الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسالة
إن من الواجب ألا نغفل أهمية التأثير السحري للكلمات على بعض العقول ذات التكوين الديكارتي، وخاصة في عصرنا هذا الذي يحتل فيه الأسلوب العلمي مجال الدين. فهناك كلمات ترتدي أقنعة، ولئن عرفت السياسة بعضاً منها، فلقد كان حظ العلم كبيراً، وليس لأحد أن يتصور الخطأ أو العدم الذي تستره هذه الأقنعة، عندما تسيل هذه الكلمات من لعاب قلم مهيب لكاتب كبير، فتطلق كتبه أشباحها لتخطر في عقول كثير من المتعالين، فتزيد من سخافاتها.
وهكذا صار من الشائع في أوساطنا العلمية أن يرجع الباحثون إلى الدراسات الإسلامية التي يقوم بها كتاب، أغرموا بالكتابة في كل شيء؛ فهم يضعون كلمة في مكان حقيقة غابت عنهم، أو لم يحاولوا إدراكها.
وبهذه الطريقة رأينا أن (ذاتاً ثانية) تتدخل في تفسيرهم للظاهرة النبوية، ولا سيما عند (أرمياء)، ذاتاً أكثر من مجردة، وغير حسية، وبعيدة عن الاحتمال، تعد في نظرهم مصدرا لمعلومات الذات الحسية الأصلية. هذه الفكرة الشاذة تذكرنا من قريب بفكرة عزيزة لدى المنجمين هي فكرة (المثل الفلكي)(1).
ولكن لهذه الكلمات الساحرة تأثيراً فعالاً على بعض العقول، أشبه بسحر الصور والرسوم في نظر الأطفال.
(1) المثل الفلكي مأخوذ من فكرة أفلاطون عن عالم المثل وعالم الصور، ولكن بصورة أخرى تناسب أفكار المنجمين الفلكيين. (المترجم)
فمن المعلوم أن من يكون ممتلئاً بالثقة في قيمة بعض الكتاب، لا يبحث عن قيمة الكلمة المعبرة بالنسبة إلى الفكرة التي يعبرون عنها.
ومن هذا القبيل كلمة (لاشعور)، فقد لعبت على أقلام الكتاب دوراً نظرياً هاماً في تفسير الظاهرة القرآنية.
فإذا أردنا أن نفهم معنى هذا المصطلح في نظريات علم النفس، وجدناه في منتهى الغموض، فهو لا يعني شيئاً محدداً كما تعني مثلاً المصطلحات المعروفة كالتذكر والإرادة.
إن نظرية (اللاشعور) ما تزال في مرحلة نشوئها، ومع ذلك فقد استخدموها لكي يفسروا لنا- كما يدعون- الظاهرة القرآنية بطريقة موضوعية. ومن الصعب علينا أن نعتقد أن هؤلاء المؤلفين قد بذلوا أقل الجهد لكي يتفهموا الموضوع.
فمما لا شك فيه أن الذات الإنسانية تحتوي على مجال معين تتكون فيه الظواهر النفسية الغامضة، التي لا تخضع لسلطان الشعور، كالأحلام مثلاً.
فهذا المجال المظلم الذي تدوي فيه بعض طوارئ الحياة النفسية الشعورية في الفرد، ذو علاقة واضحة بالحالات الشعورية، فلو أردنا لأطلقنا لفظ (لاشعور) على هذا المجال المظلم، وجميع العمليات التي تتم فيه أشكال (محوَّرة) خاصة لفكرة أو واقع مرّ بالشعور، فيمتص اللاشعور هذه العناصر الشعورية، ويودعها مخيلته لكي يقلبها غالباً إلى رموز، إلى أحلام، إلى حديث نفسي، إلى إلهام؛ ولكن هذه الرموز تحتفظ بمعالم الفكرة أو الواقع الذي تولدت عنه.
لا شك أن هذه العلاقة تتفاوت في غموضها، ولكن التحليل قد يكشف عنها: إذ من الممكن أن نجد في حلم أو كابوس الطريقة التي اتبعها اللاشعور في
صياغة رمزه بالرجوع إلى حادث سابق تسبب فيه، فهو حساسية خاطفة، أو تذكار قاس، أو هو راجع إلى يسر الهضم أو عسره
…
الخ ..
فاللاشعور يعمل هنا عمل المستقبل الكهربي بالنسبة للمولد الكهربي الذي هو الشعور، وعليه ففي هذا المجال الأخير يجب أن نلتمس دائماً مصدر العمليات النفسية التي يصفونها باللاشعورية.
وعندما يتضح أن فكرة ما لا تخضع مطلقاً للذات الشعورية، فمن الممكن أن نفهم من هذا أنها بالضرورة أجنبية عن هذه الذات، وأنه لا محل لها في اللاشعور.
هذا هو المبدأ النقدي الذي نريد أن نتخذه هنا أساساً لدراسة الوحي القرآني.
***