الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يمشون فى زغف كأن متونها
…
فى كل معركة متون نهاء
بيض يسيل على الكماة فضولها
…
سيل السراب بقفرة بيداء
فإذا الأسنة خالطتها خلتها
…
فيها خيال كواكب فى ماء
وقوله أيضا:
وتراه فى ظلم الوغى فتخاله
…
قمرا يكر على الرجال بكوكب
فقد ظهر بما أوردناه من هذه الأمثلة وضوح ما ادعيناه من كون التشبيه مختصا بالإيضاح والبيان لما قصد به.
التنبيه الرابع فى بيان مراتب التشبيهات فى الظهور والخفاء والقرب والبعد والزيادة والنقصان وغير ذلك من أحوالها التى تعرض لها
اعلم أن الشىء المشبه به كلما كان أبعد من الوقوع كان التشبيه المستخرج منه أغرب، ويكون فى المبالغة أدخل وأعجب، فمثال القريب تشبيه السيوف بالأمواج، وتشبيه أطراف الأسنة بالكواكب، وتشبيه الرجال بالأسود ومن قريب التشبيه وأحسنه ما قاله على بن جبلة:
إذا ما تردى لأمة الحرب أرعدت
…
حشا الأرض واستدمى الرماح الشوارع
وأسفر تحت النقع حتى كأنه
…
صباح مشى فى ظلمة الليل ساطع
ومنه قول أبى تمام:
خلط الشجاعة بالحياء فأصبحا
…
كالحسن شيب لمغرم بدلال
ومثال التشبيه البعيد تشبيه الفحم إذا كان فيه جمر ببحر من المسك موجه ذهب، ونحو تشبيه الدماء بنهر من ياقوت أحمر، فهذا وأمثاله من المعدود فى البعيد، لكونه غير متوهم الوقوع بحال، فإن البحر من المسك لا يوجد ولكنه متصور وهكذا، فإن أعلام الياقوت على رماح الزبرجد غير موجودة، ولهذا فإنه لما كان غير موجود كان أدخل فى التشبيه وأعجب لكونه غير واقع ولهذا كان قول من قال:
وكأن أجرام السماء لوامعا
…
درر نثرن على بساط أزرق
أدخل فى الإعجاب وأغرب من قول ذى الرمة فى شعره:
كأنها فضة قد مسها ذهب
لما كان الأول غير واقع، لأن البساط الأزرق عليه درر منثورة لا يكاد يوجد، بخلاف الفضة المموهة بالذهب، فإنها توجد كثيرا، فأما التشبيهات الواردة فى القرآن الكريم والسنة النبوية، فإنها كلها قريبة، وما ذلك إلا لأنها أدخل فى التحقيق، وأقرب إلى التيقن مما لا يكاد يقع، فلهذا كانت مختصة بهما كقوله تعالى: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ
[النور: 40] وقوله تعالى: كَمَثَلِ الْحِمارِ
[الجمعة: 5] وقوله تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ
[الأعراف: 176] إلى غير ذلك من الأمور الممكنة الوقوع. ومثال الواضح من التشبيه ما قاله على بن جبلة فى وصف الخمر:
ترى فوقها نمشا للمزاج
…
تقارب لا تتصلن اتصالا
كوجه العروس إذا خططت
…
على كل ناحية منه خالا
ومن أوضحه قول مسلم بن الوليد يصف رجلا بالشجاعة:
يلقى المنية فى أمثال عدتها
…
كالسيل يقذف جلمودا بجلمود
فهذا وأمثاله من الأمور الواضحة فى المقصود منها فى التشبيه، وهكذا جميع التشبيهات فى القرآن العظيم، فإنها واضحة جليلة، ومثال التشبيهات الخفية، ونريد بخفائها أن الأمور المحسوسة الظاهرة مستمدة من الأمور الخفية فى المعانى وهذا كقول بعض الشعراء:
وكأن النجوم بين دجاها
…
سنن لاح بينهن ابتداع
فشبه النجوم فى ظلمة الظلام مع نورها بالسنن الواضحة التى هى كالأنوار توسط بينها بدع، كسواد الليل فى ظلمتها، فالسنة فى هداها كالنور، والبدعة فى جهلها بمنزلة الظلمة، ومن هذا قول بعضهم:
كأن انصياع البدر من تحت غيمه
…
نجاء من البأساء بعد وقوع
فشبه المحسوس بالمعقول، مثل البدر الذى ينحسر عنه الظلام، بالمتخلص من البأساء بعد وقوعها عليه، وما ذاك إلا لأن هذه المعانى وضحت وضوحا وقربت من النفوس قربا فألحقت بالأمور المحسوسة فى وضوحها وتحققها، ومن الأمثلة ما حكاه الله تعالى عن مستحلى الربا حيث قالوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا
[البقرة: 275] وكان القياس فى قولهم:
إنما الربا مثل البيع، فى تحليله إغراقا منهم فى المبالغة، وذهابا إلى أن الربا فى باب الحل أدخل من البيع وأقوى حالا، وهذا من أنواع التشبيه يلقب بالمعكوس، ولهذا يقال: صبح كغرة الفرس، ويقال فى عكسه أيضا غرة كالصبح، وسيأتى تقريره بمعونة الله تعالى.