الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نظر، ومن هذا قوله عليه الصلاة والسلام «ما سكن حب الدنيا قلب عبد إلا التاط منها بثلاث، شغل لا ينفك عناؤه، وفقر لا يدرك غناه، وأمل لا ينال منتهاه» ، فانظر إلى ما اشتمل عليه هذا الكلام من بالغ الحكمة وعظيم الزجر ونافع الوعظ، وتلطف على تقرير التشبيه فيه بنوع احتيال وتلطف، كأنه قال إذا تمكن حب الدنيا من قلب العبد فكأنه الحال الساكن فيه، ثم إذا كان ساكنا فيه فهذه الخصال الثلاث كالملتاطة المختلطة لعظم شغفهم بها وتمكنها من سويداء قلوبهم. وقوله مادام رسنه مرخى، وحبله على غاربه ملقى، فهذا وأمثاله مما يدق تقرير الأداة فيه إلا بنوع تقدير كما أسلفنا تقريره.
النوع الثالث من كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه
،
فمن التشبيهات الظاهرة التى أخذت من البلاغة بحظ وافر، وخصت بالقدح القامر قوله فى أثناء الوعظ «وضع فخرك، واحطط كبرك، واذكر قبرك، فإن عليه ممرك، وكما تدين تدان، وكما تزرع تحصد، وما قدمته اليوم تقدم عليه غدا فامهد لقدمك، وقدم ليومك» .
فتأمل أيها الناظر موقع قوله، كما تدين تدان وكما تزرع تحصد، ما أغرقه فى معانى التشبيه، وما أكثر رسوخه فى مواقع التنبيه. وكقوله فى خلقة الخفاش واشتمالها على العجائب من الحكمة «وجعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلى الطيران، كأنها شظايا الآذان، غير ذوات ريش ولا قصب، إلا أنك ترى موضع العروق بينة أعلاما، لها جناحان لما يرق فينشقا، ولما يغلظا فيثقلا» وكما قال فى صفة الفتنة «تمتد فى مدارج خفية، وتؤول إلى فظاعة جلية، شبابها كشباب الغلام، وآثارها كآثار السلام، يهرب منها الأكياس، ويديرها الأرجاس. وكقوله فى وصف الجاهل «إن دعى إلى حرث الدنيا عمل، وإن دعى إلى حرث الآخرة كسل، كأن ما عمل له واجب عليه، وكأن ما ونى فيه ساقط عنه» وقوله عليه السلام: «سيأتى على الناس زمان يكفأ فيه الإسلام، كما يكفأ الإناء» فما أبلغ موقع هذه الكلمة مع اشتمالها على نظام عجيب، وتأليف بديع، ومعناه أنه ينقلب ظهرا لبطن فى انعكاس حاله وانقلاب أمره.
فأما التشبيهات المركبة فهى كثيرة فى كلامه كقوله عليه السلام فى وصف الأولياء «عظم الخالق فى أنفسهم، فصغر ما دونه فى أعينهم، فهم والجنة كمن رآها فهم فيها منعمون، وهم والنار كمن قد رآها، فهم فيها معذبون» وقوله فى وصف المنية «واعلموا أن ملاحظ
المنية نحوكم رانية، وكأنكم بمخالبها وقد نشبت فيكم، وقد دهمتكم فيها مفظعات الأمور، ومضلعات المحذور، فقطعوا علائق الدنيا، واستظهروا بزاد التقوى.
وأقول «إن هذا الكلام ليأخذ بمجامع القلوب إلى رفض الدنيا لو كان له قبول، أو صادفته آذان، أو وعته عقول» وقوله عليه السلام فى خطاب لمعاوية يوبخه فيه «فياعجبا للدهر إذ صرت تقرن بى من لم يسع بقدمى ولم يكن له كسابقتى التى لا يدلى بها أحد مثلى، إلا أن يدعى مدع مالا أعرفه، ولا أظن أن الله يعرفه، فالحمد لله على كل حال» .
وقال فى مخاطبة أهل البصرة «والله لئن ألجأتمونى إلى المسير إليكم، لأوقعن بكم وقعة لا يكون يوم الجمل إليها إلا كلعقة لاعق» . وقال فى خطاب آخر لمعاوية «فكأنى بك وقد رأيتك تضج من الحرب إذا عضتك ضجيج الجمال بالأثقال، وكأنى بجماعتك يدعوننى جزعا من الضرب المتتابع، والقضاء الواقع، ومصارع بعد مصارع، إلى كتاب الله وهى كافرة جاحدة، أو متابعة حائدة» .
فأما التشبيهات التى أضمرت فيها أداة التشبيه فيه فى كلامه أوسع مما ظهرت فيه الأداة، وقد ذكرنا من قبل أن التشبيه مهما خفى أمره فهو أدخل فى حسن الاستعارة، فمن ذلك قوله عليه السلام «رحم الله امرءا ألجم نفسه بلجامها، وزمامها، فأمسكها عن معاصى الله وقادها بزمامها إلى طاعة الله» فالتشبيه فى مثل هذا يمكن تقديره، لأنك إذا أظهرت أداة التشبيه لم يخرج الكلام عن فصاحته، ومما تظهر فيه أداة التشبيه على قرب وسهولة، قوله فى صفة الأرض «فجعلها لخلقه مهادا، وبسطها لهم فراشا، فوق بحر لجى راكد لا يجرى» كأنه قال كالمهاد، والفراش. ومما يصعب فيه تقدير أداة التشبيه فيكون استعارة محضة قوله عليه السلام فى التقوى أيقظوا بها نومكم، واقطعوا بها يومكم، وأشعروا بها قلوبكم، وارحضوا بها ذنوبكم، وداووا بها الأسقام، وبادروا بها الحمام، ألا وصونوها، وتصونوا بها» فهذه استعارات حسنة، ومعان دقيقة، إذا قدرت فيها أداة التشبيه، وخرج الكلام عن رونقه، وتبدل عن دباجته، وقال فى أهل البدع هم أساس الفسوق، وأحلاس العقوق، اتخذهم إبليس مطايا ضلال، وتراجمة ينطق على ألسنتهم فجعلهم مرمى نبله، وموطىء قدمه، ومأخذ يده» . وقال فى صفة الدنيا «حالها انتقال، ووطأتها زلزال، وعزها ذل، وجدها هزل، وعلوها سفل، دار حرب وسلب، ونهب وعطب، أهلها على ساق وسياق،