الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولحاق وفراق» . وقال فى كلام آخر «فأطفئوا ما كمن فى قلوبكم من نيران العصبية، وأحقاد ثأر الجاهلية، واعتمدوا وضع التذلل على رؤسكم، وإلقاء التعذر تحت أقدامكم، وخلع التكبر عن أعناقكم، واتخذوا التواضع مسلحة بينكم وبين عدوكم، إبليس وجنوده، فإن له من كل أمة جنودا وأعوانا، ورجلا وفرسانا» ومن خبر كلامه ومارس أسلوبه ونظامه، تحقق لا محالة أنه قمر البلاغة المتوسط فى هالتها، والطراز الباهى فى أكم غلالتها.
النوع الرابع فيما ورد من التشبيه فى كلام البلغاء
فمن ذلك كلام قبيصة بن نعيم، لما قدم على امرىء القيس فى أشياخ من بنى أسد، يسألونه العفو عن دم أبيه حجر، فقال له قبيصة: إنك فى المحل والقدر من المعرفة بتصريف الدهر، وما تحدثه أيامه، وتتنقل به أحواله بحيث لا تحتاج إلى تذكير من واعظ، ولا تبصير من مجرب، ولك من سؤدد منصبك، وشرف أعراقك، وكرم أصلك فى العرب، محتمل يحتمل ما حمل من إقالة العثرة، ورجوع عن الهفوة، ولا تتجاوز الهمم إلى غاية إلا رجعت إليك، فوجدت عندك من فضيلة الرأى، وبصيرة الفهم، وكرم الصفح، ما يطول رغباتها ويستغرق طلباتها، وقد كان الذى كان من الخطب الجليل الذى عمت رزيئته نزارا واليمن، ولم يخصص بذلك كندة دوننا، للشرف البارع كان الحجر، ولو كان يفدى هالك بالأنفس الباقية بعده، لما بخلت كرائمنا به على مثله، ولكنه مضى به سبيل لا ترجع أخراه على أولاه، ولا يلحق أقصاه أدناه فأحمد الحالات أن تعرف الواجب عليك فى إحدى خلال ثلاث، إما أن اخترت من بنى أسد أشرفها بيتا، وأعلاها فى بناء المكرمات صوتا، فقدناه إليك بنسعه، تذهب مع شفرات حسامك قصرته، فنقول، رجل امتحن بهلك عزيز، فلم تستل سخيمته إلا بتمكينه من الانتقام. أو فداء بما يروح على بنى أسد من نعمها، فهى ألوف تجاوز الحسبة فكان ذلك فداء رجعت به القضب إلى أجفانها، وإما أن توادعنا إلى أن تضع الحوامل فنسدل الأزر، ونعقد الخمر فوق الرايات، قال فبكى امرؤ القيس ساعة، ثم رفع رأسه فقال: لقد علمت العرب أنه لا كفء لحجر فى دم، وإنى لن أعتاض به جملا ولا ناقة، فأكتسب بذلك سبة الأبد، وفت العضد، وأما النظرة فقد
أوجبتها للأجنة فى بطون أمهاتها، ولن أكون لعطبها سببا، وستعرفون طلائع كندة بعد ذلك، تحمل فى القلوب حنقا، وفوق الأسنة علقا:
إذا جالت الحرب فى مأزق
…
تصافح فيها المنايا النفوسا
أتقيمون، أم تنصرفون؟ قالوا بل ننصرف بأسوأ الاختيار وأبلى الاجترار المكروه وأذية، وحرب وبلية، ثم نهضوا عنه، وقبيصة يتمثل:
لعلك أن تستوخم الورد إن غدت
…
كتائبنا فى مأذق الحرب تمطر
فقال امرؤ القيس: لا والله، بل أستعذبه، فرويدا تنفرج لك دجاها عن فرسان كندة، وكتائب حمير، ولقد كان ذكر غير هذا بى أولى إذ كنت نازلا بربعى ولكنك قلت فأجبت، فقال له قبيصة ما نتوقع أكثر من المعاتبة والإعتاب.
فعليك إعمال فكرك فى هذا الكلام، ما أوقعه فى إصابة المعانى وأسلس ألفاظه، ومن ذلك ما قاله ابن الأثير فإنه أبدع فى نظم المنثور، وأحسن فى تأليف العقود من الدرر والشذور، ومن عجيب كلامه أنه يكاد يعول فى نظم كلامه على كتاب الله تعالى فيجعله كالأساس للبناء، قال فى وصف القلم وقد أوحى الله إلى قلمه ما أوحى، وإلى النحل، غير أنها تأوى إلى المكان الوعر، وهو يأوى إلى البيان السهل، ومن شأنه أن يجتنى من ثمرات ذات أرواح لا ذات أكمام، ويخرج من نفثاته شراب مختلف طعمه فيه شفاء للأفهام، وأين ما تبينه كثافة الخشب، مما تبينه لطافة المعنى، ولا تستوى نضارة هذا الثمر، وهذا الثمر، ولا طيب هذا المجنىّ وهذا المجنى، وقد أرخص ما يكثر وجوده، فيذهب فى لهوات الأفواه، وأغلى ما يعز وجوده، فيبقى خالدا على ألسنة الرواة.
فانظر كيف جعل الآية أصلا وقاعدة لمغزاه، ومهادا فى لفظه ومعناه. وقال فى وصف كاتب وهو إذا دجا ليل قلمه، وطلعت فيه نجوم كلمه، لم يقعد لها شيطان بلاغة مقعدا، إلا وجد له شهابا مرصدا، فأسرارها مصونة عن كل خاطف، مطوية عن كل قائف، فقرر ما ذكره على ما ذكره فى سورة الجن، ثم قال له بنت فكر ما تمخضت بمعنى إلا نتجته من غير ما تهمله، ثم أتت به قومها تحمله، ولم نعرض على ملإ من البلغاء إلا ألقوا أقلامهم أيهم يستعيره لا أيهم يكفله، فشيد ما ذكره على هاتين الآيتين، الأولى فى سورة الجن، والثانية فى سورة مريم، ومن ثم كان ارتفاع قدره، واستتمام نور بدره، ومن ذلك ما ذكره الشيخ العابد يحيى بن نباتة فى خطبة له، وهو قمر يشار إليه بالأكف فى البلاغة،
وله فى أساليبها اليد البيضاء، قال أولئك الذين أفلوا فنجمتم، ورحلوا فأقمتم، وأبادهم الموت كما علمتم، وأنتم الطامعون فى البقاء بعدهم كما زعمتم، كلا والله ما أشخصوا لتقروا، ولا نغصوا لتسروا ولا بد أن تمروا حيث مروا، فلا تفتنوا بخدع الدنيا ولا تغتروا، يا أيها الناس، أسيموا القلوب فى رياض الحكم، وأديموا البحث عن ابيضاض اللمم، وأطيلوا الاعتبار بانتقاص النعم، وأجيلوا الأفكار فى انقراض الأمم. فانظر إلى موقع قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ
[البقرة: 175] وقوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ
[البقرة: 21] من كلامه لما كانا من آى القرآن، كيف تميزا تمييز الإبريز، عن القزدير، وصارا مع غيرهما من الكلام كالرصاص بالإضافة إلى الإكسير. وقد ساق ابن الجوزى على هذا المساق الذى حكيناه عن ابن الأثير فى جعل الآيات طررا فى كلامه، قال فى خطبة: يا معدودا مع أهل البصر وهو فى العميان، يا محسوبا مع أهل المشيب وهو فى الصبيان، يسافر بالهوى، ولا ينزل إلابجار من خان خل الهوى، فإن الهوى هوان، ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله؟ ألم يأن؟ سار الصالحون وتوقفت، وجد التائبون وسوفت، ما يقعدك عن الطريق وقد عرفت؟ هيهات! لقد استحكم هذا النسيان، ألم يأن؟ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله؟ ألم يأن؟ وكم له على هذا الأسلوب من النثر العجيب، والإغراق فى النظم البديع، ولقد رأيت له مائة فصل على مائة آية من كتاب الله على هذا الأسلوب. وقال فى الحريريات: أيها السادر فى غلوائه، السادل ثوب خيلائه، الجامح فى جهالاته، الجانح إلى خزعبلاته، إلا تستمر على غيك، وتستمرىء مرعى بغيك؟ وحتام تتناهى فى زهوك، ولا تنتهى عن لهوك، تبارز بمعصيتك، مالك ناصيتك، وتجترىء بقبح سيرتك، على عالم سريرتك، وتتوارى عن قريبك، وأنت بمرأى رقيبك، وتستخفى عن مملوكك، ولا تخفى خافية على مليكك، أتظن أن ستنفعك حالك؟ إذا آن ارتحالك، ويغنى عنك مالك، حين توبقك أعمالك، أو يغنى عنك ندمك، إذا زلت قدمك. ثم قال: طالما أيقظك الدهر فتناعست، وجذبك الوعظ فتقاعست، وحصحص لك الحق فتماريت، وأذكرك الموت فتناسيت، وأمكنك أن تؤاسى فما آسيت، تأمر بالعرف وتنتهك حماه، وتنهى عن المنكر ولا تتحاماه، وتزحزح عن الظلم ثم تغشاه، وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه. ولقد ختم كلامه بأحسن ختام، حيث جعل الآية منتهى له، فتم أى تمام.
وفيما ذكرناه كفاية فى مقدار عرضنا من التنبيه على مواقع البلاغة فى كلام الفصحاء مثل واصل، والجاحظ، وغيرهما، ممن له فيها الحظ الوافر.