الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البحث الثانى فى بيان ما يجب مراعاته من حسن التركيب
اعلم أن هذا النظر إنما يختص بالمفردات فإنها وإن كانت مختلفة أعنى مفردات الحروف فى العذوبة والسلاسة فإن شيئا منها غير مستكره، لكن الاستكراه إنما يعرض من أجل التأليف لما يحصل بسببه من التنافر والثقل، فلأجل هذا كانت العناية فى أحكام التركيب والتأليف لأنه ربما حصل على وجه يفيد رقة اللفظ وحلاوته فيكون حسنا، وربما حصل على وجه يفيد ثقلا وتعثّرا فى اللسان فيكون قبيحا، فإذن العناية كلها فى التركيب فنقول:
قد بان من حسن تصرف واضع اللغة امتناعه من الجمع بين العين والحاء، وبين الغين والخاء، ومن الجمع بين الجيم والصاد، وبين الجيم والقاف، وبين الذال المعجمة والزاى، وما ذاك إلا لما يحصل من تأليف هذه من البشاعة والثقل على الألسنة فى النطق، وليس ذلك من أجل ما يحصل من تقارب مخارج الحروف وتباعدها كما يزعمه ابن سنان وغيره من أرباب هذه الصناعة، فإنهم عوّلوا على أن القرب منها يكون سببا فى قبح اللفظ، والتباعد فى المخرج فيها يكون سببا فى حسن اللفظ، وهذا فاسد فإنه ربما يعرض لما كانت حروفه متباعدة استكراه فى النطق، وهذا كقولنا:«ملع» أى عدا فالعين من حروف الحلق، والميم من الشفة، واللام من وسط اللسان، ومع ذلك فإنها ثقيلة على اللسان ينبو عنها الذوق ولا تستعمل فى كلام فصيح، وربما عرض لما تقاربت حروفه حسن الذوق فى اللسان فكان حسنا ومثاله قولنا: ذقته بفمى، فإن الباء والفاء والميم كلها أحرف متقاربة شفوية وهى رقيقة حسنة يخف محملها على اللسان، فبطل ما عول عليه هؤلاء، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن مستند الإعجاب فى حسن تأليف اللفظة من هذه الأحرف العربية، إنما هو الذوق السليم، والطبع المستقيم، لا من أجل ما زعموه ويؤيد ما قلناه من ذلك وهو أن مستند الحسن والقبح والإعجاب والنفور فى تأليف الكلام إنما هو سلامة الطبع وتحكيم الذوق، هو أن الكلمة الواحدة إذا ألّفت تأليفا مخصوصا كانت فى غاية الركة على اللسان يزدريها كل من سمعها فإذا عكست صارت أرق ما يكون على الألسنة وألطف وأعجب، ومثاله قولنا: ملع فإنها ركيكة كما أشرنا إليه فإذا قلب تأليفها قلبا مخففا وقيل فيها «علم» من العلم كانت أوقع ما يكون فى الفصاحة وأدخل ما يكون فى
الرقة واللطافة، والأحرف فيهما واحدة من غير اختلاف، وما وقع الاختلاف إلا فى التأليف لا غير، وربما وقع فى الألفاظ ما يكون هو ومقلوبه فى غاية الحسن والرقة لا مزية لأحدهما على الآخر، وهذا كقولنا «غلب» إذا قهر، فإذا قلبته قلت «بلغ» فهاتان اللفظتان سواء فى الفصاحة، وهذا كقولنا «ملح» الشىء من الملاحة، فإذا قلبته قلت فيه:«حلم» من الحلم والرجاحة، فكل واحد منهما لا مزيد على حسنه، وكل هذا يدلك على أن المعول عليه فى ذلك هو ما يجده الإنسان عند التأليف من الذوق والرقة، ولهذا فإنك ترى الكلمات المستعملة فى كلام الله تعالى والسنة النبوية مؤلفة تأليفا معجبا على نهاية اللطافة والرشاقة والرقة، فحصل من مجموع ما ذكرناه أنه لابد من مراعاة أمور فى تأليف الكلمة لتكون فصيحة.
«أولها» : أن لا تكون تلك الأحرف متنافرة فى مخارجها فيحصل الثقل من أجل ذلك.
«وثانيها» : أن تكون معتدلة فى الوزن فإن الأوزان ثلاثة: ثلاثية ورباعية وخماسية، فأكثرها استعمالا هو الثلاثى، وما ذاك إلا لخفته، وأبعدها فى الاستعمال الخماسى لأجل كثرة حروفه، وأوسطها الرباعى لحصوله بين الأمرين، والتعويل فى ذلك على الذوق، فإنها ربما كثرت وهى خفيفة على اللسان كقوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ
[البقرة: 137] وكقوله: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ
[النور: 35]، ولهذا عيب على امرىء القيس فى قوله:
غدائره مستشزرات إلى العلا
…
تضل العقاص فى مثنّى ومرسل «1»
وثالثها: توالى الحركات فإذا حصل سكون الوسط كان أعدل ما يكون وأرق وإن توال ثلاث فتحات فهو أخف من حصول الضم فى وسطه، فلهذا فإن فرسا، أخف من عضد، والمعيار فى ذلك هو عرضه على ما قلنا من تحكيم الذوق، ولهذا فإنه قد يتوالى ضمتان وهو غير ثقيل كقوله تعالى ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47)
[القمر: 47] وقوله: فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)
[القمر: 57] فالتعويل على ما ذكرناه فى كل أحواله وبالله التوفيق.