الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث فى بيان ما يكون على جهة الاشتراك بينهما
ولنشر من ذلك إلى تقريرين:
التقرير الأول فى إظهار التفرقة بينهما
.
اعلم أنا قد أشرنا من قبل إلى تعريف كل واحد منهما بماهية تخصه وتميزه عن غيره فى ذاته، ونذكر ههنا ما يتميز به كل واحد منهما من جهة الخواص واللوازم، وجملة ما نورده من ذلك تفرقات ثلاث.
التفرقة الأولى: من جهة العموم والخصوص
،
فإن البلاغة أعم من الفصاحة، ولهذا فإن كل كلام بليغ، فإنه لابد من أن يكون فصيحا، وليس يلزم فى كل فصيح من الكلام أن يكون موصوفا بالبلاغة، فالفصاحة والبلاغة بمنزلة الإنسان والحيوان، فكل إنسان حيوان، وليس كل حيوان إنسانا، وهذا يدلك على خصوصية الفصاحة وعموم البلاغة، فالبلاغة شاملة للألفاظ والمعانى جميعا، والفصاحة خاصة بالألفاظ من أجل دلالتها على معانيها كما أوضحناه من قبل.
التفرقة الثانية: من جهة الإفراد والتركيب
،
فالبلاغة إنما يكون موردها فى المعانى المركبة دون المفردة، والفصاحة تكون فى الكلم المفردة كما تكون فى الكلم المركبة، ولهذا فإن الكلمة الواحدة توصف بكونها فصيحة إذا خلصت من التعقيد وسلس مجراها على اللسان، ولا توصف الكلمة المفردة بأنها بليغة، لأن المعنى البليغ إنما يكون حيث ينتظم الكلام ويأتلف من أجزاء، فعند هذا يظهر جوهره فى تأليفه، ويعظم موقعه فى نظمه فلا جرم يوصف بالبلاغة.
التفرقة الثالثة: من جهة جرى الأوصاف اللفظية
،
فإن المعهود عند من قرع سمعه أساليب كلامهم أنهم يصفون البلاغة بما لا يصفون به الكلام الفصيح، وعن هذا قالوا لا يستحق الكلام الاتصاف بالبلاغة حتى يسابق لفظه معناه، ومعناه لفظه، فلا يكون لفظه أسبق إلى سمعك من معناه إلى قلبك، وكما قالوا حتى يدخل إلى الأذن بلا إذن، وحتى يلج فى العقل من غير مزاولة ولا ثقل، وكما يحكى فى وصف رجل من البلغاء بأنه كانت ألفاظه قوالب المعانى، وقالوا فى وصف الفصاحة فى الكلام: بأنه متمكن غير قلق، ولا ناب عن موضعه، وقالوا أيضا: من حقه أن يكون جيد السبك صحيح الطبع وأن من حق
اللفظ أن يكون طبقا لمعناه من غير زيادة ولا نقص وربما يصفونه بالسلاسة والسهولة فى حسن ألفاظه ونظمه، وقد يذمونه بأنه معقد جرز، ولأجل تعقيده استهلك المعنى وأنه غريب وحشى فيه عنجهانية، ويختص بالخشونة فيصفون كل واحد من البلاغة والفصاحة بما يليق به، وفى هذا دلالة على حصول التفرقة بينهما كما ذكرناه، ومن أعجب ما نورد فيما نحن بصدده فى الفصاحة والبلاغة ما وجد فى كتاب زهر الآداب للشيخ أبى إسحاق إبراهيم بن على الحصرى من أوصاف بليغة على ألسنة أقوام من أهل الصناعات، فوصفوا البلاغة على وفق الصناعات فقال الجوهرى: أحسن الكلام نظاما ما ثقبته الفكرة، ونظمته الفطنة وفصل جوهر معانيه فى سموط ألفاظه فاحتملته نحور الرواة. وقال العطار: أطيب الكلام ما كانت فيه عبقة الأفهام ودروزه الحلاوة ولابسه جسد اللفظ وروح المعنى. وقال الصباغ: ما لم ينتقص من إيجازه، ولم تنكشف صبغة إعجازه قد صقلته يد الروية من كمون الأشكال فراع كواكب الآداب، وألف عند ذوى الألباب. وقال القزاز: أحسن الكلام ما اتصلت لحمة ألفاظه بسدى معانيه، فخرج مفوّفا منيرا موشى محبرا. وقال الرائض: خير الكلام ما لم يخرج من حد التخليع إلى منزلة التقريب، وكان كالمهر الذى أطمع أول رياضته فى تمام ثقافته. وقال الجمّال: البليغ الذى أخذ بخطام كلامه فأناخه فى مبرك المعنى ثم جعل الاختصار له عقالا، والإيجاز له مجالا، لم يند عن الآذان، ولم يشذ عن الأذهان. وقال المتهم بالريبة: خير الكلام ما تكثرت أطرافه وتثنت أعطافه وكان لفظه حلة، ومعناه حلية. وقال الخمار: أبلغ الكلام ما طبخته فى مراجل العلم، وصفيته من راووق الفهم وضمنته دنان الحكمة فتمشت فى المفاصل عذوبته، وفى الأفكار رقته، وفى العقول حدته. وقال الفقاعى: خير الكلام ما روحت ألفاظه غباوة الشك ورفعت رقته فظاظة الجهل، فطاب حساء فطنته وعذب مصّ جرعه. وقال الطبيب: خير الكلام ما إذا باشر دواء بيانه سقم الشبهة استطلقت طبيعته غباوة الفهم فشفى من سوء التوهم، وأورث صحة التفهم. وقال الكحال: خير الكلام ما سحقته بمنحاز الذكاء، ونخلته بحرير التمييز وكما أن الرمد قذى الأبصار، فهكذا تكون الشبهة قذى البصائر، فاكحل عين اللكنة بميل البلاغة، واجل رمص الغفلة بمرود اليقظة.
ثم أجمعوا عن آخرهم على أن خير الكلام وأبلغه فى الفصاحة وأجوده، هو الكلام الذى إذا أشرقت شمسه انكشف لبسه. فكل واحد من هؤلاء قد وصف البلاغة مما