الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فانظر إلى هذه المعانى البديعة، وكفى بالمتنبى فضلا إتيانه بها، وإنه لصاحب كل غريبة ومنتهى كل أطروبة فى المعانى الشرعية، ومن ذلك ما قاله فى وصف حاله عند ورود الحمى عليه.
وزائرتى كأن بها حياء
…
فليس تزور إلا فى الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا
…
فعافتها وباتت فى عظامى
كأن الصبح يطردها فتجرى
…
مدامعها بأربعة سجام
أراقب وقتها من غير شوق
…
مراقبة المشوق المستهام
فانظر إلى ما قاله، ما أشد موافقته لما حكى من حاله، وهذا أكثر ما يجرى على ألسنة أهل البلاغة عند مشاهدة ما يشاهدونه من أحوال الحوادث وفيه كفاية لغرضنا.
المرتبة الثانية ما يوردونه من غير مشاهدة حال
فيجرى عليها ولكن يقتضبونه اقتضابا ويخترعونه اختراعا، فمن ذلك قول على بن جبلة يمدح رجلا بالكرم والجود:
تكفل ساكنى الدنيا حميد
…
فقد أضحت له الدنيا عيالا
كأن أباه آدم كان أوصى
…
إليه أن يعولهم فعالا
قال ابن الأثير وقد حام الشعراء حول هذا المعنى، وفاز على بن جبلة بالإفصاح به، ومن ذلك قول أبى تمام:
يا أيها الملك النائى برؤيته
…
وجوده لمراعى جوده كثب
ليس الحجاب بمقص عنك لى أملا
…
إن السماء ترجى حين تحتجب
ومن ذلك قوله:
رأينا الجود فيك وما عرضنا
…
لسجل منه بعد ولا ذنوب
ولكن دارة القمر استتمت
…
فدلتنا على مطر قريب
ومن بليغ كلامه قوله:
وإذا أرد الله نشر فضيلة
…
طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت
…
ما كان يعرف طيب عرف العود
ومن ذلك قوله فى مديحه:
لا تنكروا ضربى له من دونه
…
مثلا شرودا فى الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره
…
مثلا من المشكاة والنبراس
ومن ذلك ما قاله ابن الرومى:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها
…
يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلا فما يبكيه منها وإنه
…
لأوسع مما كان فيه وأرغد
إذا أبصر الدنيا استهل كأنه
…
بما هو لاق من أذاها يهدد
ومن ذلك ما قاله أبو الطيب المتنبى:
أجزنى إذا أنشدت مدحا فإنما
…
بشعرى أتاك المادحون مرددا
ودع كل صوت بعد صوتى فإننى
…
أنا الصائح المحكى والآخر الصدى
فانظر إلى ما أودعه فى هذين البيتين من المديح ما أرقه، ومن المعنى ما أدقه، ومن ذلك ما قاله ابن الرومى أيضا.
عدوك من صديقك مستفاد
…
فلا تستكثرن من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه
…
يكون من الطعام أو الشراب
ومن دقيق ما يورد فيما نحن بصدده قول بعض الشعراء:
بأبى غزال غازلته مقلتى
…
بين الغوير وبين شطى بارق
عاطيته والليل يسحب ذيله
…
صهباء كالمسك الفتيق الناشق
وضممته ضم الكمى لسيفه
…
وذؤابتاه حمائل فى عاتقى
حتى إذا مالت به سنة الكرى
…
زحزحته شيئا وكان معانقى
أبعدته عن أضلع تشتاقه
…
كيلا ينام على وساد خافق
ومن الفائق الرائق ما قاله أبو الطيب يمدح سيف الدولة:
صدمتهم بخميس أنت غرته
…
وسمهريته فى وجهه غمم
فكان أثبت ما فيهم جسومهم
…
يسقطن حولك والأرواح تنهزم
هذا وأمثاله من بدائع أبى الطيب وعجائبه فى معانيه التى فاق بها على نظرائه، وامتاز فيها على أقرانه من الشعراء، ومن جيد ما يقال فى هذا المعنى ما قاله بعض المغاربة:
غدرت به زرق الأسنة بعد ما
…
قد كن طوع يمينه وشماله
فليحذر البدر المنير نجومه
…
إذ بان غدر مثالها بمثاله
فهذا وأمثاله من سحريات الشعر وعجائبه، ولنقتصر منه على هذا القدر.