الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مصيبة يلقاها بصبر جميل» فاستعار الجرعة لما يكابده الإنسان عند ملابسة الغيظ ومقاساة الأحزان، وخص الجرعة لأن هذه الأمور كلها تخص القلب وتقع عليه كما تقع الجرعة عليه عند شربه، وهى استعارة لطيفة يعقلها أهل الكياسة، وينظر لها الأذكياء، ومن ذلك قوله عليه السلام:«المؤمن والكافر لا تتراءى نيرانهما» فاستعار ذلك إعلاما لما بينهما من البعد والانقطاع فى جميع الأحوال لأنهما إذا تباعدا فى الدين، فما وراء ذلك يكون أبعد وأعظم فى الانقطاع، وفى هذا إشارة إلى أن الإيمان أعظم الوصل فيما بين المسلمين، وأن الافتراق فيه لا وصلة بعده، ولهذا استعار له النار لأنها ترى من الأمكنة البعيدة، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله «قيدوا القرآن بالدرس فإن له أوابد كأوابد الوحش» فاستعار ذكر الأوابد وهى الحيوانات الوحشية لما فيها من النفار وشدة الشرود لذهاب هذه المحفوظات عن القلب إذا لم تكن راسخة فيه بشدة الدرس لها، ومجازات الأخبار النبوية واسعة الخطو وقد وقفت على المجازات النبوية للسيد الشريف على بن ناصر، ولقد أتى فيها بالعجب العجاب ولباب الألباب، وفى كلامه دلالة على ما اختص به من الفضل والإحاطة بالبلاغة وتبحره فى علومها.
النوع الثالث فى الاستعارة المأخوذة من كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه
، فمن بليغها وأغربها قوله عليه السلام «وايم الله لأقودن الظالم بخزامة حتى أورده منهل الحق وإن كان كارها» فانظر إلى هذه النكتة من كلامه ما أعظم موقعها فى الدين، وأرضاها لله وأشجاها فى حلوق الظلمة، وأرسخ قدمها فى البلاغة، وقد اشتملت على استعارات ثلاثة، الخزامة، والانقياد، والمنهل، وما أعجب توشحها فى قالب نظمها وحسن سياقها، فإنه لما ذكر الانقياد عقبه بما يلائمه من الخزامة، ولما ذكر الورود عقبه بما يناسبه من المنهل، وهذا هو سر التوشيح، وحقيقة جوهره، ومن أرق الاستعارة وألطفها ما قاله عليه السلام: يشير به إلى نفسه وأولاده من بعده «نحن الشعار والخزنة والأبواب، لا تؤتى البيوت إلا من أبوابها، فمن أتاها من غير بابها سمى سارقا» .
فتفكر فى هذه الكلمات القصيرة وما اشتملت عليه من المعانى وانطوت عليه من الأسرار والرموز فى فضل أهل البيت وعلو درجتهم عند الله تعالى ومكانتهم من الشرف
بالرسول صلى الله عليه وسلم، وقرب مكانهم منه، وتحتوى على استعارات خمسة، فاستعار الشعار ليدل به على الاختصاص بالرسول، والملاصقة له فى حسبه، واستعار الخزنة ليدل به على أنهم الحافظون لعلوم الشريعة والمهيمنون عليها، واستعار الأبواب ليدل به على أنه لا توجد الفضائل فى العلوم إلا من جهتهم، وأنهم بمنزلة الأبواب لها، واستعار قوله لا تؤتى البيوت إلا من أبوابها، دالا به على أن أخذها من جهة غيرهم خلاف العادة المألوفة وعكس للأمر وإبطال لحقيقته، واستعار قوله فمن أتاها من غير بابها كان سارقا، ليدل به على أن كل من أخذها من غيرهم فقد ظلم وتعدى وأساء كالسارق، لأنه أخذ ما لا يملكه فاستعار هذه الألفاظ لما ذكرناه من تلك المعانى، ومن ذلك ما قاله فى معرض التهكم والتوبيخ لبنى أمية إن بنى أمية يفوقوننى بمال الله، والله لئن عشت لهم لأنفضنهم نفض اللحام الوذام التربة» وفى كلام آخر «التراب الوذمة» فاستعار التوفيق للأكل قليلا قليلا، أخذا من فواق الناقة، وهو الحلبة بعد الحلبة، وقوله لأنفضنهم نفض اللحام، استعارة لتفريق شملهم والتنكيل بهم، واللحام، هو القصاب، والوذام هى القطع من الكرش، واحدتها وذمة، والتربة التى تقع على الأرض فإذا نفضها اللحام تناثر التراب منها أسرع ما يكون وأقصاه عنها، فأما قوله عليه السلام: التراب الوذمة، فهو من القلب الذى قد رقى فى غايتى الفصاحة والبلاغة، وهذه الاستعارة دالة على أنه مبالغ فى قطع الدابر منهم، واستئصال الشأفة بالتفريق لجموعهم، والإهانة لقدرهم، ولله در أمير المؤمنين ما أصلب قناته فى الدين، وأشد غضبه فى الله، وأعظم عداوته لأعدائه.
ومن ذلك كتابه إلى ابن عباس وهو عامله بالبصرة اعلم أن البصرة مهبط إبليس ومغرس الفتن فحادث أهلها بالإحسان إليهم، واحلل عقدة الخوف عن قلوبهم. وقد بلغنى تنمرك على بنى تميم وغلظتك عليهم، وإن بنى تميم لم يغب منهم نجم إلا طلع لهم آخر. فالمهبط، والمغرس استعارتان بليغتان لموضع البدع والشرور ومخالفة أمر الله تعالى، وإثارة الفتن، ومعصية إمام الحق، وقوله فحادث أهلها بالإحسان إليهم، استعارة، وقوله واحلل عقدة الخوف عن قلوبهم، استعارة أخرى للأنس لهم وتقرير خواطرهم. وقوله وقد بلغنى تنمرك على بنى تميم، استعارة للوحشة وشراسة الأخلاق. وقوله وغلظتك عليهم، استعارة أيضا للإعراض وضيق النفس عليهم، وقوله وإن بنى تميم لم يغب منهم نجم إلا طلع لهم آخر، استعارة لبقاء الرئاسة فيهم، وأنه لا يزال فيهم من فى حياته نفع للإسلام وعز وكهف.