الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التقسيم الثالث باعتبار حكمها إلى حسنة وقبيحة
اعلم أن الاستعارة إنما يظهر حسنها إذا عريت عن أداة التشبيه، وكلما ازداد التشبيه خفاء ازدادت حسنا ورشاقة، وكانت متضمنة للبلاغة مع الإيجاز، وجودة النظم وحسن السياق، والقبيح منها ما خالف ما ذكرناه من هذه الاعتبارات.
فأما الاستعارة الرائقة فكقوله تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا
[طه: 131] فانظر إلى استعارة مد العين لإحراز محاسن الدنيا والشغف بحبها، والتهالك فى جمع حطامها، والشح بما ظفر به منها وبين المد للعين، وهذه الأشياء، من الملائمة، والتناسب ما لا يخفى على أهل الكياسة، وهكذا قوله تعالى: زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا
فاستعار الزهرة لما يظهر من زينة الدنيا ورونقها، وإدراك لذاتها كالزهر إذا تفتح وأعجبت غضارته وحسن بهجته ومن أعظمها إعجابا قوله صلى الله عليه وسلم فى وصف القرآن «من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار» فاستعار الأمام، والخلف للعمل بأحكامه والإعراض عنها ثم جعل الانقياد إلى الأمور المحبوبة وصير السوق إلى الأمور المكروهة، ومما يشير إلى هذا المعنى قول أمير المؤمنين «تخففوا تلحقوا» وقوله:«فإن السبقة الجنة، وإن الغاية النار» فقوله تخففوا تلحقوا، من الكلام الذى لا تنال له غاية، ولا يدرك له حد ولا نهاية، ثم إنه جعل السبقة، لما يراد ويجب، وجعل الغاية لما يكره ويعرض عنه. ومن جيدها قوله:
ولما قضينا من منى كل حاجة
…
ومسح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
…
وسالت بأعناق المطى الأباطح
والغرض بهذا هو أن الإبل سارت سيرا شديدا فى سرعة مع اختصاصه بلين وسلاسة، حتى كأنها سيول وقعت فى الأباطح فجرت.
ومن غريبها ما قاله بعض الشعراء:
قوم إذا لبسوا الدروع حسبتها
…
سحبا مزررة على أقمار
لو أشرعوا أيمانهم من طولها
…
طعنوا بها عوض القنا الخطار
ودحوا فويق الأرض أرضا من دم
…
ثم انثنوا فبنوا سماء غبار
فهذا وما شاكله من أحسن الاستعارات وأرقها، وقال بعضهم يرثى ولدا له:
إن تحتقر صغرا فرب مفخم
…
يبدو ضئيل الشخص للنظار
إن الكواكب فى علو مكانها
…
لترى صغارا وهى غير صغار
فهكذا يكون حال الاستعارة الحسنة. فأما الاستعارة القبيحة فهى كل ما كان لا مناسبة بينها وبين المستعار له فيقبح لأجل ذلك، وهذا كقول أبى نواس:
بح صوت المال مما
…
منك يشكو ويصيح
فهذا وأمثاله من الاستعارة الركيكة النازلة القدر فى البلاغة، ومراده من هذا هو أن المال يتظلم من إهانته له بالتمزيق بالإعطاء فالمعنى جيد، والعبارة قبيحة لا تلوح فيها مخايل البلاغة بحال. ومنه قوله أيضا:
ما لرجل المال أضحت
…
تشتكى منها الكلالا
فهذا أيضا أرك من الأول وأنزل قدرا وأسخف. وما أعجب ما قاله مسلم بن الوليد فى هذا المعنى:
تظلّم المال والأعداء من يده
…
لا زال للمال والأعداء ظلاما
فالمقصود من هذا له ولأبى نواس واحد، ولكنه فاق عليه بجودة الانتظام وحسن السبك، فكان بليغا فصيحا. ومن ضعيف الاستعارة قول أبى تمام:
بلوناك أما كعب عرضك فى العلى
…
فعال وأما خد مالك أسفل
فمراده من هذا أن عرضك مصون ومالك مبتذل، لكنه أخرجه أقبح مخرج، وساقه سياقا مستكرها، فانظر إلى قوله كعب عرضك، وخذ مالك، ما أبعده عن طرق البلاغة وأسخف قدره فيها. ومما نزل قدره قول بعضهم:
(أيا من رمى قلبى بسهم فأولجا)
فقوله فأولجا من الاستعارات النازلة وهكذا لو قال فأدخلا، ولو قال بدله فأقصدا أو فأنفذا، لكان له موقع حسن فى الاستعارة. فهذه الأمور «إذن» تعرف بالذهن الصافى، ويحكم فيها الذوق المعتدل. وفى ما ذكرناه كفاية فى التنبيه على ما أردنا من ذلك على غيره.