الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفضلاً عن ذلك، فإن العادات تثبت خاصة لدى المراهق لكي تنعكس بالتالي على جميع حياته. وكذلك الحال على ما نعتقد فيما يخص النبي، كما تدل عليه ملاحظة زوجه عائشة حين أثارها الاهتمام بصحته، من قيامه الطويل بالليل في صلاة النافلة (1)، لقد كانت حقاً عادة ثابتة عند النبي منذ زمان عزلته.
وعليه، فإذا كان النبي يخصص جانباً كبيراً من وقته للصلاة، بينما تلح عليه هموم التفاصيل المادية لرسالته، فلقد كان عنده من الفراغ ما يسمح له بالاعتكاف عندما لم يكن لديه ما يشغله من تفاصيل الحياة المادية والعامة.
فلا موضع إذن للدهشة حين لا نجد غير قليل من الوثائق عن هذه الحقبة من حياته، التي كانت بصفة موضوعية بدون تاريخ.
ولم يصل صدى هذه العزلة إلى العالم الخارجي، إلا حوالي نهاية هذه الحقبة، مع الخبر المثير لظهور النبي المنتظر.
…
العصر القرآني
المرحلة المكية
إن محمداً صلى الله عليه وسلم الآن في الأربعين من عمره، إن الستار يرتفع من جديد عن تاريخه، ولكنا نجده في أزمة أدبية عميقة.
(1) في رواية البخاري ((وقالت عائشة رضي الله عنها: كان يقوم حتى تفطر قدماه (تتشقق))) وفي حديث آخر عن المغيرة رضي الله عنه أنه قال: ((إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليقوم أو ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه، فيقال له، فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً)). (المترجم)
فمنذ خمسة عشر عاماً لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم سوى حنيفي بسيط يقسم وقته حسب كلامه هو، بين عبادة الله والتأمل في جميل صنعه.
إن السماء العميقة التي تغطي بقبتها الزرقاء المنظر الملتهب لجبل النور ما تزال تجتذب مقلته، كما كانت تجتذب مقلة الطفل أمام فسطاط مرضعته. ولكن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس عقلاً منهجياً يبحث عن نظرية في الكون واتساقه، ولا هو فكر مضطرب يبحث عن طمائينته، فإن طمائينته متوافرة لديه دائماً، وخاصة منذ اعتزاله، فهو يؤمن بإله واحد هو رب إبراهيم.
فمن الخطأ فيما يبدو لنا أن يرى النقد الحديث- ولا سيما الأستاذ (درمنجهام) - في هذا العصر مرحلة من البحث والقلق، أي نوعاً من إرادة التكيف وتخلّق الفكرة عند النبي، بل على العكس تماماً تبرهن وثائق العمر على أن المشكلة الغيبية لم تساور ضميره فقد كان عنده حلها، وجزء من هذا الحل إلهامي وشخصي. وجزء آخر موروث لأن إيمانه بإله واحد إنما يأتيه من الجد البعيد (إسماعيل).
هذه الملاحظة أساسية لدراسة الظاهرة القرآنية بالنسبة للذات المحمدية كما تصورها لنا في الواقع تفاصيل التاريخ.
ويحسن أن نبين خاصة أن أي اهتمام شخصي لا يتدخل عند هذا المتأمل المعتزل الذي لا تعنيه المشكلة الدينية، إنه بحث عن مجرد سلوك أخلاقي، على طريقة نساك الهند، أو متصوفة الإسلام، أكثر من أن يبحث عن دعوة؛ فبين ذاته والواقع الغيبي الذي يتأمله لا يمكن أن نقرر- فيما يخص هذا العصر على الأقل- رباط فكرة مقصودة، وليس هذا مجرد تقرير، بل هو بيان لحالة هذه الذات المتجاوبة مع سائر الظروف النفسية الأخرى، كما تتراءى في سيرة النبي وفي شهادة القرآن على ماضيه.
ومع ذلك ففي حوالي الأربعين نجده وقد شمله الهم والألم أيضاً، أنه يشك!، إنه لا يشك في وجود الله، فإن ثقته فيه لم تتزعزع أبداً.
ولكنه يشك في نفسه هو!.
فكيف، ولماذا ورد هذا الشك على نفسه؟ لماذا يجد الآن ظل شخصه في حقل تأملاته؟ ولماذا يجد طيف ذاته يتوارد على أعماق نظراته الدينية، حتى ليصبح تقريباً فيها نقطة الارتكاز؟
والسيرة المهتمة بالتفاصيل التاريخية عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم لا تقدم أية معلومات عن هذه الحالة النفسية الهامة أيضاً. ولكن لدينا مع ذلك في الآية المذكورة من قبل، وفي تعقيبه على خديجة عندما فاتحته في أمر الزواج، الإجابة على المشكلة التي تواجهنا بها حالة النفس، التي نجده فيها في نهاية اعتزاله.
وعلى الرغم من أن الآية وتفصيل السيرة المذكورة لا يفسران لنا ماهية الشك المحمدي؛ فإنهما يشهدان بأن هذا الشك ليس ناتجاً عن أمل أهوج، أو جنون بالذات، أو تضخم في تلك الذات عند (محمد) عليه الصلاة والسلام.
فنحن مضطرون إلى أن نرى في هذا الشك نتيجة لحالة شخصية عارضة، وجد فيها النبي نفسه فجأة أمام مبادئ شعور، وأمام استشعار لبعض الأشياء الغريبة تمس من قريب مصيره الخاص.
فإلام يعزى هذا الإحساس الذي يطوِّف الآن في أنحاء نفسه، وهو يخز بصورة مؤلمة طبيعة فكره الموضوعية؟ هل كان ذلك مجرد حركة للاشعور، أو إلهاماً بحل قريب وغير عادي للمشكلة؟
إن بعض الفصائل الحيوانية تُلهَم الطوارئ والاضطرابات التي تصيب مساكنها عما قريب، فهذا النمل الأمريكي يغادر مساكنه قبيل اندلاع الحريق
فيها بليلة، وفي جنوب قسنطينة نوع من الحيوانات القارضة يبرح أرضه في مسارب الأودية قبيل الكوارث الطبيعية.
فهل كان عند النبي ما يشبه هذا الإلهام، أي التنبؤ بالظاهرة القرآنية التي ستلهبه وتغمر وجوده كله؟
فلو قلنا إن ذلك من عمل اللاشعور، فيجب أن نطبق هذه القاعدة على تفسير مادة القرآن كلها وتفسير فكرته المتصلة، كما نفسر بها أيضاً أعراض الظاهرة وطوارئها عند النبي، ولكن هذا- كما سنشير إليه فيما بعد- ليس أبداً ممكناً.
ومع ذلك فإن النبي سيكاشف زوجه الحانية بهمومه، ويشكو لها بمرارة، إذ يظن بنفسه الجنون والمس، ويرى أن سحراً مشؤوماً قد أضرَّ به. ولكن خديجة الفاضلة تواسيه وتهدئ روعه قائلة:((والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق)).
وفي هذه العبارات التاريخية تظهر لنا بطريقة لا تحتمل الجدل فكرة "الإله الواحد" تشيع في الوسط العائلي لمحمد صلى الله عليه وسلم حتى قبيل دعوته.
وهذه الملاحظة تتيح لنا أن نستنبط من مراجعنا اقتناع محمد صلى الله عليه وسلم الشخصي في هذه النقطة خلال اعتزاله، وهي تضيف تفصيلاً أساسياً للصورة النفسية التي نرسمها له.
وعلى كل حال فإننا نجد النبي بعد هذه التهدئة يستأنف طريقه إلى عزلته. ويهاجمه الشك من جديد، ويسيطر عليه الاضطراب الشديد، الذي يطبع أحواله النفسية في ذلك العهد، وهو يحتاجه الآن أكثر من ذي قبل، لأنه يشعر (بحضور) أشبه بظل يطوف حوله.
إنه يخرج من عزلته، يذرع تلك الدروب الملتهبة في جبل النور، وهو يضيق بذلك المجهول الذي يشعر به معلقاً في نفسه، ولا حول له ولا قوة إزاءه؛ هاهو ذا مشرف على واد، يرى مخرجاً من مأساته في أعماق الهاوية، فيكاد يستسلم لفكرته المتغلبة عليه، ويخطو خطوة إلى الأمام، ولكن صوتاً أسرع من إيماءته يوقفه:((يا محمد، أنت رسول الله حقاً)) فيرفع رأسه ليرى الأفق مشعاً يتلألأ نوراً، فينقلب مذهولاً محيراً، دون أن تزايل الرؤية ناظريه. إنها في كل مكان .... زفي جميع الأركان .... فيرتعد منها فزعاً حتى يذوي إلى الأرض، وحين يفيق يعود إلى مكة، حيث يجد هنالك موضع سره العطوف، فتفاجَأ بمنظره المحزن وبحالته المحمومة، وهو الذي تراه دائماً مهتماً بنفسه، لا يغفل أي تفصيل في هندامه، هاهو ذا الآن بشعره الأشعث ووجهه الممتقع وملابسه المغبرة، ولكن خديجة الحانية تتغلب على جزعها وترعى زوجها، وبكلمات حانية رقيقة تدخل السلام إلى نفسه الذاهلة، فيأخذ طريقه إلى جبل النور.
وهاهو ذا الليل يخيم على عزلته في غار حراء، حتى إذا نام أحس بحركة في لا شعوره توقظه، إنه يشعر بحضور، وهو يلمح أمام عينيه الآن رجلاً متشحاً بلباسه الأبيض.
إن المجهول يقترب منه ثم يخاطبه قائلاً:
- "إقرأ" ..
- ما أنا بقارئ، قالها وهو يحاول الابتعاد عنه، والهرب من ذلك الذي يأخذه فيغطه حتى يبلغ منه الجهد، ثم يرسله قائلاً:
- اقرأ
…
فيجيب محمد مرة أخرى:
- ما أنا بقارئ.
فيكرر مرة ثالثة ذلك الشكل الروحاني الذي سيكون منذ الآن الزائر الملازم للنبي.
- اقرأ
…
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق 96/ 1 - 5].
كانت هذه الآية بالنسبة للنبي، وللتاريخ المرة الأولى التي تظهر فيها (الظاهرة القرآنية) التي ستضم بين دفتيها الثلاثة والعشرين عاماً الأخيرة من حياة النبي.
ومن هذه اللحظة أصبح لدى النبي الأمي شعور"بأن كتاباً قد طبع في قلبه"(1) ولكن لم يكن له أن يتصفحه كما يشاء، ولا أن يطلع عليه كما يهوى، إذ أنه سيوحى إليه كلما دعت حاجة الرسالة.
ولقد يتأخر الوحي ويبطئ، حتى عندما تلح إحدى الحالات العاجلة: ولتكن حالة اتخاذ قرار، أو سن تشريع لمناسبة معروضة على النبي.
ولنذكر إحدى هذه الحالات؛ ففي بدء الرسالة، وعلى وجه التحديد بعد الوحي الأول الذي رويناه، انتظر النبي زمناً طو يلاً، أكثر من عامين، قبل أن يرى للمرة الثانية زائره الغريب ويسمع صوته. لقد يئس منه، وأخذ الشك يستولي مرة أخرى على نفسه التواقة إلى اليقين، فهو يعتقد أنه إما أن يكون قد خدع في جوارحه، وإما أن القدرة قد تخلت عنه، تلك التي اعتقد حيناً أنها هي التي تقوده.
(1) في السيرة الحلبية ج 1 ص 328 نص يوهم بهذا المعنى ((فكأنما كتب في قلبي كتاباً)) ويحتمل أن يكون معناه على المصدرية. (المترجم)
هذا القلق مؤلم لنفسه، وإنه ليتسرب إليها كأنه حية تطوق فكره ومشاعره، فتحطم بضغطها طموح هذه النفس المتأصل إلى اليقين الصادق.
ومرة أخرى: لحظات مؤلمة، ودقائق مؤثرة بالنسبة لمحمد، ذلك الذي يبحث مستيئساً في نفسه وفيما حوله، عن النبع الخفي الذي تدفقت منه الآيات الأولى من القرآن، وإنه لدعاء حزين لنفس موجعة، وضمير أضناه القلق، دعاء إلى صوت لا يجيب، أو لا يريد أن يجيب، فقد التزم الصت خلال أكثر من عامين.
وإن فكر (محمد) صلى الله عليه وسلم ليحاول مناقشة حالته الفريدة، دون أن يجد لها تفسيراً، فهو يغرق في الإعياء، وقد هدّه ما يعانيه من التوتر العصبي، لقد كان يتفانى كأنه شيء خامد سقط في النوم.
ولكن خديجة- الملاك الحارس- كانت تسهر عليه.
وينام (محمد) بعد نوبة من نوبات الانهيار العميق، وكانت زوجه بكلماتها الممتلئة بالحنان الأمومي قد كفكفت منذ لحظات أزمته، بعد أن دثرته في عباءته، وطلبت إليه أن يستريح. نام نوم الطفل الذي أعياه البكاء، وملأ قلبه الشجن، فهدأ بدوره قلق الزوج العطوف، حين لمست من النائم أنفاسه الهادئة، فخرجت بخفة حتى لا توقظه.
ولكن صوت حراء يرن فجأة في أذني النائم فيهب كأنما مسته الحمى
…
{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر 74/ 1 - 3].
لقد أصمّه النداء وأضناه مرة واحدة، إذ أن هذه المباغتة جعلته يدرك فجأة أهمية الأمر الذي تلقاه ولم يكن ينتظره.
لقد وجدته خديجة جالساً، غارقاً في تأملاته، فدفعتها الدهشة من استيقاظه إلى أن تسأله:((لم لا تنام يا أبا القاسم))؟.
فيجيبها
…
: "انتهى يا خديجة عهد النوم والراحة، فقد أمرني جبريل أن أنذر الناس، وأن أدعوههم إلى الله وإلى عبادته، فمنذا أدعو؟ ومنذا يستجيب؟ .... (1) ".
وكما حلت الأزمة الأولى عند النبي بصورة غير متوقعة، فإن حل هذه الأزمة يبدو أنه قد فاجأه أكثر من ذي قبل، وبعبارة أخرى أرهقه، وإن مفاجأته في المرة الأولى للوحي، وعناءه وعجزه هذه المرة أمام هذا التكليف غير المتوقع، الذي تلقاه في صورة أمر، ليسجلان في نظرنا حالتين نفسيتين ضروريتين خاصة لدراسة الظاهرة القرآنية بالنسبة للذات المحمدية.
وبوسعنا أن نذكر أن موقف هذه الذات بين الأزمتين وبين حلي المشكلة، لم يكن مطلقاً مطبوعاً بأمل القيام بدعوة، ولكنه كان يبحث فقط عن فضل لمسه من الله منذ الوحي الأول.
ولنا أن نذكر أيضاً أنه فيما يتعلق بفترة الوحي كان جهد محمد اليائس مجرد محاولة لاسترجاع ما فاته من فضل الله.
ونحن نرى أن هذا الجهد يؤكد في الواقع بصورة قاطعة استقلال الظاهرة القرآنية عن ذات موضوعنا (النبي).
وما كان لنا بداهة أن نقرر أن الحل الثاني للأزمة النفسية يمكن أن يتأخر لو كان مصدره هو (اللاشعور)، لدى إنسان لم يسع إلى إخماد الظاهرة وكبتها في نفسه، بل إنه على العكس قد وجه كل إرادته وكل وجوده لتيسير ظهورها.
(1) هذا الخبر غير موجود في كتب الحديث (ف) وفيما لدينا من مراجع السيرة. وإن كان قد ورد في كتاب (حياة محمد) وفي كتاب (أزواج النبي) دون أن ندري لمؤلفيهما مرجعاً. (المترجم)
هذه التفاصيل النفسية تبرز تماماً العزم النهائي عند محمد على قبول دعوته، بوصفها تكليفاً يأتيه من أعلى.
إنه يقبلها في الواقع، ولن يتخلى عنها أبداً، حتى ولو تعرض فيما بعد لسخرية أطفال مكة ولو آذاه وأنذره، وفتك به سادة قريش كأبي لهب وغيره من المشركين.
لا شيء سيرغمه على التخلي عنها، لا المصالح المضيعة لأسرته، ولا توسلات عمه الوقور أبي طالب، عندما يضغط عليه أشراف مكة كما يضع حداً (لفضيحة) ابن أخيه، ولا اقتراحهم عليه أن يتولى أسنى منصب في إدارة المدينة، هذا كله لا يحول الرسول عن طريقه الثابت إلى الأبد منذ حل الأزمة الثانية.
وعندما جاءه عمه لكي يفاتحه في أمر قريش، واضعاً تحت نظره الإجراءات القاسية التي رحموها في حالة ما إذا رفض عروضهم، أجابه وقد دمعت عيناه:"والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه".
وأمام هذه العزيمة الخارقة لم يتمالك ذلك العجوز إلا أن يطمئن ابن أخيه بحمايته حتى النهاية.
فقررت قريش نبذ (محمد) وذويه من المجتمع، وكتبوا بذلك صحيفة علقت في جوف الكعبة.
ولقد حرمت الأسرة المفجوعة بهذه المقاطعة من كل علاقة مع المدينة،. حتى من التعامل الأدبي، أو الزواج من الأسر الأخرى.
وتذكر السيرة أن هذا الميثاق قد أكلته الأرَضة، وأن النبي قد رأى ذلك
مناماً قبل حدوثه، وبذا راجعت قريش مسلكها، وسحبت قرار المقاطعة.
وأياً ما كان الأمر، فإن هذه الصحيفة الظالمة القاطعة، كانت قد سقطت قيمتها بمرور الزمن، وعاد بنو هاشم والمطلب من جديد إلى مكة بعد محن طويلة مهلكة. فعاد النبي يبلغ دعوته في صحن البيت الحرام، ولكن سادة قريش كانوا قد دبروا (مؤامرة صمت) حول دعوته، فكانوا يمنعون الناس من الاستماع إلى تلاوة القرآن.
ورأى النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس لا يقبلون على دعوته، فقرر أن يحملها إلى مكان بعيد، إلى الطائف، لكنه لاقى هواناً أقسى، ومعاملة شريرة في سبيل مهمته، فلقد رماه الناس بالحجارة، وبثوا الأشواك في طريقه، وأغروا به الأطفال والعبيد يسخرون ويستهزئون، فلجأ (الداعية) إلى حائط يحتمي به، دامي القلب من غباوة القوم وشراستهم، ولكن نفسه كانت لا تعرف الحقد؛ لقد كان كل ما فعله أن رفع عينيه إلى السماء، وهو يتمتم بدعاء كله حرارة وخشوع وحب، لا يمكن للنفس الإنسانية أن تصرح بها لحظة كرب كهذه:
وعقب هذه الصدمة القاسية رجع النبي إلى مكة، ولكن محنة أخرى كانت تنتظره هناك.
إن الموت ينتزع منه حاميه الوحيد عمه أبا طالب (1).
وسيترك لنا مشهد النزع والاحتضار تفاصيل تاريخية ثمينة بالنسبة لصورة (رسول الله) النفسية في هذه الحقبة، فلقد كانت هذه في الواقع بالنسبة له أخطر لحظات مهمته التي اختلط فيها الحنو البنوي بهمّ النبي لإنقاذ نفس عزيزة، ترفض النجاة في صلف ومكابرة، فإن ابن الأخ ليهوله أن يموت عمه مشركاً.
وهي لحظة مفزعة له، إذ يتمثل في شخصه ويتحدث على لسانه النبي الذي يتمنى أن ينقذ من كان له نعم الأب. ها هو ذا صوت المحتضَر العجوز يتقطع في الشهقات الأخيرة، فتضرع إليه دون جدوى أن يقر بالإسلام، ولكنه يستجمع قواه المتفانية ليقول:"والله يا بن أخي لولا نحافة السبة عليك وعلى بني أبيك من بعدي، وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعاً لأقررت بها عينك، لما أرى من شدة وجدك"(2)
وانتاب ابن الأخ ألم مبرح، وهو يرى عمه العزيز يغادر الحياة دون أن يغادروثنية آبائه.
هذا المشهد العائلي الرهيب، بين عجوز مشرف على الموت، وابن شجاه الهم والقلق، وغمرته اللهفة والإشفاق، يكشف في إحدى اللحظات الحاسمة عن إخلاص النبي المطلق.
ولكن خسارة أخرى أشد إيلاماً، تحدث قريباً لتغمره حزناً، فبعد قليل فقد (محمد)(صاحبته الحانية الفاضلة).
(1) في رواية ابن الأثير نص على أن خروج النبي إلى ثقيف بالطائف، كان بعد وفاة عمه أبي طالب، وقد اشتد به الأذى، وكذلك نص ابن الأثير على أن موت السيدة خديجة كان قبل موت أبي طالب بأيام تتراوح بين ثلاثة أيام وخمسين يوماً، على اختلاف الروايات، كذا في إمتاع الأسماع [ص:27]. (المترجم)
(2)
السيرة الحلبية ج1 [ص:250].