الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناقضات
بعد أن حاولنا بيان استقلال الظاهرة القرآنية، وموضوعيتها بالنسبة للذات المحمدية، يصبح هدفنا من هذا الفصل أن نؤكد محاولتنا تلك بتفصيل القول فيما حدث أحياناً من مناقضة صريحة بين الميول والاتجاهات الطبيعية لدى النبي، وبين ما يعتريه خلال تلقيه الوحي. هذه المناقضة تجلو لأعيننا الخصائص الظاهرية التي بيناها وأكدناها حتى الآن في القرآن، أعني: موضوعيته واستقلاله بالنسبة للذات المحمدية. وأول مثال على هذه المناقضة قوله تعالى:
{وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه 114/ 20]
فلقد كان النبي في مستهل دعوته يجهد ذاكرته وهو يعاني حالة التلقي، لكي يثبت الآيات كما نزلت، وتلك حالة غريزية تلقائية تحدث لأي إنسان ينصت لآخر، وهو يريد أن يحفظ كلامه، فهو يكرره في نفسه.
فالتكرار في الحقيقة عمل تدريبي للذاكرة، غريزي أساسي، فهو لهذا يصدر طبيعياً عن الذات نفسها، أياً كانت درجة وعيها، بل قد يحدث أن نكرر كلمات شخصية محضة، في أحلامنا مثلاً، ولكن حالة التلقي ليست حالة بين اليقظة والنوم Hypnagogique، ولا سيما بالنسبة للذات المحمدية، التي ربما كانت تقوم بتدريب ذاكرتها تلقائياً، ولكن بطريقة آلية مقصودة، تحتفظ معها في هذه الحالة ببعض حريتها ووعيها، ويتجلى هذا في هيئتها البدنية، إذ يظل النبي جالساً، كما يتجلى في سلوكها العقلي، حين يكرر ما يوحى إليه.
فالآية المذكورة تأتي بما يضاد هذا السلوك الطبيعي، إذ يطلق النبي لإرادته
العنان إلى مدى معين، حتى يحفظ بالتكرار ما تفجر في مجال عقله، فأثاره جرسه وأيقظه.
والآية تهدف إذن إلى مصادرة حريته في استخدام ذاكرته، حيث تنحصر حركتها في هذا التكرار المنهي عنه، وبذلك لا تتجاهل الآية حرية اختيار النبي، وإرادته أن يدرب ذاكرته فحسب، بل تتجاهل أيضا القانون النفسي لوظيفة التذكر نفسها. وهكذا نلاحظ مناقضة مزدوجة بين الظاهرة القرآنية وبين الذات المحمدية. هذه المناقضة المزدوجة لإرادة النبي، ولقانون وظيفة التذكر، تثبت بوجه خاص تفرد ظاهرة ذات مجال مطلق، مستقل عن العوامل النفسية والزمنية، وبهذا تؤكد خاصتي السمو والإطلاق للظاهرة القرآنية.
والمناقضة الثانية نقتبسها من حياة النبي الخاصة، فلقد سجلت أحداث هذه الحياة- كما نعلم- المراحل الرئيسية للتشريع القرآني، ولا عجب، بعد أن رأينا ما لهذا الارتباط بين أحداث حياة (الرجل) وبين قانون السماء من قيمة تربوية، أما الذين يعجبون فإن عليهم أن يذكروا أن قانوناً تمليه السماء لغير أهل الأرض يمكن أن يكون مراعياً لعوائد الملائكة سكان السماء، أما إذا أنزل من أجل البشر، فربما لم يكن له معنى بالنسبة لهم لو لم يكن أساس تقنينه الحالات المادية المنتزعة من حياتهم اليومية. وهذه حالة من تلك الحالات مأخوذة من حياة النبي نفسه، وقد كانت مناسبة لنزول الوحي ببعض المبادئ القانونية فيما يتعلق بالشهادة بوصفها دليلاً قانونياً.
والحادثة التي نبحثها رواها مؤرخو السيرة تحت عنوان (حادثة الإفك)(1)
(1) أورد المؤلف في الهامش تلخيصاً لحديث هذه القصة، وقد رأينا الاستغناء عن ترجمة هذا الموجز، إذ أن القصة بكاملها مروية في جميع كتب الحديث. وقد رواها البخاري تحت عنوان (باب حديث الإفك) عن طريق عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عائشة رضي الله عنها. (المترجم)
فإن المنافقين بالمدينة لم يكفوا عن تدبير صنوف المؤامرات والمكائد ليشلوا دعوة رسول الله عن الحركة، فكانوا يهتبلون (*) الفرص ليبهتوه وينالوا من هيبته، ويعوقوا كفاحه، فلقد كان (لمكيافيلي) من بينهم تلاميذ نجباء، قبل أن يخرج (ميكيافيلي) إلى الوجود. ونعود إلى حديثنا، فقد وجدت الزوجة الشابة (عائشة) رضي الله عنها نفسها فجأة منقطعة عن القافلة، حبستها عنها ضرورة، فاستمرت القافلة في سيرها، مستاقة معها رحلها، وأقبل الليل فأخذت تنادي مستيئسة، حتى ظنت نفسها فقيدة في الصحراء، فنامت في الطريق أشبه بطفلة، وإذا بصحابي كان يسير في مؤخرة القافلة يجدها هناك فيتعرف عليها، وينزل عن ناقته ليركب أم المؤمنين، ثم يلحق بالقافلة.
ولكن المنافقين كانوا هناك، فأشاعوا أن عائشة قد لعبت دور الفتاة العابثة .. فضيحة ..
ويهم المسلمون بقتل زعيم المنافقين
…
أزمة.
هذا هو الإطار التاريخي الذي تعرض فيه حالتنا، وسنرى أنها قد حُلت حلاً رائعاً في نطاق الظاهرة القرآنية. فالواقع أن النبي قد دهمه الشك، فلقد كان إنساناً على الرغم من كل شيء، ولكن هذا الإنسان كان ذا ضمير يستمد سموه من سمو دعوته، فهو يعلم أن أعماله ستكون أحكاماً ومقاييس، فما هو القرار الذي يمكن أن يتخذه شريطة أن يكون متفقاً مع طبيعته الإنسانية، ومع أساس دعوته العلوي.؟ .. إن المسألة بهذه الصورة تعد اختباراً حاسماً للدعوة، فبحكم فطرته الإنسانية، وربما تأثراً بإيحاء المحيطين به أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عائشة إلى منزل أبيها، واحتجت عائشة دون جدوى ضد هذه الإهانة والتهاون، أما النبي فلم يطلقها كيلا ينشئ سابقة قانونية، ولم يعف أيضا كيلا يعرض عظمة دعوته العلوية للخطر. ولقد اقتضى هذان الاعتباران لديه حالة معينة كان يعاني
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: وعندي في نسخة أخرى للكتاب"ينتهضون " بدل "يهتبلون
خلالها الشك في سلوك زوجه من ناحية، والتردد في اتخاذ قرار ظالم من ناحية أخرى، وفي هذه الحالة لا يجدي سوى الحياد الذي يهدئ انفعالات الإنسان، ويناسب ظروف النبي، فالغفران قد يكون أعمى، والأدلة قد تكون ظالمة؛ وعليه فلقد كان لمصلحة النبي الشخصية والعليا من كل وجه أن يلتزم حياداً دقيقاً، بأن يترك عائشة لدى أبيها. وموقف كهذا لا يدع مأخذاً لألسنة المنافقين الحداد، ولنقدهم المغرض، بلة العقل المجرد. ولم يكن على النبي من الوجهة الإنسانية أن يتخذ موقفاً آخر، أعني لم يكن عليه أن يعمل شيئاً مطلقاً، وقد كانت هذه خطته فعلاً .. حتى نزول الوحي، فإذا به يعتق الرجل من شكه ومن تردده، معرضاً في الوقت نفسه القيمة العلوية للرسالة لاختبار هائل. وسنجد أن سورة (النور) تسن أولاً (حد الزنى):
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {[النور 2/ 24]
وهذا هو المبدأ القانوني الأول.
ثم إنها تبرئ عائشة رضي الله عنها بطريقة رائعة باهرة، وهي تنمي هذا المبدأ القانوني، وتؤكد اشتراط الشهادة في مثل هذه الحالات:
ولكي يضفي النبي على هاتين الآيتين تفسيرهما التاريخي وجدناه يعيد إلى بيته (الزوجة) الفاضلة، التي رفضت أن تعترف بالجميل لإنسان، فهي تجيب
أباها (1) الذي يدفعها إلى شكر النبي قائلة: "والله لا أقوم فإني لا أحمد إلا الله عز وجل". على أن نصوص هذه التبرئة تعد خطيرة بالنسبة لدعوة النبي، إذ تعطينا فوق قيمتها الذاتية لمحة مباشرة، وغير متوقعة عن شخصيتين جعلت منهما الصدفة حكمين فاهمين لتلك القيمة، هما: عائشة، والصحابي الذي أوصلها.
أي مغزى تدركه هاتان الشخصيتان في حكم يعلن صراحة أن (الزانية) لا يمكن أن تكون سوى زوجة (زانٍ)؟. وهو حكم مطلق، كيلا يصادم اعتبارات ذات إنسانية دهمها الشك، وألزمتها المصلحة العليا أن تقف موقف الحيطة والتحفظ الدقيق، فإن عقلاً ينشد الحقيقة والدقة في الحكم لا يمكن أن يستسلم للطيش، فيدين بريئاً، أو يغفر لمجرم.
وهكذا تظهر لنا بجلاء مناقضة صريحة بين (ذات) مشدودة إلى الحيطة والتحفظ، وبين ما ينزل به الوحي عليها من أحكام قاطعة.
…
(1) ما ورد في البخاري هو: "فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت .. " الخ .. (المترجم)