الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النكتة الخامسة
قوله تعالى: فَكَرِهْتُمُوهُ
وإنما عقبه بالإخبار عما هذا حاله. فهو مكروه، لأن العقول مشيرة إلى ما اختص بخصلة من هذه الخصال. فهو فى غاية الكراهة، فضلا عما إذا كان جامعا لها يكون لا محالة أدخل فى الاستكراه، فلهذا أخبر عنه بكونه مكروها.
النكتة السادسة
أن الله تعالى صدر هذه الآية بالمحبة، وختمها بذكر الكراهة، وإنما فعل ذلك تنبيها على كونها محتوشة بطرفين نقيضين، متضادين، فلأجل تمكنها فى القلوب وميل الخواطر إلى ملابستها وفعلها، فهى محبوبة، ولأجل كونها بمنزلة أكل لحوم الإخوة الأموات مكروهة، فلا جرم صدرها وختمها بما ذكرناه تنبيها على المعنى الذى أشرنا إليه.
النكتة السابعة
تلتفت إلى مفردات ألفاظ الآية، وذلك أن الله تعالى آثر ألفاظها على ما يماثلها فى تأدية معناها، تعويلا على البلاغة وإعطاء لجانب الفصاحة ما يستحقه، فنزل هذه الآية على هذه الهيئة، ولم يقل فيها: أيريد رجل منكم أن يمضغ جلد مسلم غائبا فعفتموه، وما ذاك 7 لا لأن كل واحدة من ألفاظ الآية مختص بفضل بلاغة، ونوع فصاحة لا يكون مثله، كما أشرنا إليه، ومن ذلك قوله تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ
ثم قال: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ
إلى قوله: فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ
[الرعد: 17] فهذه الآية لها تقريران:
التقرير الأول من جهة ظاهرها، وهو أن الله أخبر أنه أنزل المطر من السماء فسالت الأودية والشعاب بقدر ما أنزل فيها منه، من الكثرة والقلة، فاحتمل السيل لأجل ما اختص به من الحركة، والانحدار والجرى زبدا رابيا يعلو على ظهر الماء، ومما توقدون عليه فى النار، أى مما يحتاج إلى الإخلاص من هذه الأحجار المعدنية التى فى إخلاصها واجتماعها إلى النار ابتغاء حلية كالذهبيات والفضيات أو متاع، كالحديد، والرصاص، والنحاس، زبد مثله، يعنى أن هذه المعادن فى أصلها كالزبد، يشير إلى أن ابتداء خلقتها كذلك، إلا أنها صارت هكذا بالإخلاص، ليكون أدخل فى الحكمة، وأظهر فى كمال القدرة. «كذلك» أى مثل ما ذكرناه، من السيل والزبد، والإشارة بقوله «ذا» إلى المذكور
أولا. «يضرب الله الحق والباطل» يريد أن الحق مشابهته للسيل من جهة صفائه وركوده، وكثرة الانتفاع به، وأن الباطل يشبه الزبد، فى خفته وجفافه، وطيرانه، بهبوب الريح، وقلة الجدوى فيه، وقد أشار تعالى إلى ما ذكرناه من حالهما بقوله:«فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض» فهذا ما تقتضيه الآية من جهة ظاهرها، وهو السابق إلى الأفهام، وأما قوله تعالى: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ
فهى جملة معترضة بين المثال، والممثول فى السيل، والزبد، للحق والباطل.
التقرير الثانى: من جهة الكناية، وهو أن يكون قد كنى بقوله «ماء» عن العلم، وبالأودية عن القلوب، وبالزبد عن الضلال، وهذه الآية قد ذكرها الشيخ أبو حامد الغزالى فى كتابه الذى لقبه بجواهر القرآن ودرره، وأشار فيها إلى أن فى القرآن إشارات وإيماءات لا تنكشف إلا بعد الموت فنقول: المعتمد فيما يقبل من التأويل، وما يعول عليه من ذلك، هو أن ما كان من المعانى محتملا لحقيقة اللفظ أو لمجازه، فهو مقبول يعول عليه، وما كان من التأويلات لا يحتمله اللفظ من جهة حقيقته، ولا مجازه فهو مردود على قائله، فهذا هو الأصل والقاعدة فيما ذكرناه، ولو ساغ تأويل القرآن على ما لا يحتمله اللفظ مجازا ولا حقيقة، لساغ للباطنية ما يزعمونه، من تأويل العصا بالحجة، والثعبان بالبرهان، فى قوله تعالى: فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ
[الأعراف: 107] والمراد بالأنهار العلم فى قوله تعالى: وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى
[محمد: 15] إلى غير ذلك من التأويلات المستهجنة، وهذا يفتح علينا بابا من علم التأويل ويحرك قطبا من مسائله استقصاؤها يخرجنا عن مقصد الكتاب، وقد ذكرنا منه طرفا أودعناه كتاب المشكاة فى الرد على الباطنية، فالتأويل فى الآية إن استعمل مجازا وإن بعد وكان غريبا قبلناه، وإن لم يكن مستعملا فى المجاز رددناه؛ حراسة للتنزيل عن التأويلات الركيكة، وصونا لمعانيه عن المحتملات الرديئة الفاسدة. فأما الشيخ أبو حامد الغزالى رحمه الله فإنه إن أتى بغريب من التأويل وبعيده فلأنه لا وطأة له فى علم البيان، وإخاله لم يتغلغل فى كنه أسراره، ولا خاض فى غمرات بحاره، ومن ذلك قوله تعالى: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها
[الأحزاب: 27] فظاهر الآية دال على أن الأرض هى العقارات، والديار هى المساكن، والأموال هى المنقولات، وقوله: وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها
يحتمل أن يكون كناية عن فروج النساء ونكاحهن، وهذا من جيد الكناية ونادرها، لمطابقتها لقوله تعالى: نِساؤُكُمْ