الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أصول الإسلام
بحث المصادر
في دراسة نقدية للإسلام، لا نستطيع أن نغفل أهمية فحص الوثائق المدونة أو التاريخية، التي يمكن أن تلقي ضوءاً على الظاهرة القرآنية. على أن هذه المشكلة التاريخية قد حلت بالنسبة للإسلام بصفة استثنائية: فهو الوحيد من بين جميع الأديان الذي ثبتت مصادره منذ البداية، وعلى الأقل فيما يختص بالقرآن. ولقد امتاز القرآن الكريم بميزة فريدة هي أنه تنقل منذ أربعة عشر قرناً، دون أن يتعرض لأدنى تحريف أو ريب، وليست هذه حال العهد القديم (التوراة)، الذي لم تعترف له بالصحة الدراسة النقدية للشراح المحدثين، فيما عدا واحداً من كتبه هو كتاب (أرمياء)(1).
وليس العهد الجديد (الإنجيل) بأسعد حالاً، فقد ألغى مجمع أساقفة (نيقية) كثيراً من أخباره، مما زرع الشك حول ما تبقى منه، وهو (الإنجيل).
وهذا الأخير بدوره لا يعد الآن من الصحاح: لأن النقد أثبت أنه قد (وضع) بعد المسيح بأكثر من قرن، أي بعد عصر الحواريين الذين تنسب إليهم التعاليم المسيحية.
وعلى هذا فإن شكوكاً كثيرة تحوم حول القضية التاريخية للوثائق اليهودية والمسيحية.
(1)(مونتيه Montet)( تاريخ الكتاب المقدس) طبعة جنيف.
هذا التحديد الكامل للنص القرآني على عهد النبي نفسه، يعد ظاهرة جديرة بالملاحظة من وجهة علم الاجتماع وعلم النفس بخصوص الوسط العربي في العصر المحمدي. فتلك نقطة جوهرية تستحق البحث والوقوف أمامها، إذ ليست هنا مشكلة تدوين بالنسبة للقرآن، كما هو الأمر بالنسبة للكتاب المقدس؛ وهي أيضاً مؤيدة بحقائق التاريخ التي ينبغي أن نلفت إليها انتباه القارئ ليلاحظ هو أيضاً توافق واقع التاريخ مع هذه الآية القرآنية {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف 12/ 12]، ومع ذلك فإن لهذا (الحفظ) تاريخه: فكلما كان الوحي يتنزل، كانت آيات القرآن تثبت في ذاكرة الرسول وصحابته، وتسجل فوراً بأيدي أمناء الوحي، فقد كانوا يستخدمون من أجل ذلك كل ما يصلح للكتابة كعظام الكتف أو قطع الجلد
…
الخ ..
حتى إذا قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن محفوظاً في الصدور، مدوناً في الصحف، فكان من الممكن كما دعت الحاجة موازنة الآيات بعضها ببعض، ولا سيما حين يعرض اختلاف من نوع صوتي أو لهجي.
وفضلاً عن ذلك فسنجد أن هذه الموازنة تحدث مرتين، والطريقة التي نفذت بها هي في ذاتها حدث فذ في تاريخ الصناعة العقلية الإنسانية، فللمرة الأولى تتجلى صفات الطريقة المنهجية في عمل عقلي، كما تتجلى الدقة التي هي الآن وقف على التفكير العلمي.
فقد اختار الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه لجنة يرأسها زيد بن ثابت، الذي كان أميناً للوحي على عهد الرسول، كتبت القرآن منظماً لأول (1) مرة. ويبدو ان زيدا أحجم أولا عن القيام بهذه المهمة لأمرين:
(1) المقصود هنا أن الكتابة المنظمة للقرآن لم تحدث إلا على عهد أبي بكر، أما ترتيب الآيات والسور فقد كان توقيفاً من جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم حين كان يعارضه بالقرآن وخاصة بعد حجة الوداع. (المترجم)
أولهما: أنه لا يريد بوصفه صحابياً أن يقوم بمحاولة لم يقم بها النبي، أو يأمر بها.
وثانيهما: أنه بوصفه مؤمناً يتحاشى مثل هذا العمل، لأنه يخشى مقدماً أبسط الأخطاء المتوقعة في تنفيذ مهمته، وعلى الرغم من هذا فقد تمت هذه المهمة بفضل الجهود المتعاونة الواعية لأعضاء اللجنة. وكانت الطريقة التي اتبعت بسيطة، ولكنها مدققة، لأنهم كانوا يحفظون القرآن عن ظهر قلب، بالنظام نفسه الذي تعلموه في صحبتهم بإرشاد الرسول لهم، فإن حدث اختلاف رجعوا إلى القطع التي كتبت فيها الآيات عند نزولها؛ حتى يرفعوا الشك عن موضوعها. ولم يكتفوا بكل هذه الاحتياطات الملحوظة، فإن زيداً وعمر رضي الله عنهما قد ذهبا إلى باب مسجد المدينة، وهنالك أشهدا بقية الصحابة لتوثيق الرواية المكتوبة بواسطة اللجنة نفسها.
بيد أن هذه الجهود قد أجازت نص القرآن مع بعض الاختلاف في اللهجات الشائعة بين عرب الجاهلية.
لم يسترح عثمان- الخليفة الثالث- لهذا الاختلاف، وأمر بأن تكتب رواية موحدة فريدة بلغة قريش.
فاختيرت لجنة ثانية على رأسها زيد أيضاً، وكلفت أدء هذه المهمة الجديدة، وكان عليها هذه المرة أن تثبت النص القرآني نهائياً في لغة واحدة، حتى لا يتسبب تنوع اللهجات في إحداث الشقاق والتدابر في المجتمع الإسلامي، وأنهت اللجنة عملها عام 35 هـ.
ومنذ ذلك العصر والقرآن يتنقل من جيل إلى جيل، بصورة وحيدة فريدة متعارف عليها، من مراكش إلى حدود منشوريا.
فهو على هذا، الكتاب الديني الوحيد الذي يتمتع بامتياز الصحة التي لا جدال فيها، لأنه لم يثر النقد أية مشكلة حوله، سواء أكان ذلك شكلاً أم موضوعاً.
والصدر الثاني المدون عن الإسلام ينحصر في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن المؤسف أنه لم يتوافر لهذا الصدر ما توافر للأول من الصحة التاريخية، فإن الأحاديث لم تحفظ بالعناية المنهجية نفسها التي ظفر بها القرآن، فلقد منع الرسول في حياته الصحابة بقوة وصراحة من أن يكتبوا أقواله، حتى لا يحدث أدنى خلط ممكن بين ما ينطق به، والآيات المنزلة أي بين السنة والقرآن.
ولم تظهر أهمية الحديث إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وخاصة من الناحية الشرعية بوصفها مصدراً ثانياً للتشريع الإسلامي.
وظهرت هذه الفكرة في تاريخ التشريع الإسلامي عند سفر معاذ بن جبل، الصحابي الذي اختاره الرسول ليقضي بالإسلام بين أهل اليمن، بعد غزوة حنين، وعندما أراد الرسول أن يوصيه سأله: كيف تقضي فيما يعرض لك؟ فقال معاذ: " أقضي بكتاب الله، فإن لم أجد فيه، أخذت بسنة رسول الله، فإن لم أجد فيها أجتهد رأيي ولا آلو"(1).
ولقد أيد الرسول عليه الصلاة والسلام طريقة معاذ في النظر، تلك التي تعرض ضمناً المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، وتعرض أيضاً القياس مصدره الثالث.
ومع تكاثر الحاجات في المجتمع الإسلامي نما هذا التشريع، فاتجه الفقهاء إلى أن يثبتوا- ما وسعهم الجهد- الأحاديث التي يجب أن تصبح عنصراً جوهرياً في
رواه أبو داود في سننه، كتاب الأقضية (23) باب (11)(اجتهاد الرأي في القضاء) حديث رقم 3592 (ف).
الفقه القانوني، ومع ذلك فإن المسافة بين وفاة الرسول وعصر تدوين الحديث كانت ذات أهمية، إذ حدث خلالها خلط كثير، وشكوك مضاعفة بين الأحاديث الصحيحة وغيرها.
ومنذ ذلك الحين وضعت طريقة نقدية صالحة لتمييز ما هو صحيح عما ليس كذلك، فطبقت طريقة النقد التاريخي التي تشمل تحقيق اتصال الرواية، وقيمة الرجال الذين وصل عن طريقهم الحديث.
وقد أدى هذا الوضع بالمحدثين إلى أن يصنفوا الحديث ثلاث مجموعات تبعاً لدرجة التثبت التاريخي: الصحيح، والضعيف، والمكذوب.
فهذه هي مصادر الإسلام المدونة، في حالتها الراهنة: الآيات القرآنية الصالحة لأن تستخدم وثيقة تاريخية مطلقة الصحة؛ والحديث الذي يختلف في درجة الصحة، والذي لا يصح أن يستخدم- على كل حال- في أية دراسة نقدية إلا مع الاحتياطات المستخلصة من الطرق نفسها التي اتبعها العلماء المحدِّثون المنزهون عن الكذب أو الغش أو التدليس، كالبخاري ومسلم.
وبهذه الاحتياطات يصبح المصدران اللذان يستخدمهما الباحثون في الإسلام، صحيحين على سواء، وسيكون من النفج والادعاء أن نرفض منذ البداية باسم المنهج ما تقدمه لنا السنة من أسانيد.
***