الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طريق الاستعارة قلت رأيت أسدا، وإن أردت طريقة التشبيه فإنك تقول زيد كالأسد، وإن جئت بطريق الكناية قلت فلان يكفل الأبطال برمحه، وإن أردت أن تصفه بالكرم، قلت رأيت بحرا على جهة الاستعارة، وهو كالبحر بطريق التشبيه، أو فلان تتراكم أمواجه، بجعله كناية عن جوده وسخائه.
تنبيه
إياك أن يعتريك الوهم، أو يستولى على قلبك غفلة، فتظن أنا لما قلنا إن الألفاظ دالة على المعانى فتعتقد من أجل ذلك أن المعانى تابعة للألفاظ، وأنها مؤسسة عليها، فهذا وأمثاله خيال باطل وتوهم فاسد فإن الألفاظ فى أنفسها هى التابعة للمعانى، وأن المعانى هى السابقة بالتقرير والثبوت، والألفاظ تابعة لها، ولنضرب لما ذكرناه مثالا يصدق ما قلنا فى المفردة منها والمركبة فنقول:
أما المفردة فلأنك إذا رأيت سوادا على بعد فظننته حجرا فإنك تسميه حجرا، وإن دنوت منه قليلا وسبق إلى فهمك أنه شجر فإنك تسميه شجرا، فإذا دنوت منه وتحققت حاله رجلا فإنك تسميه رجلا، فاختلاف هذه الأسامى يدل على اختلاف تلك الحقيقة وما يفهم منها من الصور المدركة.
وأما المركبة فلأنك إذا رأيت رجلا من بعيد ولا تدرى حاله أهو قائم أم قاعد أم مضطجع، فإنك إذا دنوت إليه فعلى حسب ما يسبق إلى فهمك من حالته تصفه بتلك الحالة، ولا يزال الوصف يتغير حتى يستقر الوصف على واحد منها، وهذا يدلك على أن الألفاظ تابعة للمعانى المفردة والمركبة كما أشرنا إليه، ولهذا فإنك تطلق العبارات على وفق ما يقع فى نفسك من الحقائق والمعانى من غير مخالفة.
دقيقة اعلم أن المعانى بالإضافة إلى كيفية حصولها من أهل البلاغة والفصحاء على ثلاث مراتب
.
المرتبة الأولى أن يكون مقتضيها على جهة الابتداء من نفسه من غير أن يكون مقتديا بمن قبله
،
ويكون ذلك على ما يعرض من مشاهدة الحال، وما يعرض من الأمور الحادثة.
ولنورد من ذلك شواهد ما قلنا؟ من ذلك ما أغرب فيه أبو نواس وأبدع حين رأى كأسا من الذهب فيها تصاوير وأمثال، فقال حاكيا لها.
تدار علينا الراح فى عسجدية
…
حبتها بأنواع التصاوير فارس
قراراتها كسرى وفى جنباتها
…
مها تدريها بالقسى الفوارس
فللراح ما زرت عليه جيوبها
…
وللماء ما دارت عليه القلانس
فهذا من المعانى البديعة فإنه أراد أنها مزجت بقليل من الماء حتى صار لقلته بقدر القلانس على رؤوس الكاسات.
قال ابن الأثير وما أعرف ما أقول فى هذا سوى أنى أقول: قد تجاوز أبو نواس حد الإكثار، ومن ذلك ما قاله ابن أبى الشمقمق حين قلد رجل ولاية على الموصل فانكسر لواؤه فتطير بذلك فقال ما قال يقرر خاطره ويؤسيه لما وقع فى نفسه من ذلك وقع عظيم لأجل التطير:
ما كان مندق اللواء بطيره
…
نحسن ولا سوء يكون معجلا
لكن هذا العود أضعف متنه
…
صغر الولاية فاستقل الموصلا
فلقد أجاد فيما ذكره كل الإجادة وأحسن كل الإحسان، ومن ذلك ما قاله بعض المغاربة فى وصف الخمر فأبدع فيه.
ثقلت زجاجات أتينا فرغا
…
حتى إذا ملئت بصرف الراح
خفت فكادت أن تطير بما حوت
…
وكذا الجسوم تخف بالأرواح
فهذا معنى بديع عجيب يفعل بالعقول فى الإعجاب كما تفعل الخمر فى الإسكار، فلهذا قاله على ما شاهد من حالها.
ومن ذلك ما قاله أبو الطيب المتنبى وقد صرعت الخيمة بسيف الدولة فوقعت فتطير بذلك فقال فيها قصيدة يذكر ذلك ويقرر نفسه عن الطيرة فمنها قوله:
وإن لها شرفا باذخا
…
وإن الخيام بها تخجل
فلا تنكرن لها صرعة
…
فمن فرح النفس ما يقتل
وكيف تقوم على راحة
…
كأن البحار لها أنمل
فما اعتمد الله تقويضها
…
ولكن أشار بما تفعل