الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأنها جارية على نعت التذليل ومنهاج التسخير المطابقين لقانون المصلحة ومقتضى الحكمة، عقبها بخطاب دال على الإشادة والاشتهار، بأن من هذه حاله فهو المستحق لأن يكون له الخلق، والأمر مبالغة فى الأمر وتأكيدا فيه.
التنبيه السابع
قوله تعالى: تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ
[الأعراف: 54] ختم هذه الآية بما يدل على الإعظام والمدح بعظم الآء، وتراكم النعم على الخلق، والبركة هى النماء والزيادة، وتَبارَكَ اللَّهُ
بمعنى بارك الله، والبركة فى حقه تعالى تكون من وجهين:
أحدهما: بالإضافة إلى ذاته تعالى بكثرة أوصاف الجلال ونعوت الكمال. إما إلى نهاية، وإما إلى غير نهاية، على حسب الخلاف بين العلماء فى أوصافه تعالى.
وثانيهما: بالإضافة إلى أفعاله تعالى من أنواع الإحسانات وضروب التفضلات على الخلق من أصول النعم وفروعها، فالبركة ههنا تفسر على الوجهين اللذين أشرنا إليهما كما ترى، وقد صدر الله تعالى هذه الآية بذكر الربوبية، ثم ختمها بذكرها إعظاما لهذه الصفة واهتماما بأمرها، فذكرها فى أولها على جهة الخصوص بقوله: رَبَّكُمُ
يعنى الثقلين وذكرها فى آخرها على وجه العموم بقوله: اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ
يريد جميع العوالم كلها من صامت، وناطق، وجماد، وحيوان.
فليدرك الناظر المتأمل ما اشتملت عليه هذه الآية من الإشارة إلى خلق المكونات كلها، واشتمالها على بدائع الحكمة، وعجيب الصنعة على أعجب نظام وأرشقه، وأحسن سياق وأعجبه، وقد أشرنا فيها إلى بعض ما تحتمله من اللطائف والأسرار وما أغفلناه من معانيها أكثر وأغزر مما ذكرناه.
الآية الثانية: قوله تعالى فى سورة الحج يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ
الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ
[الحج: 5- 7] .
فليوقظ الناظر فهمه، وليتأمل ما أودع فى هذه الآية من المحاسن الرائقة والمعانى الفائقة مع اختصاصها بالترتيب الفائق وتنزيلها على النظام المعجب الرائق الذى يسحر الألباب رقة ولطافة. ويدهش الأفهام عذوبة وسلاسة، فصدر الآية بالنداء، والتنبيه، من أجل الإيقاظ، وجاء بصيغة الشرط على جهة الملاطفة فى الخطاب، وحقق اعتراض الريب والشك فى الأفئدة ليدفعه بالبرهان الواضح الجلى وضمنها برهانين.
البرهان الأول منها عجيب خلقة الإنسان وتنقلها فى هذه الأطوار السبعة، ترابا، ثم نطفة فى الرحم، ثم علقة، ثم مضغة، ثم الطفولة، ثم الكهولة، ثم الشيخوخة والهرم، فقد أشار بهذا التدريج إلى عجيب القدرة، وإلى دقيق الحكمة على اختلاف هذه الأطوار، وتباين هذه المراتب فى الخلقة، ودلالتها، من وجهين، أحدهما أن كل من قدر على إحداث هذه الأمور وإبداعها من غير شىء فهو قادر لا محالة على إعادتها، لأن الإعادة مثل الإيجاد، ومن قدر على الشىء قدر على مثله لا محالة.
وثانيهما: أن الابتداء إيجاد من غير احتذاء على مثال سابق، والإعادة إيجاد مع سبق الاحتذاء، فمن هو قادر على الابتداء كان أولى أن يكون قادرا على الإعادة بطريق الأحق، ولهذا قال تعالى منبها على ذلك بقوله وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ
يشير إلى ما قلناه.
البرهان الثانى حال الأرض بكونها جرزا ثم بإنزال الماء عليها، ثم بحصول هذه الأزواج النباتية المختلفة، واهتزازها بالأزهار الغضة والأكمام المنفتحة، بحيث لا يمكن حصرها ولا يتناهى عدها، فهذان برهانان قد اشتملا على ما عدد الله تعالى فيهما من عجائب القدرة، وإتقانات الحكمة، وساقها على هذا النظام البديع، والاختصار المعجز البليغ الذى يفحم كل ناطق، ويروق كل سامع، ثم إنه عز سلطانه، لما فرغ من نظم هذه البراهين الباهرة وترتيب هذه الأدلة القاهرة، عقبها بذكر ثمرتها، وتقرير مدلولها، وإنتاج فائدتها فقال ذلِكَ
يشير به إلى ما سبق من تقدير الأدلة وانتظامها: بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُ
يعنى الموجود الثابت، يشير به إلى أنه موجد المكونات كلها المحصل لحقائقها وصفاتها نحو خلقة الإنسان وأحوال الأرض، وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى
يشير به إما إلى إحياء النفوس بعد أن كانت ترابا ونطفا، وعلقا ومضغا، فى هذه الأطوار وإما إلى إحيآء الأرض بعد
أن كانت جرزا هامدة، يطير ترابها، فصارت مخضرة مونقة وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
[الحج: 6] على جميع الممكنات، فلا يشذ عن قدرته شىء من كلياتها، ولا شىء من جزئياتها، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ
[الحج: 7] يشير به إلى أحوال البعث، والحشر، والنشر، وأمور القيامة، فقد اشتملت هذه الآية على المعانى الجمة، والنكت الغزيرة، ولو ذهبنا نستقصى ما تضمنته من الأسرار الإلهية والدقائق المصلحية، لسردنا أوراقا، ولم نحرز منه أطرافا، ومن عجيب سياقها وحلاوة طعمها ومذاقها، اشتمالها على المجازات المفردة، والمركبة.
فأما المجازات المركبة فهى مواضع أربعة، ففى الأرض ثلاثة فى قوله: اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ
فإسناد هذه الأفعال إلى الأرض إنما كان على جهة المجاز، والفاعل لها هو الله تعالى، وفى وصف الساعة مجاز واحد فى قوله تعالى: وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ
لأن الآتى بها هو الله تعالى.
وأما المجازات المفردة فأكثر سياق الآية مشتمل عليه كقوله تعالى: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ
فالفاء للسببية وليست سببا فى ثبوت البعث، وإنما هو وارد على جهة المجاز، وقوله تعالى: خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ
فإنه ليس على حقيقة العموم فإن المخلوق من تراب، إنما هو «آدم» لا غير، وقوله: ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ
ليس على عمومه، فعيسى عليه السلام وحواء ليسا مخلوقين من نطفة، وهكذا سائر ألفاظ الآية، فإنها غير خالية عن استعمال المجازات، ومن أجل هذا رق مشربها، وساغ مستعذبها.
الآية الثالثة، قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34)
[الشورى: 34] .
فانظر إلى هذا الأسلوب، ما ألطف مجراه، وما أحسن بلاغته، وأدق مغزاه، قدم الخبر فى قوله وَمِنْ آياتِهِ
ولو أخره ذهبت تلك الحلاوة، وبطل ما فيه من الرونق.
وانظر إلى طرح الموصوف فى قوله الْجَوارِ
ولم يقل الفلك الجوارى، وجمعه على فواعل، ولم يجمعه على جاريات، ولو فعل شيئا من ذلك لنقصت بلاغته، ونزلت فصاحته، وقال فِي الْبَحْرِ
ولم يقل فى العبب، ولا فى الباحة، ولا فى الطمطام، وهى من أسماء البحر، لما فى لفظة البحر، من الرقة واللطافة وقوله كَالْأَعْلامِ
من باب تشبيه
المحسوس بالمحسوس كقوله كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ
[الصافات: 49] وقوله تعالى:
كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ
[الرحمن: 58] والأعلام جمع علم، والعلم يطلق على الجبل، وعلى الراية، وكل واحد منهما صالح للتشبيه ههنا، لأن المقصود هو الظهور والبيان، ومن بديع التشبيه ورقيقه ما أنشده بعض الأذكياء.
وكأن أجرام السماء لوامعا
…
درر نثرن على بساط أزرق «1»
وقول بشار:
كأن مثار النقع فوق رءوسنا
…
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه «2»
إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ
حذف الفاء من قوله إِنْ
لأن الغرض اتصال هذه الجملة بما قبلها كأنهما أفرغا فى قالب واحد وسبكا معا، ولو جاءت الفاء لأبطلت هذا السبك، وحصلت المغايرة بينهما، وزيدت الفاء فى فَيَظْلَلْنَ
دلالة على حصول الركود عقيب الإسكان، ولو حذفت زال هذا المعنى وبطل، وهو مقصود، وجاء بإن فى قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ
من غير ذكر الفاء دالا على اتصال هذه الجملة بما قبلها مندرجة تحتها لا تباين بينهما، ومجىء الفاء دليل الانفصال فيبطله ونظيره قوله تعالى: اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ
[الحج: 1] وقوله: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ
[يونس: 55] وغير ذلك وإذا أريد التقاطع بين الجملتين جاءت الفاء كقوله تعالى: وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ
[هود: 115] وقوله تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا
[الطور: 48] إلى غير ذلك، وجاء بأو فى قوله أَوْ يُوبِقْهُنَ
دلالة على التخيير، لأن المعنى إن نشأ نبتل المسافرين بأحد بليتين، إما ركود السفن على ظهر الماء لأجل سكون الريح، وإما باشتداد العصف فى الريح، فيحصل الإهلاك لهن، وجاء بالواو فى وَيَعْفُ
دون «أو» دلالة على سعة الرحمة بالعفو عن كثير من الذنوب.
فانظر ما أحسن موقع «أو» هناك وما أعجب موقع «الواو» هنا، ولنقتصر على ما ذكرناه من الآى القرآنية، فإنه لا مطمع لأحد فى حصر عجائب القرآن ولطائف أسراره، فإن فى بحره غرقت عقول العقلاء، وتضاءلت دون الإحاطة بمعانيه أفكار الحكماء.