الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يحيف فى قضائه وحكمه، وبدر تم يتكلم بجميع الحقائق، فيأتى بهذه الأمور عقيب ذكر الاستعارة من أجل تأكيد أمرها، وإيضاح حالها لأنك إذا قلت رأيت أسدا، فقد حصل مطلق الاستعارة اختصاصه بالشجاعة التى هى خاصة الأسد، فهذه استعارة مطلقة، ثم لما قلت على سرير ملكه، فصلته عن حكم الآساد، إذ ليس الجلوس على السرر من شأنها، وإنما جىء بذلك من أجل تأكيد المستعار له، وهذه تسمى مجردة، وهكذا إذا قلت رأيت قمرا على فرس، وبدر تم يتكلم، فقد أثبت له ضوء الأقمار وتمام البدور، ثم فصلته عما لا يليق بالأقمار والبدور بقولك على فرس، وبقولك يتكلم، لأنه ليس الكون على الخيل والكلام من صفة الأقمار والبدور بحال، ولكن الغرض هو ما ذكرناه من توكيد أمر المستعار له وتوضيح حاله، ومن النمط العالى فى الاستعارة ما قاله بعض الشعراء:
وصاعقة فى كفه ينكفى بها
…
على أرؤس الأعداء خمس سحائب
فلما استعار الصاعقة لنصل السيف عقبه بقوله ينكفى بها، أى يتصل ويلابس رؤوس الأعداء خمس سحائب، أراد بها الأصابع، إيضاحا لأمر الصاعقة، وتبيانا أن ما ذكره من حكم المستعار له، وجعل قرينته دالة على ما أراده من وصف هذا الممدوح، ومن فائق الاستعارة ورائقها قول بعضهم:
ترى الثياب من الكتان يلمحها
…
نور من البدر أحيانا فيبليها
فكيف تنكر أن تبلى معاجرها
…
والبدر فى كل وقت طالع فيها
فلما استعار ذكر القمر، عقبه بذكر المعاجر وأنه يبليها بطلوعه فيها كل وقت، وذكره من أجل إيضاح أمر المستعار له، وبيان حقيقته.
وأما الاستعارة الخيالية الوهمية
،
لهى أن تستعير لفظا دالا على حقيقة خيالية تقدرها فى الوهم، ثم تردفها بذكر المستعار له، إيضاحا لها وتعريفا لحالها كما قال بعضهم:
وإذا المنية أنشبت أظفارها
…
ألفيت كل تميمة لا تنفع
وقد يجتمع التجريد والتوشيح فى الاستعارة كما قال زهير:
لدى أسد شاكى السلاح مقذف
…
له لبد أظفاره لم تقلم
فلما صوره بصورة الأسد جرد الاستعارة بأن عقبه بكونه حديد الشوكة فى سلاحه، تقريرا لحال الاستعارة، وتوكيدا لأمرها، ثم وشحها بقوله:«له لبد أظفاره لم تقلم» وكما لو قال فى هذا «رأيت أسدا دامى الأنياب وافر البراثن» لكان من باب الاستعارة الموشحة،
ومن الخيالية قولهم: «فلان أنشبت المنية فيه مخالبها» كان تخييلا للاستعارة، لأنه لما شبه المنية بالسبع فى عدوانها وتضريتها على الإنسان، جعل لها مخالب، ليزداد أمر التخييل ويكثر، ومن الاستعارة التخيلية، الآيات الدالة على التشبيه كقوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ
[المائدة: 64] وقوله تعالى: خَلَقْتُ بِيَدَيَ
[ص: 75] وقوله تعالى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ
[الرحمن: 27] ومن أجل ذلك زل كثير من الفرق فى اعتقادها جواز الأعضاء على الله تعالى وحلول المكان، والجهة، وغير ذلك من الظواهر النقلية التى يشعر ظواهرها بذلك، فإنهم لما لم يفهموا هذه الاستعارة وجهلوا حالها، وقعوا فى أودية التهويس من اعتقاد التشبيه وتوهم كل ضلالة فى ذاته تعالى، فمن ههنا كان السبب فى ضلال المشبهة، فأما المنزهة فلهم فيها تأويلات ركيكة بعيدة، والذى حملهم على ذلك تقرير القواعد العقلية، فلا جرم اغتفروا بعدها حذرا من المناقضة للقضايا فى البراهين، ولو تفطنوا لهذه الاستعارة لكانوا فى غنية عن أكثر هذه التأويلات الركيكة، فأما التفرقة بين الاستعارة الحقيقية والاستعارة الخيالية، فسنذكرها فى أحكام الاستعارة بمعونة الله تعالى:
وقد يجتمع التحقيق والتخييل فى الاستعارة كما فى بيت زهير:
صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله
…
وعرى أفراس الصبا ورواحله
فيمكن جعله من باب التخييل، وتقريره هو أنه لما تحقق من حاله أنه أمسك عما كان عليه فى عنفوان الشباب وغضارته من سلوك جانب الغى وركوب مراكب الهوى، استعار له قوله:«عرى أفراس الصبا ورواحله» على جهة التخييل وطريقه، كأنه شبه الصبا فى حال قوة دواعيه وميلانه إلى اللهو والطرب، بالإنسان الذى يقدر على تصريفك على ما تريد، ثم بالغ فى الاستعارة حتى صوره بصورة الإنسان واختراع ما له من الآلات والأدوات، وأطلق اسمها عليه تحقيقا لحال الاستعارة المتخيلة، ويمكن جعله من باب التحقيق، وتقريره أنه استعار الأفراس والرواحل لما يحصل من دواعى النفوس والقوى الإنسانية عند الصبا وميل القلوب إلى الهوى فلهذا قال: عرى عن هذه الأشياء بعد مفارقة الصبا. ومما يمكن تنزيله على هذين الوجهين فى الخيال، والتحقيق، قوله تعالى:
وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ
[الإسراء: 24] فإذا جعلته من باب التخييل، فتقريره هو أن الله تعالى أمر الولد بأن يلين لهما جانبه، ويتواضع لهما، فاستعار لفظ الجناح، منبها به على التخييل فى الاستعارة بطريق المبالغة فى طلب أن يكون الولد لأبويه،