الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرض الأول
هذا الفرض ذو شقين:
أولهما: وجود تأثير يهودي مسيحي في الوسط الجاهلي.
ثانيهما: الطريقة التي تسنى بها لهذا التأثير أن يبرز في الظاهرة القرآنية.
ولكن جميع الأبحاث التي توجهت إلى الكشف عن هذا التأثير في البيئة العربية قبل الإسلام لم تأت بأية نتيجة إيجابية.
وإنما تنعكس صورة هذه البيئة في أدب لغتها المشتركة، وفي أدبها الشعبي الذي يفصح عن أمية عامة، فهي بيئة (أميين) حسب التعبير التاريخي للقرآن.
والوثائق المخطوطة عن هذا العصر نادرة، فإن ثروته الفكرية وأدبه الشعبي لم يحفظا إلا بطريق الرواية المشافهة، ذلك الطريق الذي أوصل جوهر التراث إلى عصور الأدب والعلم الإسلامية.
على أن القرآن يعد حجة مخطوطة ذات وثوق تاريخي لا يقبل الجدل، عن العصر الجاهلي. ولكن هذه الوثيقة الوحيدة- تؤيدها الرواية المشافهة- لا تفيدنا بشيء فيما يتعلق (بفكرة توحيدية) ذائعة في الوسط الجاهلي، بل إنها على العكس تؤكد مرات كثيرة أن لا وجود لأي تأثير ديني في العصر الجاهلي. وحين يتجه القرآن مرة أخرى إلى النبي نجده يحدد له مفهوم رسالته قائلاً:{وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (1)[البقرة 151/ 2] فها هو ذا قد (عيّن)
(1) لا شك أن النبي قد مرت بوعيه هذه الآية حينما خوطب بها أثناء الوحي كما مر في كلام (انجلز)[ص:149]. (المؤلف)
صراحة معلم الوحدانية الأول لبلاد العرب.
والحق أن هذه الآية قد أكدت بإسهاب في القرآن، وخاصة في قصة نوح، التي يختمها القرآن تلك الخاتمة البيانية:
وعرض قصة يوسف نفسه- ذلك الذي انتهينا منه- محصور في إطار الآيتين ((3)) و ((101)) اللتين تحملان الطابع التاريخي السابق نفسه، أعني تأكيد خلو البيئة العربية من أي تاريخ توحيدي (1).
وإذن: فأية قيمة منطقية يمكن أن تكون لهذه الآيات والتأكيدات كلها في نظر النبي صلى الله عليه وسلم ومعاصريه، لو أنها لم تكن سوى تبليغات منافية لواقع هاتيك الأيام.
والحق أن هذا الواقع- القابل للتعديل من هؤلاء المعاصرين الذين انتدبوا للشهادة صراحة في الآيات السابقة- لم يكن سوى انعدام أي تأثير يهودي مسيحي في الحياة الجاهلية، وهو ما أكده القرآن بقوة، وأيدته الأخبار المتواترة.
لقد قام الآباء اليسوعيون- في مستهل هذا القرن- بأبحاث مهمة جداً في هذا الموضوع، لكي يحددوا مدى إسهام (شراء النصرانية في الجاهلية)، وقد انتهت أبحاثهم بمحصول أدبي عظيم ليس له من النصرانية إلا العنوان المذكور، وكان لهذا العمل العظيم نتيجة مفاجئة ذات مغزى، هي أنه قد برهن على عكس ما كان يريد مؤلفوه.
(1) المقصود بالتاريخ التوحيدي ما يتصل بالأديان المنزلة لا ما يتصل بفكرة الألوهية التي كان العرب ملمين بها في ثنايا إشراكهم بالله، وهو ما تدل عليه الآية الكريمة {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر 3/ 39](المترجم)
ونحن نذكر- من جهة أخرى- أنه لم يثبت أن كان بمكة أو ضواحيها أي مركز ثقافي ديني، ليقوم بنشر فكرة الكتاب المقدس، التي عبر عنها القرآن.
وكل ما يمكن أن يذكر هو أن بعض الحنفاء كان لهم تأثير روحي معين على الوسط الذي تشكلت فيه الذات المحمدية، بل إن النبي نفسه كان (حنيفيا) قبل بعثته، والآيات التي تذكر (جهله بالكتب) تنطبق تماماً على (الحنفاء) الآخرين، ومع ذلك فإن وجود (الحنيفي) نفسه كان حالة نادرة في بيئة مشركة في جوهرها، ونضيف أيضاً في هذا الصدد أن هذه البيئة لم تتطور كثيراً منذ هاتيك العصور الخوالي إلى الآن على الرغم من طابع القرون الإسلامية التي مرت عليها.
لقد تساءل أحد المؤلفين العرب المحدثين في إحدى الدراسات الاجتماعية الهامة فقال: "هل الإسلام من صنع اليهودية والمسيحية"(1)؟ ثم أجاب بالنفي معتمداً على ملاحظة للأب (لامانس) الذي عزا انعدام تأثير المسيحية إلى (بعد معتنقيها العرب عن الرعاية المناسبة للكنيسة). ومن ناحية أخرى، لو أن الفكرة اليهودية المسيحية كانت قد تغلغلت حقاً في الثقافة والبيئة الجاهلية فإن من غير المفهوم ألا توجد ترجمة عربية للكتاب المقدس. وهنالك حدث مؤكد فيما يتصل بالعهد الجديد (الإنجيل) وهو أنه حتى القرن الرابع الهجري لم تكن قد وضعت له ترجمة عربية، نعرف هذا من مصادر الغزالي الذي اضطر أن يلجأ إلى مخطوط قبطي كيما يحرر (رده)(2).
وقد ذكر (الأب شدياق R.P.Chediac) - الذي اضطر إلى البحث في كل ناحية عن المصادر الإنجيلية التي استخدمها الفيلسوف العربي في تأليف (الرد) حين كان يريد ترجمة مؤلف الفيلسوف- ذكر أن أول نص مسيحي ترجم إلى
(1) الدكتور بشر فارس (الشرف عند العرب قبل الإسلام)(بالفرنسية).
(2)
الغزالي (الرد على من ادعى ألوهية المسيح بصريح الإنجيل).