الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمَذْهَبُ الْغَيْبِيُّ
من الضروري هنا أن نفرض مبدأ متميزاً عن المادة، فالله خالق ومدبر للكون، وسبب أول ينبثق عنه كل موجود، وهذا هو مبدأ المذهب الجديد. وسيتولى هذا المبدأ بيان أصل المادة، وقد وجدناه غامضاً موغلاً في الإبهام في المذهب السابق: فهي مخلوقة بواسطة حتمية مستقلة عن جميع خواصها.
وهذه الحتمية الغيبية (الميتافيزيقية) تسعفنا حين تعجز القوانين الطبيعية عن إعطاء تفسير واضح للظواهر. وبذلك ينتج عنها مذهب كامل متسق متجانس لا نقص فيه ولا تعارض، مما لزم المذهب المادي.
وفي الوقت الذي يعبر فيه المذهب الغيبي عن المطالب الفلسفية للعقل، الذي يرمي إلى ربط الأشياء والظواهر ربطاً منطقياً في تأليف متسق، نجده ينصب علاوة على ذلك جسراً يتجاوز حدود المادة إلى مثال أعلى للكمال الروحي، إلى الهدف الأساسي الذي لم تكف الحضارة عن الاتجاه نحوه، فحلق المادة هنا ينتج من الأمر القاهر لإرادة عليا، تقول لكل شيء حسب كلمة سفر التكوين:(كن).
وتطور هذه المادة سيكون طبقاً لأوامر إرادة، توزع التوازن والاتساق اللذين قد يلاحظ علم البشر قوانينهما الثابتة.
ولكن بعض مراحل هذا التطور ستخفى على الملاحظات المألوفة لرجال العلم، دون أن ينطوي المذهب من أجل هذا على نقص ما، ففي هذه الحالات الاستثنائية نستعين بالحتمية الغيبية التي لا تعارض بينها وبين طبيعة المبدأ.
فحيثما يوجد نقص في المذهب السابق، يوجد تدخل سبب خاص خالق، عالم بخلقه، ومريد.
ولقد نجهل مؤقتاً القانون الذي يسيطر على ظاهرة ما زالت تخفى علينا طريقة حدوثها، ومع ذلك فإن المذهب يظل منسجماً منطقياً مع مبدئه الأساسي، لأن مثل هذه الظاهرة يمكن تسويغها في التحليل النهائي بناء على حتمية مطلقة، فإرادة الله هي التي تتدخل هنا، بينما كانت الصدفة هي التي تتدخل هناك، تلك الصدفة التي تُعَدّ الإله القادر على كل شيء في المذهب المادي.
ولا يغيبن عن نظرنا أن الأمر لا يتعلق هنا- كما سبقت الملاحظة- بالموازنة بين نوعين من العلم، بل بين عقيدتين: عقيدة تؤله المادة، وأخرى ترجع كل شيء إلى الله تعالى.
وليس من نافلة القول أن نقرر أن عالماً كبيراً يستطيع أن يكون مؤمناً كبيراً، على حين أن مسكيناً جاهلاً يمكنه أن يكون جاحداً كبيراً أيضاً؛ والأمر هكذا غالباً. وعندما نصادف حالة عجيبة لعالم يقول إن القرد جد للإنسان، فيجب أن نفكر أيضاً في ذلك الوثني المتواضع على شاطئ نيجيريا، الذي يعتقد تماماً أنه قد انحدر من جَدٍ تمساح، فليس لدى كل من هذين الرجلين، العالم والبدائي، سوى فكرة غيبية يعبر عنها كل منهما بطريقته.
إن عصور الاضطرابات الاجتماعية، والاختلال الروحي هي وحدها التي تخلق الصراع بين الدين والعلم.
ولكن كما تواردت أحداث التاريخ، في روسيا مثلاً إبان الحرب الأخيرة، وفي فرنسا عقب ثورة 1789م، وجدنا أن آلهة العلم قد انهارت على نحو يدعو إلى الرثاء، لتفسح مجالاً للعلم وحده، ذلك الخادم المتواضع للتقدم الإنساني، ومع
ذلك فمنذ الاستكشافات الأخيرة لعلم الفلك فطن العلم إلى نطاقه المنتهي المحدود؛ وفيما وراء السديميات السحيقة في البعد، وراء ملايين السنين الضوئية، وربما ملياراتها، تمتد الهاوية التي لا قرار لها، إلى اللانهائية التي يستحيل الوصول إليها، أو حتى إدراكها بالنسبة للفكر العلمي، إذ لا يجد هذا التفكير موضوعه الخاص وهو: الكم والعلاقة والحالة.
فأي كم؟ وأية علاقة؟ وأية حالة؟
كل هذه الأسئلة لا معنى لها خارج حدود المادة، والعلم نفسه لا معنى له وراء السديميات الأخيرة التي تقف على الحدود بين عالم الظواهر، واللانهاية اللامادية.
وراء هذه الحدود يستطيع الفكر الدينى وحده أن يقول شيئاً واضحاً بيناً: (الله يعلم).
***