الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بحقيقة الآساد، وأما ثالثا فلقوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً
[الزخرف: 19] فظاهر الآية مشعر بأنهم أثبتوا للملائكة صفة الأنوثة، فلأجل هذا الاعتقاد سموهم باسم الإناث، وليس الغرض إطلاق اسم البنات عليهم من غير اعتقاد معنى الأنوثة، ولهذا قال تعالى: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ
[الزخرف: 19] فلو لم يعتقدوا الأنوثة لكان لا وجه للمبالغة فى التنكير عليهم فى ذلك، وظهر بما لخصناه أن المبالغة فى الاستعارة بإثبات المعنى أولا ثم يتلوه اللفظ فى الاستعارة كما حققناه.
الحكم الثانى فى المجاز بالاستعارة هل يكون عقليا أو لغويا
اعلم أن المجاز فى الاستعارة يرد على نوعين، النوع الأول منها مركب وهذا كقولنا أحيانى اكتحالى بطلعتك، وقوله:
أشاب الصغير وأفنى الكبير
…
كر الغداة ومر العشى
فإسناد الإشابة والإفناء إلى الكر والمر إنما كان على جهة التجوز بالاستعارة، والحقيقة فيه هو الإضافة إلى الله تعالى لأنه فى الحقيقة هو الفاعل لذلك فإسناده إلى قدرة الله تعالى هو حكم ذاتى، لا من جهة وضع واضع، فإذا أسندناه إلى غيره، فقد نقلناه عما كان مستحقا له لذاته فى الأصل، وعلى هذا يكون التصرف عقليا، فهذا هو مراد علماء البيان بكون المجاز المركب عقليا، فما هذا حاله من الاستعارة لا يختلفون فى تسميته مجازا عقليا، على التقرير الذى لخصناه، هذا تقرير كلام الناظر من أهل هذه الصناعة، والمختار أن المجاز لا مدخل له فى الأحكام العقلية، ولا وجه لتسمية المجاز بكونه عقليا، لأن ما هذا حاله إنما يتعلق بالأوضاع اللغوية دون الأحكام العقلية، وإذا كان الأمر كما حققناه من تعذر المجاز فى العقل فنقول: إن صيغة «أشاب وأفنى» موضوعتان للإسناد إلى الفاعل المختار القادر، فإذا وجدناهما على الإسناد إلى غيره نحو «كر الغداة ومر العشى» عرفنا بذلك أنهما قد استعملا فى غير موضوعهما الأصلى اللغوى، وعلى هذا التقرير يكون المجاز المركب لغويا حيث وقع من غير حاجة إلى كونه عقليا.
(النوع الثانى) مفرد وهذا كقولنا: لقيت أسدا، وجاءنى أسد، فما هذا حاله من الاستعارات قد وقع فيه خلاف، وتردد فيه نظر الشيخ عبد القاهر الجرجانى، وله فيه اختياران.
(الاختيار الأول) نصره فى أسرار البلاغة، وهو أن ما هذا حاله من المجاز يكون مجازا لغويا، وحجته على ذلك هو أنا إذا أجرينا اسم الأسد على الرجل الشجاع فإنما نجريه بطريق التأويل، فلأجل هذا كان ما ذكرناه استعمالا للأسد فى غير موضوعه، ويؤيد ما ذكرناه ويزيده وضوحا هو أنا إذا أطلقنا على الرجل اسم الأسد فإنما كان ذلك الإطلاق من أجل اختصاصه بالشجاعة، ولا ندعى للرجل صورة الأسد وشكله وهيئته وتأليفه، واسم الأسد ليس موضوعا على معنى الشجاعة وحدها، بل هو موضوع على تمام هذه الهيئة وكمالها، فإذا أجرينا عليه اسم الأسد تبعا لثبوت صفة الشجاعة، فقد سلبنا عن الصيغة بعض ما كان مندرجا تحتها فى أصل وضعها من الشكل والهيئة وتدوير الوجه، وعرض المقادم، ودقة المآخير فيكون نقلا لها عما وضعت له فى الأصل.
(الاختيار الثانى) نصره فى دلائل الإعجاز، وتقرير كلامه: أنه قد كثر كلام الناس فى أن الاستعارة لفظة منقولة عن موضوعها الأصلى، وهو خطأ، وبيانه أنك لا تطلق لفظ الأسد على الرجل إلا بعد أن تعتقد أنه بصفة الأسد وشكله وهيئته، وتتصوره بجميع صفاته، فلما كان الأمر كما قلناه فأنت لم تنقل لفظة الأسد عما كانت موضوعة له فى الأصل. لأنك إنما تكون ناقلا لها إذا لم تقصد معناها الأصلى، فأما إذا كنت قاصدا له فلا وجه لكونها منقولة، فلأجل هذا قضينا بكون هذا المجاز عقليا، فهذا تقرير كلامه ههنا، وإلى كون هذا المجاز عقليا ذهب ابن الخطيب الرازى، واختار ما قرره عبد القاهر فى دلائل الإعجاز، والمختار عندنا ما نصره فى أسرار البلاغة من كونه لغويا، ومعتمدنا فى ذلك أمران، أحدهما أن القائل إذا قال لقينى الأسد، وجاءنى الأسد، فالسابق إلى الفهم من هذا هو أنه جاءه رجل بالغ فى الشجاعة كل مبلغ ليس فوقها رتبة لأنه شاكل الأسد فى شجاعته لا غير، وليس الغرض حصوله على هيئة الأسد، فى تدوير الهامة، وحدة الأنياب، وطول البراثن، إلى غير ذلك من الصفات، وإنما الغرض إحراز وصف الشجاعة دون غيره من الصفات.
وثانيهما أنه لو كان الغرض من إطلاق لفظ الأسد أنه لابد من إحراز جميع أوصافه ومعانيه، لكان إذا جردنا الاستعارة فقلنا جاءنى أسد يضحك، ورأيت أسدا له عقل