الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصورة الرابعة ما يرد على جهة الفعل والفاعل
،
ومثاله قوله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ
[الحشر: 9] والتقدير على هذا فى ظهور التشبيه، أن يقال: إنهم فى الحقيقة لما تمكنوا فى الإيمان واطمأنوا أفئدة به، كأنهم فى التقدير اتخذوه مباءة ومسكنا، كما يتخذ الإنسان داره وبيته الذى يسكن فيه ويكاد فى هذا الاستعارة يضعف تقدير أداة التشبيه كما سنقرر مراتب التشبيه فى الظهور والإخفاء بمعونة الله تعالى.
الصورة الخامسة أن يكون واقعا موقع المثل المضروب
،
وهذا كقول الفرزدق يهجو جريرا:
ما ضرّ تغلب وائل أهجوتها
…
أم بلت حيث تناطح البحران
فشبه هجاء جرير تغلب وائل ببوله فى مجتمع البحرين، فما عسى أن يؤثر فيهما شىء، فهكذا هجاؤك هؤلاء القوم لا يؤثر أصلا، فيكاد التشبيه فى ما هذا حاله لا يظهر إلا بتقدير وتلطف واحتيال فى إبرازه، فإذا تمهدت هذه القاعدة فلنذكر مراتب التشبيه فى هذه الصورة، ثم نردفه بموقعها فى المفرد والمركب فهذان طرفان نحقق ما فيهما بمعونة الله تعالى.
الطرف الأول فى بيان مراتب التشبيه فى هذه الصورة
اعلم أن التشبيه المضمر الأداة أبلغ وأوجز من التشبيه الذى ظهرت أداته، أما كونه أبلغ فلأنك إذا قلت: زيد الأسد، فقد جعلته نفس هذه الحقيقة، من غير واسطة، بخلاف قولك زيد كالأسد، فليس يفيد إلا مطلق المشابهة لا غير، وأما كونه أوجز، فلأن أداة التشبيه محذوفة منه، فلهذا كان أخصر من جهة لفظه، وعن هذا قال المحققون من أهل هذه الصناعة: إن الاستعارة أبلغ من التشبيه لما ذكرناه، ولا خلاف فى عد الاستعارة من باب المجاز بخلاف التشبيه، فإنه مختلف فى عده كما أسلفناه، ولأن الاستعارات فى القرآن أكثر من التشبيهات، ومن أجل هذا عظمت بلاغته، وارتفعت فصاحته، فنقول: التشبيه المضمر الأداة هو فى الظاهر يعد من باب الاستعارة، ولكن التشبيه مضمر فيه، ويتفاوت
درجة فى ظهور الأداة وإضمارها، وفى حصول المشبه به وعدم حصوله فمنها ما هو ظاهر متيسر تقديره على سهولة، ومنها ما يتعذر المشبه به، وإنما يتلطف فى تقديره بنوع من الاحتيال والتلطف، ومنها ما هو متوسط بين الدرجتين، فهذه درج ثلاث بالإضافة إلى تقدير المشبه فى الإضمار والإظهار نفصلها بمعونة الله ولطفه.
الدرجة الأولى: ما يكون المشبه به ظاهر التقدير لا يحتاج فى تقديره إلى تكلف، بل يتيسر تقديره على قرب، وهذا كقولنا: زيد الأسد، فإن التقدير فيه زيد كالأسد على سهولة من غير إضمار ولا خروج عن قاعدة، وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم «البدعة شرك الشّرك» لأن التقدير البدعة كالشرك للشرك، يريد مصايد له وأحبولات، ومنه قول أمير المؤمنين كرم الله وجهه فى صفة التقوى «هى دواء داء قلوبكم وبصر عمى أفئدتكم» وقال فى الإسلام:
«هو ينابيع غزرت عيونها، ومصابيح شبت نيرانها، ومنار اقتدى به سفاره، ومناهل روى بها واردها» وقال فى القرآن «هو نور لا تطفأ مصابيحه، وشعاع لا يخبو توقده، وبحر لا يدرك قعره» فهذه الاستعارات كلها من التشبيه المضمر الأداة فيها أداة التشبيه على أسهل حال، وأقرب منال، كما مثلناه فى الصورة الأولى.
الدرجة الثانية فى غاية البعد من الأولى وهى الصورة الرابعة والخامسة وهى أدق الصور فى تقدير التشبيه فيها، فلا يتفطن للتشبيه فيهما إلا باستخراج وتأمل وفكر بالغ، يدرك بنوع من التلطف والاحتيال كما سنوضحه، وما ذاك إلا لأجل توغلها فى حسن الاستعارة وإغراقها فيها، وهذا يدلك على مصداق ما قاله أهل البراعة من أهل هذه الصناعة، من أن التشبيه كلما ازداد خفاء ازدادت الاستعارة حسنا ورشاقة، يشيرون به إلى ما ذكرناه، ومثاله قوله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ
[الحشر: 9] فهذه الاستعارة من أعجب الاستعارات وأدقها، ووجه دخولها فى الحسن، هو أنهم لتمكنهم فى الإيمان وإشراب قلوبهم محبته، والتصاقه بلحومهم ودمائهم، صار كالمباءة لهم والمسكن الذى يتوطنونه، ومع هذا يصعب تقدير التشبيه، ونهاية الأمر فيه أن يقال: إنه صار كالمباءة، وعند تقدير ما ذكرناه من التشبيه يضعف أمر الاستعارة، وينزل قدرها، ويرك أمرها وحالها.
وأما بيت الفرزدق الذى أنشدناه وهو قوله (ماضر تغلب وائل) فهذا البيت من الأبيات التى علا قدرها فى البلاغة وأقر لها الناس بالحسن فى الاستعارة، وما ذاك إلا لإغراقها فى الاستعارة والدخول فيها، فتقدير التشبيه فيها يخرجها عن مكانها الرفيع، ومحلها المنيع،
ونهاية الأمر فى تقدير التشبيه فيها، أن يقال: إن هجاءك لهذه القبيلة لا يؤثر كما أن بولك فى مجتمع البحرين لا يجدى ولا يكون نافعا، وأنت إذا قدرت التشبيه فيما ذكرناه، فقد عزلت هذه الاستعارة عن سلطانها، ووضعتها عن حلولها فى رفيع مكانها، ومن هذا قوله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ
[الإسراء: 24] فإن تقدير التشبيه يخرجه عن رونق الاستعارة ويسلبه منها ثوب الإمارة، ومن هذا قول الفرزدق أيضا:
قوارص تأتينى فيحتقرونها
…
وقد يملأ القطر الإناء فيفعم
شبه ما يأتيه من الشتائم والأذايا بهذه القوارص التى تؤذى الجسم من البعوض، والنمل، والبق، فتقدير التشبيه فيما هذا حاله يدق كما ذكرناه فى غيره. ومنه قول البحترى أيضا فى التعزية بولد:
تعز فإن السيف يمضى وإن وهت
…
حمائله عنه وخلاه قائمه
فما هذه صورته فهو من فن الاستعارة، وإنما يقدر التشبيه فيه بلطف واحتيال، فهاتان الصورتان الأحق بهما أنهما من باب الاستعارة كليهما، ولا حاجة بنا إلى جعلهما من باب التشبيه، فمن صيرهما منه فإنما هو متكلف فيما جاء به.
الدرجة الثالثة للصورة الثانية والثالثة، فإنها متوسطة بين الدرجتين، فلا هى تقرب من التشبيه كالصورة الأولى، ولا هى بعيدة من التشبيه كالرابعة والخامسة، والمثال فيها قوله صلى الله عليه وسلم:«الكمأة جدرى الأرض» وقول أمير المؤمنين كرم الله وجهه فى صفة الدين والإسلام «فهو عند الله وثيق الأركان، رفيع البنيان، منير البرهان، مشرق المنار عزيز السلطان» فأنت إذا أردت إظهار التشبيه فيما هذا حاله قلت فى الخبر النبوى الكمأة للأرض كالجدرى، وهكذا تقول فى كلام أمير المؤمنين أركانه كأوثق ما يكون من الأركان، وبنيانه كأرفع ما يكون من الأبنية، وبرهانه كأنور ما يكون، إلى غير ذلك من التقدير، ومن هذا قول البحترى:
غمام سحاب لا يغب له حيا
…
ومسعر حرب لا يضيع له وتر
فإذا قدرت فى هذا أداة التشبيه فإنك تقول: سماح كالغمام، وحرب هولها كالمسعر، وهو موقد النار، وكقول أبى تمام:
أى مرعى عين ووادى نسيب
…
لحبته الأيام فى ملحوب
ومراد أبى تمام أن يصف هذا الموضع بأنه كان حسنا فأزالت الأيام حسنه وأنه كان