الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا فى تنور أهلك لكان خيرا لك، فذهب الرجل فألقاه فى التنور، فاحترق، ولم يرد عبد الله احتراقه وإنما أراد المجاز، وهو أنه لو باعه وصرف قيمته إلى دقيق يخبزه فى التنور أو حطب يلقيه فيها لكان خيرا له، وهذا الكلام حكاه ابن الأثير عن عبد الله بن سلام، وهو مأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم، بمعناه فى سنن أبى داود. ويمكن أن نقول: ما نقله عبد الله بن سلام هو من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن هذا قولهم «فلان يقدم رجلا ويؤخر أخرى» جعلوه كناية عمن يتحير فى أمره، فلا يدرى كيف يورده ويصدره، وقوله «مازال يفتل فى الذروة والغارب» يجعلونه كناية عمن يريد التلطف والاحتيال فى المساعدة إلى ما يقصده ويريده، وقولهم «فلان ينفخ فى غيره ضرم» جعلوه كناية عمن يفعل فعلا لا يجدى عليه بفائدة، ولا يعود عليه بنفع، لأن النفخ فى غير ضرم لا يورى نارا، ومن هذا قولهم «فلان يخط على الماء» يكون هذا كناية عمن يفعل فعلا يكون عدمه كوجوده بالإضافة إلى عدم الفائدة. لأن الخط على الماء يذهب فى أسرع شىء وأقربه، والكنايات كثيرة فى كلام العرب، وأمثالها، وفيما ذكرناه غنية وكفاية، وبالله التوفيق.
واعلم أن هذه الأمثلة التى أسلفناها من الكنايات من الكتاب، والسنة، وكلام أمير المؤمنين فى الكناية، فإنها واضحة فى الاستعارة وضوحا كليا، واحتمالها للكناية بعيد يحتاج إلى تكلف، والمقصود وهو معرفة الأمثلة وإيضاح المقصود بها، فإن هى صلحت حصل المقصود، وإن كانت غير صالحة للتمثيل طلب غيرها ولم يكن خللها يخل بالحقيقة المطلوبة.
النوع الخامس فيما ورد من الكنايات الشعرية
فمن ذلك قول أبى الطيب المتنبى فى مدح سيف الدولة:
وشر ما قنصته راحتى قنص
…
شهب البزاة سواء فيه والرخم
فكنى بالبزاة عن سيف الدولة، وبالرخم عن غيره، وأنه يستوى فيه المال هو وغيره، ومن ذلك قول الأقيشر الأسدى:
ولقد أروح بمشرف ذى ميعة
…
عسر المكرة ماؤه يتفصد
مرح يطير من المراح لعابه
…
ويكاد جلد إهابه يتقدد
وكان عنّينا لا رغبة له فى النساء، وكان كثيرا ما يصف ذلك من نفسه، فهذان البيتان جعلهما كناية، فهما كما ترى دالان بحقيقتهما على شىء، وبمجازهما على غيره، وهذه هى فائدة الكناية. وحكى ابن الأثير أن سعيد بن عبد الرحمن وفد على هشام بن عبد الملك، وكان جميل الوجه، فراوده عبد الصمد على نفسه، فدخل على هشام مغضبا وهو يقول:
أما والله لولا أنت لم
…
ينج منى سالما عبد الصمد
فقال هشام، ولم ذاك؟ فقال:
إنه قد رام منى خطة
…
لم يرمها قبله منى أحد
فقال له هشام، وما هى؟ فقال:
رام جهلا بى وجهلا بأبى
…
يدخل الأفعى إلى خيس الأسد
قال فضحك هشام، وقال: لو فعلت به شيئا لم أنكره عليك، ومما أنشده ابن الأثير فى الكناية وقال من لطيفها وعجيبها لأبى نواس فى الهجاء:
إذا ما كنت جار أبى حسين
…
فنم ويداك فى طرف السلاح
فإن له نساء سارقات
…
إذا ما بتن أطراف الرماح
سرقن وقد نزلن عليه أيرى
…
فلم أظفر به حتى الصباح
فجاء وقد تخدش جانباه
…
يئن إلى من ألم الجراح
فجعل قوله «أطراف الرماح» كناية عن العضو المشار إليه، وهذه عبارة فى غاية اللطافة، والحسن والرشاقة، ومن جيد الكناية وبديعها ما قاله الفرزدق يرثى امرأته:
وجفن سلاح قد رزئت فلم أنح
…
عليه ولم أبعث عليه البواكيا
وفى جوفه من دارم ذو حفيظة
…
لو ان المنايا أمهلته لياليا
وقد قيل: إنه ما كنى عن امرأة ماتت بأحسن من هذه الكناية، وإنها لجيدة فى معناها، فائقة فى مقصودها ومغزاها، ومما حسن موقعه فى الكناية قول الشريف الرضى:
أحن إلى ما يضمن الخمر والحلى
…
وأصدف عما فى ضمان المآزر
ومن ذلك ما قاله أبو تمام فى الاستعطاف:
ما لى رأيت ترابكم يبس الثرى
…
ما لى أرى أطوادكم تتهدم
فجعل يبس الثرى، كناية عن تنكر ذات البين، يقال يبس الثرى بينى وبين فلان، إذا تنكر الود الذى بينك وبينه، وهكذا تهدم الأطواد فإنه كناية، إما عن موت الرؤساء، وإما عن خفة الحلوم وطيش العقول، ومن ذلك قول أبى نواس يكنى به عن امرأة:
تحاول أن يقوم أبو زياد
…
ودون قيامه شيب الغراب
أتت بجرابها تكتال فيه
…
فعادت وهى فارغة الجراب
فقوله: «أتت بجرابها تكتال فيه» من الكناية اللطيفة، ومن هذا قول زياد الأعجم:
إن السماحة والمروءة والندى
…
فى قبة نصبت على ابن الحشرج
فأراد أن يقول: إن السماحة والمروءة والندى مجموعة فيه، أو مقصورة عليه، أو مختصة به، لكنه عدل إلى ما هو أرق من ذلك، وأدخل فى الإعجاب والمدح، فجعلها فى «قبة» وكنى به عن كونه فيها وأنه متمكن فى الندى، منسدل عليه كالقبة المضروبة على كل ما تحويه، ومن ذلك ما قاله بعض الأذكياء فى الكناية:
وما يك فى من عيب فإنى
…
جبان الكلب مهزول الفصيل
فكنى عن كرم نفسه، وكثرة قراه للضيفان، بجبن الكلب، وهزال الفصيل، ولو صرح لقال: إن جنابى مأهول، وكلبى مؤدب، لا ينكر الضيف، ولا يهر فى وجوههم، وإنى أنحر النوق، فأدع فصالها هزلى، ومن ذلك ما قاله بعض الشعراء:
يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلا
…
يكلمه من حبه وهو أعجم
وهكذا ورد قول أبى نواس:
فما جازه جود ولا حل دونه
…
ولكن يصير الجود حيث يصير
فتوصل إلى إثبات الصفة للممدوح، بإثباتها فى مكانه، وإلى لزومها له، بلزومه الموضع الذى يحله. ومن هذا قول حسان بن ثابت:
بنى المجد بيتا فاستقرت عماده
…
علينا فأعيا الناس أن يتحولا
وقول البحترى:
ظللنا نعود المجد من وعكك الذى
…
وجدت وقلنا اعتل عضو من المجد
فكنى باعتلال عضو منه، عن اعتلال عضو من المجد، ومن هذا ما قاله البحترى أيضا:
أو ما رأيت المجد ألقى رحله
…
فى آل طلحة ثم لم يتحول
ومن هذا قول أبى تمام:
أبين فما يزرن سوى كريم
…
وحسبك أن يزرن أبا سعيد
وقول الآخر:
متى تخلو تميم من كريم
…
ومسلمة بن عمرو من تميم
ومن الكناية قول بعضهم: يصف امرأة بالعفة:
يبيت بمنجاة من اللوم بيتها
…
إذا ما بيوت للملامة حلت
ومن غريب الكناية وبديعها ما قيل فى أبيات الحماسة:
أبت الروادف والثدى لقمصها
…
مس البطون وأن تمس ظهورا
وإذا الرياح مع العشى تناوحت
…
نبهن حاسدة وهجن غيورا
فكنى عن كبر الأعجاز، ونهود الثدى، بارتفاع القميص عن أن يمس بطنا أو ظهرا، وهذا من عجيب الكناية وغريبها. ومن هذا ما قاله بعض الشعراء:
بعيدة مهوى القرط إما لنوفل
…
أبوها وإما عبد شمس وهاشم
ومن هذا النوع ما قاله بعض المغاربة:
رشا يرنو بنرجسة ويعطو
…
بسوسان ويبسم عن أقاح
يشير إلى قرطاه وتصغى
…
خلاخله إلى نغم الوشاح
ومن غريب الكناية قول بعضهم فى أيام الأسبوع:
سبع رواحل ما ينخن من الونى
…
سنم تساق بسبعة زهر
متواصلات لا الدءوب يملها
…
باق تعاقبها على الدهر
ومن لطيفها قول بعضهم فى حجر المحك:
ومدرع من صبغة الليل برده
…
يفوق طورا بالنضار ويطلس
إذا سألوه عن عويصين أشكلا
…
أجاب بما أعيى الورى وهو أخرس
ولنقتصر على هذا القدر من التنبيه على معانى الكناية، وقد نجز غرضنا من الفصل الثالث الذى جعلناه بيانا للأمثلة وحصرها، فأما ما كان من التلويح، والرمز، والإشارة، فكلها مندرجة تحت ما ذكرناه من حقيقة التعريض لاتفاقها فى الدلالة على مقصود واحد فلا جرم أغنى ذلك عن إفرادها بالذكر، وبالله التوفيق.