحققوا أنه لا سبيل إلى الاطلاع على حقائق إعجاز القرآن إلا بإدراكه. والوقوف على أسراره وأغواره. ومن أجل هذا الوجه كان متميزا عن سائر التفاسير، لأنى لم أعلم تفسيرا مؤسسا على علمى المعانى والبيان سواه. فسألنى بعضهم أن أملى فيه كتابا يشتمل على التهذيب والتحقيق، فالتهذيب يرجع إلى اللفظ، والتحقيق يرجع إلى المعانى. إذ كان لا مندوحة لأحدهما عن الثانى.
وأرجو أن يكون كتابى هذا متميزا عن سائر الكتب المصنفة فى هذا العلم بأمرين أحدهما اختصاصه بالترتيب العجيب، والتلفيق الأنيق، الذى يطلع الناظر من أول وهلة على مقاصد العلم، ويفيده الاحتواء على أسراره. وثانيهما اشتماله على التسهيل والتيسير، والإيضاح والتقريب. لأن مباحث هذا العلم فى غاية الدقة، وأسراره فى نهاية الغموض.
فهو أحوج العلوم إلى الإيضاح والبيان، وأولاها بالفحص والإتقان فلما صغته على هذا المصاغ الفائق، وسبكته على هذا القالب الرائق، سميته بكتاب الطّراز. المتضمّن لأسرار البلاغة، وعلوم حقائق الإعجاز؛ ليكون اسمه موافقا لمسمّاه ولفظه مطابقا لمعناه.
ولما كان كل علم لا ينفكّ عن مبادىء ومقدمات تكون فاتحة لأمره.، ومقاصد تكون خلاصة لسرّه، وتكملات تكون نهاية لحاله، لا جرم اخترت فى ترتيب هذا الكتاب أن يكون مرتبا على فنون ثلاثة، ولعلّها تكون وافية بالمطلوب محصّلة للبغية بعون الله.
فالفن الأول منها مرسوم المقدمات السابقة نذكر فيها تفسير علم البيان، ونشير فيها إلى
بيان ماهيته وموضوعه ومنزلته من العلوم الأدبية، والطريق إلى الوصول إليه وبيان ثمرته وما يتعلق بذلك، من بيان ماهية البلاغة والفصاحة والتفرقة بينهما. ونشير إلى معانى الحقيقة والمجاز وبيان أقسامهما، إلى غير ذلك مما يكون تمهيدا وقاعدة لما نريده من المقاصد.
الفن الثانى منها مرسوم المقاصد اللائقة. نذكر منه ونشير فيه إلى ما يتعلق بالمباحث المتعلقة بالمعانى وعلومها. ونردفه بالمباحث المتعلقة بعلوم البيان وأقسامها. ونشرح فيه ما يتعلق به من المباحث بعلم البديع ونذكر فيه خصائصه وأقسامه وأحكامه اللائقة به بمعونة الله تعالى ولطفه.
الفن الثالث نذكر فيه ما يكون جاريا مجرى التتمة والتكملة لهذه العلوم الثلاثة، نذكر فيه فصاحة القرآن العظيم وأنه قد وصل الغاية التى لا غاية فوقها، وأن شيئا من الكلام وإن عظم دخوله فى البلاغة والفصاحة، فإنه لا يدانيه ولا يماثله. ونذكر كونه معجزا للخلق لا يأتى أحد بمثله. ونذكر وجه إعجازه، ونذكر أقاويل العلماء فى ذلك، ونظهر الوجه المختار فيه، إلى غير ذلك من الفوائد الكثيرة، والنّكت الغزيرة، التى نلحقها على جهة الرّدف والتكملة لما سبقها من المقاصد.
فالفن الثالث للثانى على جهة الإكمال والتتميم. والفن الأول للثانى على جهة التمهيد والتوطئة والسرّ واللباب. والمقصد لذوى الألباب. ما يكون مودعا فى الفن الثانى وهو فن المقاصد. وأنا أسأل الله تعالى بجوده الذى هو غاية مطلب الطّلّاب. وكرمه الواسع الذى لا يحول دونه ستر ولا حجاب أن يجعله من العلوم النافعة فى إصلاح الدّين. ورجحنا فى ميزانى عند خفة الموازين. إنه خير مأمول، وأكرم مسئول.