الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ادعاء النبوة
إن التعميم الؤسف الذي وصفناه قد أدى إلى وضع (مبدأ النبوة) بين مجموعة ظواهر نفسية تدرس تحت اسم (الظواهر الباطنة) Phènomènes Pneumaiques، ويبدو لنا أن هذا التعميم منسوب إلى المصدر العبري خاصة، لأن النقد الحديث يستقي منه أسانيده عن الموضوع.
هذه الأسانيد هي في الواقع الخطوطات الإسرائيلية في القرنين السابع والسادس قبل الميلاد، وهي التي كانت مصدراً للمعلومات الرئيسية عن الحركة النبوية.
على حين أن هذه الحقبة من التاريخ الإسرائيلي لم تكن فترة ارتقاء روحي، بل هي الأخرى فترة تدهور خلقي وديني، ناتج عن الاضطرابات الاجتماعية والسياسية، وهذا التدهور هو على وجه التحديد موضوع دعوة الأنبياء منذ (عاموس) Amos ومعاصريه (ميخا) Michée و (هوشع) Osée الذين لم يأتوا ليعلنوا وعد البشارة والغفران، بل ليبلغوا وعيد العقوبة والبلاء.
وتفسير ذلك من وجهة نظر التاريخ هو أنه حدث في ذلك العصر أمران هامان هما: هبوط درجة (رب العالمين) إلى مجرد إله قومي- من ناحية-، ودخول كثير من الشعائر والطقوس الآشورية الكلدانية في العبادة من ناحية أخرى، حتى أصبحت الشمس تتمتع بتقديس حار في بيت المقدس، فقد كان هناك (رجال يعبدون الشمس المشرقة، وفي أيديهم غصن، بالقرب من هيكل الرب نفسه) كما يقول مؤرخو تلك الفترة.
ولكن إذا كان المستوى الروحي قد انحط تبعاً لهذا التلفيق والتأميم لفكرة الإله الواحد، فإن النشاط الديني الذي التزمته طقوس العبد أو نمّته، كان يغذي في روح إسرئيل المتصوفة حمية واندفاعاً تمسك الإسرائيليون بمظاهرهما العامة على أنهما أجزاء مكلة للحركة الدينية.
فقد تكاثر الكهان والعرافون وأهل الكشف في بيت المقدس، وكانوا موضع احترام الشعب أو خوفه، لما خصهم به من المقدرة الخارقة. ولا كان من الضروري إطلاق اسم على هؤلاء الذين يحظون بهذا الاحترام، فقد أطلق عليهم جميعاً اسم (الأنبياء) نظراً لعدم وجود مصطلح اشتقاقي مناسب لهم (1).
ونحن نعرف في إفريقيا الشمالية مثالاً لتطور المفردة ذات المعنى الأصلي االخاص إلى مضمون عام، فإن لفظ (المرابط) كان يطلق في الأصل على عضو في إحدى جمعيات الأخوة الدينية العسكرية، الذي كان من مهمتهم السهر على حدود (دار الإسلام)، وما حدث لهذه اللفظة فيما بعد معروف (2).
وعلى كل حال فإن الاستعمال الدارج لهذا اللفظ لم يقتصر على الاستعمال الشعبي، فقد كان له أيضاً حق التطرق إلى الأدب الديني في هذا العصر. وكان يطلق خاصة على الموظف الكهنوتي المكلف رسمياً بالتبشير في العهد.
(1) جاء في الحاشية على الجزء الثاني من الكتاب المقدس طبعة اليسوعيين صفحة 863 ((يطلق النبي عند اليهود على كل كاتب ملهم فيدخل في ذلك (موسى وصموئيل). أما في عرف الكنيسة فيراد به من صدق عليه وصف النبوة من جهة معناها الوضعي أي الإنباء اليقين بحوادث آتية لا يمكن أن يهتدى إليها بأسبابها ومقدهاتها بمجرد استدلال العقل)). (المترجم)
(2)
قصد بلفظ (مرابط) في التاريخ أحد معان ثلاثة على التوالي فهو في البداية كان المعنى المذكور ثم أطلق عنواناً على الدولة المعروفة في تاريخ المغرب والأندلس ثم أخيراً صار عنواناً على الدراويش أهل ((الزردة)) أي الولائم المعتادة في أذكار المتصوفة الآن. (المترجم)
وسيطلق لفظ (النبي) أيضاً على كاهن الإله (بعل)، كما يلاحظ ذلك في كتاب (يونان) أو يونس. وعندما جاء الأنبياء مثل (عاموس وأرمياء) ليقلبوا هذا المجتمع البدعي بصرخاتهم وتنبؤاتهم المروعة التي خلقت جواً مضطرباً، وأستحوذ على الجماهير لون من المحاكاة أو التقليد تبعاً للموقف الجديد، بدأ جميع (الأنبياء) في التنبؤ، كلٌّ من ناحيته، وبذلك نشأت حركة التنبؤات المزعومة، فوجدنا كلا الوجهين: رجل الدعوة الصادق ومدعي النبوة، يتطوران معاً في تاريخ هذه الحقبة التي منحت إقبالها أحياناً لنبي مدّعٍ هو (حنانيا)، بينما تصاممت عن الدعوة اليائسة المروعة للنبي (أرمياء).
وعلى كل، فإن هذا العصر قد خلط بين شخصيتين متميزتين، وغالباً متخاصتين، وتمثلان تيارين مختلفين للفكر متعارضين غالباً.
ولقد تجلى هذا الخلط في التعميمات المفرطة في الدراسات الحالية للظاهرة النبوية، وهي التعميمات التي تقحم الصفات الخاصة بالنبي في نموذج مطرد هو:(العراف). ومن خلال هذا النموذج يريد النقد الحديث أن يكشف حقيقة النبوة التي سبق أن اعتبرها ظاهرة ذاتية، وهو بذلك يعطل منذ البداية دراسة الظاهرة حين يؤكد (أن ما يراه العراف ويسمعه في حالات انجذابه وغيبوبته رهن بشخصيته، وربما يكون هذا ثمرة ناضجة في اللاشعور، من تأملاته ومن أحواله الدينية السابقة، ومن ميوله الداخلية المتعمقة في وجوده كله، التي تتجلى حينئذ أمام ضميره كأشياء تبدو له خارجة عنه).
هذا النص يهدف بوضوح إلى جعل النبوة من المجال الذاتي للنبي، دون أن يهتم بشهادة هذا الأخير الذي يؤكد بكل قوة أنه يرى ويسمع موضوعه خارج مجاله الشخصي.
***