الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالطرف الأعلى منه يقع التناسب فيه بحيث لا يمكن أن يزاد عليه، وعند هذا تكون تلك الصورة وذلك النظام فى الكلام فى الطبقة العليا من الحسن والإعجاب، والطرف الأسفل أن يحصل هناك من التناسب قدر بحيث لو انتقص منه شىء لم تحصل تلك الصورة، ثم بين الطرفين مراتب مختلفة متفاوتة جدا.
فإذا عرفت هذا فنقول أما الطرف الأسفل فهل يعد من البلاغة أم لا؟ فيه تردد، والحق أنه معدود منها؛ لأنا قد قلنا: إنه طرف لها وما كان طرفا للشىء فهو منه وبعض له، وزعم ابن الخطيب أنه ليس من البلاغة فى شىء، ولا يكون معدودا منها؛ لأن منزلة البلاغة أعلى وأشرف من أن يقال: إنه ليس بين هذا الكلام وبين خروجه عن حد البلاغة إلا أن ينقص منه شىء، فما هذا حاله من الكلام لا يعد من البلاغة أصلا، وأما سائر المراتب فإنها مع تفاوتها فى منازلها فهى معدودة من فن البلاغة خلا أنّ بعضها أبلغ من بعض، فالأعلى أبلغ مما تحته من المراتب. وأما الطرف الأعلى وما يقرب منه فهو المعجز، لأنه ليس فوقه رتبة، لأنه قد بلغ الغاية فى الفصاحة والبلاغة الحاصلين من جهة مفردات الحروف تارة، ومن جهة تركيبها أخرى.
المبحث الثالث فى حكم البلاغة
اعلم أنه لا خلاف بين أهل التحقيق من علماء البيان أن الكلام لا يوصف بكونه بليغا إلا إذا حاز مع جزالة المعنى فصاحة الألفاظ، ولا يكون بليغا إلا بمجموع الأمرين كليهما فقد صارت البلاغة وصفا عارضا للألفاظ والمعانى كما ترى.
وأما الفصاحة فهل تكون من عوارض الألفاظ، أو تكون من عوارض المعانى، أو لمجموعهما؟ فيه مذاهب أربعة:
أولها: أنها من عوارض الألفاظ مجردة لا باعتبار دلالتها على المعانى، وهذا هو الذى يشير إليه كلام ابن الأثير فى كتابه المثل السائر فإنه قال: إنّ الفصاحة مدركة بالسمع، وليس يدرك بحاسة السمع إلا اللفظ، فلهذا كانت مقصورة عليه.
وثانيها: أن الفصاحة من عوارض المعانى دون الألفاظ وهذا هو الذى يرمز إليه ابن الخطيب الرازى فى كتابه نهاية الإيجاز، فإنه زعم أن الفصاحة عبارة عن الدلالات المعنوية
لا غير من غير حاجة إلى اللفظ لا على جهة القصد، ولا على جهة التبعية.
وثالثها: أن الفصاحة عبارة عن الألفاظ باعتبار دلالتها على مسمياتها المعنوية، وهذا شىء حكاه ابن الخطيب فى كتاب النهاية ولم يعزه إلى أحد من علماء البيان. وحاصل مذهبهم أن الفصاحة عبارة عن الأمرين جميعا، فلا هى من أوصاف اللفظ كما زعمه ابن الأثير على الخصوص، ولا هى من أوصاف المعانى على الخصوص كما حكيناه عن ابن الخطيب.
ورابعها: أن تكون الفصاحة مقولة على الأمرين جميعا، فتكون مفيدة لهما جميعا فيكون الأمران جميعا أعنى المعانى والألفاظ من مسمى قولنا: فصاحة، وهذا المذهب يخالف المذهب الثالث، فإن هؤلاء جعلوا اللفظ والمعنى من مدلول لفظ الفصاحة. والذين قبلهم جعلوا اللفظ هو مسمى الفصاحة، لكن اعتبار المعنى على جهة الضم والتبعية لا غير.
فهذا تقرير مذاهب العلماء فى مدلول لفظ الفصاحة، وفائدة إطلاقه.
والمختار عندنا تفصيل نشير إليه، وهو أن الفصاحة من عوارض الألفاظ، لكن ليس بالإضافة إلى مطلق الألفاظ فقط، ولكن بالإضافة إلى دلالتها على معانيها، فتكون الفصاحة عبارة عن الأمرين جميعا مطلق الألفاظ ودلالتها على ما تدل عليه من معانيها المفردة والمركبة، وهذا المذهب هو الذى حكاه ابن الخطيب عن بعض علماء البيان. ويدل على ما قلناه وجوه ثلاثة:
أولها: قوله صلى الله عليه وسلم: «إن من البيان لسحرا» والبيان هو الفصاحة، لأن البيان هو الظهور، وذلك لا يستعمل إلا فى الألفاظ، ولا بد من اعتبار دلالتها على معانيها، لأنا لو لم نعتبر ذلك لكانت الألفاظ مما يمجها السمع، وينبو عنها الطبع، فضلا عن أن تكون سحرا. فإذن لا بد من اعتبار الأمرين فى كون الكلام فصيحا، ومراده عليه السلام بقوله «لسحرا» يعنى أنه يحير العقول فى حسنه ورونقه، ودقة معانيه، وعن هذا قال بعضهم:
فصاحة المنطق سحر الألباب.
وثانيها: أنهم يقولون فى الوصف كلام فصيح، ومعنى بليغ، ولا يقولون معنى فصيح، فدل ذلك على أن الفصاحة من متعلقات الألفاظ، وأن فصاحته إنما كانت باعتبار ما دل عليه من حسن المعنى ورشاقته. وفى هذا دلالة على وجوب اعتبار الأمرين فى فصيح الكلام كما قلناه.
وثالثها: أنا نراهم فى أساليب كلامهم يفضلون لفظة على لفظة، ويؤثرون كلمة على كلمة، مع اتفاقهما فى المعنى، وما ذاك إلا لأن إحداهما أفصح من الأخرى، فدل ذلك على أن تعلق الفصاحة إنما هو بالألفاظ العذبة، والكلم الطيبة ألا ترى أنهم استحسنوا لفظ الديمة، والمزنة، واستقبحوا لفظ البعاق لما فى المزنة، والديمة، من الرقة واللطافة ولما فى البعاق، من الغلظ والبشاعة. ومما أغرق فى اللذة والسلاسة قوله تعالى فى وصف خروج القطر من السحاب: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ
[النور: 43] فأين هذا من قول امرىء القيس فى هذا المعنى:
فألقى بصحراء العبيط بعاعه
فانظر ما بين الودق والبعاع فاختصاص الودق بالرقة واللطافة عما تضمنه، البعاع، من الغلظ والبشاعة دلالة ظاهرة على ما قلناه من أن الفصاحة راجعة إلى اللفظ لأجل دلالته على معناه.
فأما من زعم أن الفصاحة متعلقها اللفظ لا غير، فقد أبعد، فإن الالفاظ لا ذوق لها ولا يمكن الإصغاء إلى سماعها إلا لأجل دلالتها على معانيها، فأما إذا خلت عن الدلالة عليها فلا وقع لها بحال، وغالب ظنى أنه لا بد له من اعتبار المعنى، خلا أنه يكون ضمنا وتبعا للألفاظ لا محالة.
وأبعد من هذا من زعم أن متعلق الفصاحة فى المعانى فقط، كما حكيناه عن ابن الخطيب فإن المعانى إنما توصف بالبلاغة، فأما الفصاحة فإنها من صفات الألفاظ كما مر بيانه. وعلى الجملة فإن أراد أنه لا بد من اعتبار الأمرين جميعا، اللفظ والمعنى، على أن إطلاق الفصاحة على أحدهما ويكون الثانى تبعا فالخلاف لفظى، وإن أراد أنّ إطلاق اسم الفصاحة إنما يكون على أحدهما على انفراده، فهو خطأ كما أسلفنا تقريره. فهذا ما أردنا ذكره فيما يخص كل واحد منهما.