الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة الطبعة الفرنسية
للمرحوم الدكتور الشيخ محمد عبد الله دراز
عزيزي السيد بن نبي
فرغت لتوي من قراءة كتابك القيم (الظاهرة القرآنية)، ومما أعطى لموضوعك أهمية كبرى أنه قديم وحديث معاً.
ففي ضوء العلم الحديث، ولجت قضية رئيسية ما فتئت تشغل المفسرين في كل زمن. ولعلي أنا لامستها في دراسات عديدة سابقة، سواء ما كان منها بالعربية أو الفرنسية.
إن الغبطة التي شعرت بها وأنا أقرؤه، لهي من العمق بقدر ما أتاحت لي هذه القراءة أن أدرك من جديد، ذلك الجهد الجاد المستقل والمتجرد، يقود الباحثين عن الحقيقة إلى نتائج متماثلة بل موحدة على الرغم من المسافة التي يمكن أن تفصل بينهم في الم كان والزمان.
وإذا نحينا جانباً أسلوبك الفني في الكتابة، وطريقتك الرائعة في عرض الأشياء، فإننا نجد طرقنا في الدراسة متشابهة بصورة بارزة.
ليس هذا فحسب، بل من غير النادر أن يحمل تفحصنا للأمر المثل نفسه وأن يشير إلى المعنى ذاته.
إن المسألة هي في البحث عن المصدر الحقيقي للقرآن. وأن نعرف ما إذا كان يمكن أن يكون هذا الكتاب قد استخرج من علم أو إدراك من أرسل به. أو من
معرفة بشرية على وجه العموم، أم أنه على العكس من ذلك، هنالك أسباب لا يمكن دفعها تحدونا للأعتقاد بمصدره العلوي الإلهي.
تلك هي المسألة التي جئتَ بدورك تلزم نفسك بالعمل على حلها، بإيجاد الأسس الثابتة والعقلية، للإيمان بالمصدر الإلهي لهذا الكتاب، وتسليط الأضواء عليها.
وإذا كان المفسرون التقليديون، توصلاً إلى الهدف نفسه، قد أكدوا بصورة خاصة على الجانب الأدبي من المسألة، فإن هذا الموقف على كل حال يجد تفسيره وما يسوغه في المسلمة الأعم للقرآن. تلك المسلمة التي تميز بها الأسلوب القرآني في جمال لا يضاهى وجلال مميز، وبالاعتراف الفوري بالعجز عن الإتيان بمثله، وهو الوجه الأقرب منالاً لسائر البلغاء من البدو. على أنه من الصحيح أيضاً أن هؤلاء المفسرين، وهم ينظرون في محتوى القرآن، قد رأوا في اتساع وعمق المعرفة التي يحملها للإنسانية، دليلاً في ذاته على خصائصه التي تتجاوز طاقة البشر، وأن التعارض بين توجيه بعض الآيات، كآية {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب 33/ 37] مثلاً، والمشاعر الشخصية للرسول صلى الله عليه وسلم، لشهادة لا تُرَدُّ على استقلالية القرآن عن النبي.
فهل يمكن أن يقال إن هذه النتائج المستخلصة من قبل أجدادنا، تجعل كل محاولة لتفسير جديد عديمة الجدوى؟.
هل يقال إن واجبنا يتحدد من الآن فصاعداً، بتدوين هذه النتائج الجاهزة، وبالنظر إليها كأنها الكلمة الأخيرة حول حقيقة الأشياء؟.
كلا، ثم كلا.
إذ أنه بقدر ما تتطور معارفنا حول الطبيعة والنفس الإنسانية، وكلما اكتسبنا سبباً جديداً يحملنا على أن نرى الأشياء من زاوية مختلفة، فإن ذلك
يدعونا إلى أن نضع المشكلات حين ندرسها بما يتفق وهذا الجديد من واقع العلم.
والمسألة القرآنية لا ينبغي لها أن تخرج عن هذه القاعدة.
فإذا كان صحيحاً أن القرآن معجزة مستمرة، وإذا كانت علائم صدقه من ناحية أخرى لا تنحصر في عبارته فحسب، بل في عالمي الطبيعة والنفس أيضاً كما يقول القرآن نفسه {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت 41/ 53].
إذا كان الأمر كذلك فإن واجباً يقع على كل مؤمن متصل بمعطيات العلم.
إنه التقريب بين جانبي روحه: بين معتقده وعلمه. حين يواجه النصوص المنزلة، لا أقول بفرضيات العلماء التي لم تتحقق أو التي لا تقبل التحقيق، ولكن بالنتائج الثابتة والمستخرجة من تجاربهم، وأن يأخذ من تلك الواجهة ما ينتج عنها من دروس.
وإذا كان في الواقع هنالك حقيقتان، فإنه لا يحق لواحدة منهما أن تنكر الأخرى، بل على العكس من ذلك، عليها أن تؤكدها وتشد من أزرها.
وإذا اتفق لمؤمن متعلم أن ملك موهبة الكتابة فوق هاتين الصفتين من الإيمان والعلم، فإن واجباً آخر يقع على عاتقه: إنه إخراج ثمار علمه بلغة عصره، كما يفعل نبي يخاطب قومه بلغتهم.
إنني أستطيع أن أؤكد بأنك قمت بكلا الواجبين.
فقد تأملت بنضج، ذلك الاتصال بالعقل والتراث، بالعلم والعقيدة ة وأفرغت في عرض جميل واضح ومتماسك شرارة ما تفجر من ذلك اللقاء.
فسداد حكمك، وحرارة عقيدتك، وحداثة مصطلحاتك، وجمال أسلوبك؛ هذه كلها ميزات بارزة لا أستطيع أن أفيك ما تستحق من تهنئة عليها.
ولكني أرى من الواجب أن أوجه كلمة إلى الشباب المثقف كيما يتفادى التباساً يمكن أن يقع فيه حول الهدف الحقيقي من هذه الدراسة.
أريد أن أقول لهؤلاء الشباب: إن الأمر لا يعني هنا نشرة لجمع المعلومات وتخزينها في الذاكرة، ولكن نموذجاً حياً من نقاش جدلي، فائدته الحيوية الكبرى بما يذكي من الطاقة الروحية لسائر القراء القادرين على التفكير بمنهجية، كما يضع كل منهم بدوره قضية (الحقيقة) ويبحث بوسائله الذاتية عما يتعين عليه اتخاذه في سبيلها.
فإذا استطاعت نشرة من هذا النوع أن تخدم بوصفها علاجاً للتشكك الديني فتلك زيادة في الخير، إنما يبقى الهدف الأساسي قبل كل شيء محاربة اللامبالاة حول مسألة (الحقيقة العلوية).
على كل حال فإن دراسة كهذه، لا تفكر في أن تفرض نفسها على أنها نوع من العقيدة، نقبله بعيون مغمضة وبغير نقاش. فهذا على ما يبدو لي أبعد ما يكون عن فكر المؤلف، فضلاً عن أنه يتنافى مع المبادئ القرآنية التي يدافع عنها.
فالقرآن لم يعلن فحسب بأن الإيمان لا يفرض من الخارج، ولكنه أدان بقوة كل اتباع أعمى يلقي بزمامه إلى سلطة لا تستند إلى العقل. وقد دعا دائماً باستمرار إلى التأمل الفردي المنسحب من تأثير الوسط الخارجي والأفكار المسبقة، ومن كل فكرة مستقاة بعفوية دون تمحيص.
إن (ديكارت) لم يفعل غير ذلك، حينما رفض أسلوب الهيمنة، مطالباً بحق العقل، مؤكداً واجب كل امرئ بألا يأخذ بغير الثابت والبديهي الذي لامراء فيه.
أكثر من هذا؛ ففي هذا الإطار يبدو لنا المذهب الديكارتي من هذه الناحية، أقل تشدداً وتمسكاً من القرآن.
فمن المعروف بأية عناية أوضح الفيلسوف الفرنسي تأملاته، وهو يضع تلك القاعدة المنهجية التي لا تقبل غير الأفكار الواضحة والمحددة. فهو لم يشأ بذلك التكلم عن الأمور التي تنظر إلى الإيمان والمثل، ولكن عن الحقائق المجردة التي لا يمكن معرفتها إلا بالضوء الطبيعي وحده.
فإذا كان (ديكارت) قد اضطر إلى مثل هذا التحفظ، لأنه يعد الإيمان المسيحي تكتنفه أمور غامضة بوصفه موضوعاً، فمنذا الذي لا يرى أن هذا التحفظ لا محل له في العقيدة القرآنية؟.
مهما يكن من أمر فإنني لا أرى جيداً السبب الذي يستطيع أن يسوغ التقليل من شأن الفكر الديكارتي. فهناك انطباع بأنك تضعف بطريقة منهجية من شأن هذا الفكر، كما لو أن ديكارت ذلك الوجه الكبير في الفلسفة الحديثة، كان كافراً أو متشككاً أو رجلاً يعتقد بسذاجة، بكمال الفكر الإنساني واستقلاليته المطلقة تجاه كل تحسس خارجي، مستمد من الطبيعة أو مما هو فوق الطبيعة.
ولهذا أتمنى أن تحمل الطبعات القادمة ما يبدد بعناية هذا الالتباس.
وهناك ملاحظة أخرى صغيرة.
إنها تتعلق بحياة محمد صلى الله عليه وسلم.
يبدو لي أنك أخذاً بتأكيدات بعض المستشرقين، قبلت بدون صعوبة افتراضهم حول مدة اعتكاف النبي قبل نزول الوحي.
فنحن نعلم موضوعهم المفضل في هذا الإطار.
إنه يرتكز على القول إنها فترة احتضان وتخمر للأفكار الدينية التي سبقت وضوح القرآن في الوعي المحمدي.
وبما أن فكرة تهدف لعمل واسع عظيم كالقرآن، لا يمكن التصور بأن تتحدد
معالمها بين ليلة وضحاها، ويقتضي لها الوقت الضروري والطبيعي لتحضيرها، فإن هؤلاء الكتاب قد التزموا جانب الافتراض، وافترضوا لهذا الاعتزال مدة تمتد عبر سنين عديدة.
وهكذا تحتم على محمد أن يختفي منذ زواجه في سن الخامسة والعشرين، ليفرغ إلى تأملاته، ولا يعود للظهور إلا وهو يحمل رسالته ذات صباح.
وعلى الرغم من أنك جهدت في تفنيد ورفض فكرة الاعتكاف هذه، فإنك تبدو مع ذلك قد أفسحت المجال لوجود خلفية وسند مادي لها، أعني بذلك انطواء الرسول لمدة خمسة عشر عاماً.
إن فرضية غياب كهذا، ليست فحسب مجانبة لا سند لها، بل إنها غير صحيحة على الإطلاق من الوجهة التاريخية.
فالمصادر الوثيقة جداً تحدد في الواقع تاريخ هذا الاعتكاف بالضبط بشهر قبل نزول القرآن. كما تحدد بدقة أكثر أن هذا الشهر تخللته عودة إلى منزله مرات عدة كليما يتزود. وقد سبقت هذا الشهر أيضاً رؤى واضحة كان يراها الرسول في منامه ثم ما يلبث أن يجدها حقيقة كفلق الصبح.
لقد حدثت هذه الإرهاصات جميعها في الأربعين من عمره، أي في عام هبوط الوحي.
وإذا ذهبنا بعيداً، وافترضنا جدلاً أن هذا الشهر من الاعتكاف، قد داوم عليه الرسول في كل عام، منذ زواجه وحتى نزول الوحي؛ يبقى أن نلاحظ بأن أحد عشر من اثني عشر شهراً من سني حياته في هذه الفترة قد قضاها في محيط اجتماعي، وأمام أعين مواطنيه.
والقرآن الكريم في قوله تعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [يونس 16/ 10] إنما يستخرج
بالضبط، حجة من استمرار إقامة الرسول بين قومه فترة واسعة وكافية، ليدرك الناس جميعاً ميزاته واهتماماته، وعجزه الشخصي عن القيام بوضع آيات القرآن.
فماذا كانت أعماله في تلك المرحلة الانتقالية؟.
هناك حدث محدد وأكيد على الأقل. ففي نحو الثلاثين من عمره شارك في إعادة بناء الكعبة. ومن المعلوم من ناحية أخرى أنه تحمل بكفاءة ونشاط أعباءه العائلية؛ إذ رزق أكثر أولاده قبل قيامه بالرسالة.
وإذا كنا لا نملك تفاصيل أكبر حول أعماله اليومية قبل البعثة، فمرد ذلك بدون شك، إلى أنه فيما عدا المسلمة البارزة لعظيم أخلاقه، لا نجد في تلك الفترة من الزمن أمراً منفصلاً عن مألوف وسطه يمكن التحدث عنه.
فسكوت سائر رجال السيرة، عن التفصيلات الإضافية في هذا الخصوص، نقطة نسجلها كما لاحظت بحق، لصالح التراث الإسلامي الذي تحلى دائماً بأمانة تاريخية متشددة إلى أقصى حد، حين عزف عن كل توسيع أو تقليص، للمعطيات الثابتة التي يجدها في متناوله، سواء كانت هذه المعطيات لصالح قضيته أو في غير صالحها.
بعد هذا كله، أعود لأهنئك مرة أخرى على واسع الجهد، الذي به نجحت في إلقاء ضوء جميل حول المسألة الدينية في عمومها، وحول الفكر القرآني خاصة، كيما تسهم في دعم الأساس العقلاني للإيمان.
فعساك تجد أعظم ثوابك في ذلك النجاح المعنوي الذي يستحقه كتابك. وعسى نداؤك المنطقي والشاعري الذي أطلقته ليلامس أصحاب العقول النيرة، يتسرب إلى عميق نفوسهم فيبعث فيهم من جديد حياة القلب والعقل معاً.
باريس 15 أيلول (سبتمبر) 1946م
محمد عبد الله دراز
أستاذ في الأزهر الشريف