الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النوع الثالث فيما ورد من الكنايات عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه
اعلم أن الكنايات فى كلامه عليه السلام أكثر من أن تحصى، ولكنا نورد من ذلك نكتا لطيفة، فمن ذلك قوله عليه السلام فى ذم البصرة وأهلها:«كنتم جند المرأة، وأعوان البهيمة، رغا فأجبتم وعقر فهربتم» فأخرج هذا الكلام مخرج الكناية، فجعل قوله، كنتم جند المرأة، كناية عن خفة أديانهم وترك التصلب والوثاقة فيها، برياسة المرأة عليهم، ويشير إلى سقوط المروءة والشهامة، وقوله «وأعوان البهيمة» جعله كناية عن جهلهم وسخف حلومهم وفراغ قلوبهم، حيث انقادوا للجمل، وكانوا أتباعا له فساروا حيث سار، ووقفوا حيث وقف، وهذا فيه نهاية الانتقاص ونزول القدر وقوله «رغا فأجبتم» جعله كناية عن دعاء عائشة إلى حربه وتألبها عليه، وتشميرها فى قتاله، وقوله «وعقر فهربتم» جعله كناية عن الطيش والفشل، وكثرة الانزعاج. وهذه الكلمات فى الكناية كلها دالة على نهاية الذم لهم، والركة لأحوالهم، والتلبس بالخصال الدنيئة فى الدين والدنيا، وانسلاخهم عن الخصال الشريفة، والمراتب العلية، وهو بأسره حكاية عما كان بينه وبين عائشة وأهل البصرة، وطلحة، والزبير يوم الجمل، وصفة ما كان منهم ومنه فى ذلك. ومن ذلك قوله عليه السلام لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعى إلى المبايعة فقال:«ما أجر ولقمة يغص بها آكلها» فجعل هذا كناية عن أمر الخلافة وأنها صعبة عسرة، لذتها حقيرة وأيامها قليلة، وأخطارها عظيمة، وأمورها صعبة، فجعل هذه الأشياء كناية عما ذكرناه، ثم قال:«فإن أقل تقولوا حرص على الملك، وإن أسكت تقولوا جزع من الموت» فهذا كلام، أخرجه مخرج الكناية عن كونه غير منقاد لما قالوه، ولا طيب النفس لما دعوه إليه، ومعناه، فإن أقل «نعم» وقع فى نفوسهم أن مساعدتى إنما كانت من أجل محبتى للدنيا، وشغفى بلذتها، وطمعا فى عاجلها، وإن أسكت، أى لا أجيبهم إلى ما قالوا، وقع فى نفوسهم أن سكوتى، وعدم انقيادى ما كان إلا من أجل جزعى من الموت، واقتحام موارده، ومقاساة الشدائد، وتحمل أعباء الخلافة والنهوض بأثقالها. ومن ذلك قوله عليه السلام فى الشقشقية «أما والله لقد تقمصها فلان» يكنى بذلك عن «أبى بكر» فى خلافته، «وإنه ليعلم أن محلى منها محل القطب من الرحا» كنى به عن استحقاقه للإمامة،
وأهليته لها، وسبقه إليها، لاستكمال خصالها فيه، «ينحدر عنى السيل، ولا ترقى إلى الطير» كنى بذلك عن علو شأنه، وارتفاع قدره، وعظم خطره عند الله «فسدلت دونها ثوبا وطويت عنها كشحا» كنى بذلك عن إعراضه عن الإمامة، لأمور جرت وعوارض حضرت، فرأى أن الإعراض أحجى، وأسلم للدين وأرضى، والسدل هو إرخاء جانبى الرداء، وطى الكشح كناية عن القطع، يقال فلان طوى كشحه عنى، إذا قطعك، ويحتمل أن يريد بطى الكشح، أنه أضمر ما فى نفسه، وستره وكتمه، يقال طويت كشحى، عن الأمر، إذا أضمرته وسترته، وكلا الأمرين صالح هاهنا ثم قال «حتى مضى الأول لسبيله» كنى به عن أبى بكر «فأدلى بها إلى فلان بعده» كنى به عن عمر من تحمله للخلافة بعده «إلى أن قام ثالث القوم» كنى به عن عثمان وخلافته «وقام معه بنو أبيه» كنى به عن بنى معيط «يخضمون مال الله خضمة الإبل، نبتة الربيع» يكنى به عن أخذ الأموال من غير حقها، ووضعها فى غير أهلها، ولقد كان الأمر فيهم كما قال عليه السلام من الخضم والقضم، والتوسع فى الأموال. والترفه فيها. فهذه الخطبة مشتملة على توجع، واصطبار على ما كان منهم فى الإمامة، من الاختصاص والإيثار، ولم يصدر من جهته عليه السلام ما يكون قدحا فى أديانهم ولا حطا لمراتبهم، ولا نقصا لأقدارهم، وقد ذكرنا تقرير إمامته بالنصوص، وأوردنا ما يتعلق بحكم من خالفها فى الكتب العقلية، ومن ذلك قوله عليه السلام، فى من يتصدى للحكم وليس أهلا له:«فإن نزل به إحدى المهمات هيأ لها حشوا رثّا من رأيه، ثم قطع به، فهو من لبس الشبهات، فى مثل نسج العنكبوت. لا يدرى، أصاب أم أخطأ» فهذا خارج مخرج الكناية عن جهله، وقلة البصيرة فيما يأتى ويذر، ثم قال:«جاهل خباط جهالات، عاش ركاب عشواءات» كنى به عن أنه لا يدرى، أين يضع قدمه، ولا أين منتهى قدره «لم يعض على العلم بضرس قاطع، يذرى الروايات إذراء الريح الهشيم» كنى به عن خفة الوطأة فى العلم، وعدم القوة على إحكام أصوله وفروعه، وهى كناية لطيفة لا يقوم لأحد بها لسان، ولا يطلع على محّ فصاحتها إنسان، ولا يعرف قدرها، ولا يستولى على سرها، ويعلم قدر جوهرها إلا الخواص من أهل هذه الصناعة وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون.