الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أخرويَّات
إن خلود الروح، تلك الفكرة الجوهرية في الثقافة التوحيدية، يستتبع نتائج منطقية هي: نهاية العالم، يوم الحساب، الجنة، النار.
هذا المجال لم تلق عليه الكتب العبرية إلا شعاعاً خافتاً، لأنها كانت مهتمة بالتنظيم الاجتماعي لأول بيئة توحيدية. ثم جاء الإنجيل فزاده إيضاحاً حين ألح على بني إسرائيل في تذكيرهم (بأيام الله)، ذلك المفهوم الموجه إلى مجتمع موحد قطع في طريق التطور شوطاً. وسنرى أن القرآن يبرز في هذا المجال الأخروي إبرازاً مؤثرا، فلقد قصت فيه رواية الخلود بنبرة خاشعة رهيبة، في أسلوب فاق الذروة في بلاغته، وقد بثت في أنحائه صور ومشاهد تسكب الخشية في قلوب العباد مما لا يمكن معه لإنسان- حتى في هذه الأيام- أن يصدف عن مشاهده الهائلة.
إن مشاهد القيامة في القرآن ذات حقائق خلابة، والشخصيات التي تحتويها تتكلم وتتحرك، فالملك، والشيطان، والأبرار والأشرار، كل هؤلاء يتسمون بواقعية لا تغفل أدق التفاصيل النفسية، ولا تهمل أية كلمة من شأنها أن تذكر بأهوال تلك الساعة الرهيبة، والزمن نفسه يمتد، والحكم يصدر و {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج 70/ 4]. ثم يعلن مشهد الختام في ذلك الفصل الرهيب:{فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد 13/ 57]. هذا هو المقام الخالد
للسعداء وللأشقياء، وليس في الوجود كله مشهد يماثل هذا المشهد في الحركة، أو يفوقه في الألوان التي تتوالى في مختلف سور القرآن.
من هذا المشهد الرائع، وبعد ستة قرون من الزمان، قبست عبقرية (دانتي) لوحاتها الخيالية في (الكوميديا الإلهية)، وقد أوحى إليه بها ما كتبه المعري في (رسالة الغفران (1)).
…
(1) أسين بالاسيو Les Escatalogia Musulmana أو (أخرويات القرآن في الكوميديا الإلهية) أورده العلامة تيري.