الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما وراء الطبيعة
تهدف فكرة التوحيد من الناحية الميتافيزيقية إلى إثبات وحدانية الله، إذ هو العلة الوحيدة التي تدخل في تكوين الظواهر وفي تطورها، وهو الذي يحكمها بما يتصف به من القدرة المطلقة والبقاء والإرادة والعلم. الخ .. ومع ذلك فإن الاسلام سيعرض عقيدته الغيبية الخاصة بطريقة أكثر مطابقة للعقل، وأكثر تدقيقاً، وفي اتجاه أكثر روحية.
والواقع أن الكتب العبرية تكشف عن بعض التشبيه، ومن المحتمل أن يكون قد دخلها بطريقة مفاجئة عقب (التلفيق) الذي وصفناه في فصل (الحركة النبوية).
ويتجلى هذا التشبيه ورؤيا يعقوب المروية في سفر التكوين: "ورأى حلماً وإذا سلم منصوبة على الأرض ورأسها يمس السماء وهو ذا ملائكة الله صاعدة ونازلة عليها، وهو ذا الرب واقف عليها فقال أنا الرب إله إبراهيم أبيك وإله إسحاق."[سفر التكوين- الفصل الثامن والعشرون- الفقرتان 12 و 13] ومن ناحية أخرى، فإن تعاليم الربانيين كانت قد أقامت على الوعد الذي تلقاه إبراهيم، وعلى ميزة الاختيار (1) التي كانت ليعقوب عقيدة دينية قومية: فالله سبحانه وتعالى قد أصبح في تلك العقيدة- على وجه التقريب- ألوهية قومية. حتى إن جوهر الحركة النبوية منذ (عاموس) إلى (أشعياء الثاني)
(1) اختيار إسحق لولده يعقوب لتكون النبوة فيه وفي عقبه. (المترجم)
سيكون بالتحديد رد فعل لهذه الروح الأنانية، فجميع الأنبياء الذين ينتهون إلى تلك الحركة الإصلاحية كأرمياء سيبذلون قصارى جهدهم ليؤكدوا وجود الله (رب العالين).
ومع ذلك فإن العقيدة المسيحية قد اخترعت من جانبها ذاتاً إنسانية في الأقانيم الإلهية، وبهذا نشأت عقيدة جوهرها:
وتولد عن هذه العقيدة التفسير المسيحي الذي سيقبس من الثقافة الإسلامية المنطق الأرسطي، لكي ينشئ عقيدة دينية ثالوثية، قائمة على سر الثالوث الأقدس.
بينما اتجه الوحي القرآني إلى أن يقرر النتيجة الحاسمة للفكرة التوحيدية:
(الله واحد، مخالف للحوادث، رب للعالمين). فأخرج بهذه الطريقة الحاسمة ذات الله جل شأنه من نطاق الأنانية اليهودية، والتعدد المسيحي. ولقد تقررت هذه العقيدة الجوهرية للإسلام الموحد في سورة من أربع آيات:
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [سورة الإخلاص 1/ 112 - 4].
وفي هذه الآيات يتجلى (الإخلاص) طابعاً خاصاً بالفكرة القرآنية؛ فلقد قضى على فكرتي التعدد والتشبيه دون نقض أو إبرام. أما ما بقي من صلة بينه وبين الأديان الأخرى فهو في روح الآيات إن لم يكن في نصها، وهكذا يتقرر بجلاء الأساس النظري الذي ستنبثق عنه الدراسات الدينية الإسلامية وتتطور، ثم تنتقل منه إلى المسيحية على يد (توماس الإكويني)، وإلى اليهودية على يد (موسى بن ميمون).
وإذا بفلسفة دينية نابعة من القرآن تتغلغل في أعماق الثقافة التوحيدية، ولسنا ندري إلى أي مدى كانت الثورات التالية في الفكر المسيحي- منذ الحركة الألبية ( Albigeois) حق حركة الإصلاح، محتسبة بوصفها نتائج مباشرة أو غير مباشرة للفهم الميتافيزيقي في القرآن.
ومن الجحود أن نجهل الطابع الأصيل لهذا الفهم، وأهميته في تطور المشكلة الدينية في العالم اليهودي المسيحي، كما أنه من الجحود أيضا لهذا التأثير العقيدي الإسلامي أن نقول مع (الأب تيري R.P.G.Thery) :
" حرم النبي صراحة أي استخدام للعقل في المشكلة الدينية، لأن وجود الله لا يمكن البرهنة عليه، والاجتهاد أو انطلاق العقل ليس من التوجيهات الأساسية للقرآن (1) ".
فالقول بهذا يعني أننا ندرس في مقدمات مسيحية ثم نطبق نتائجها على مشكلة إسلامية، وتلك بكل أسف- هي العادة الغالبة على بعض الدراسات، كما فعل العلامة الشهير (جينيوبيرت Guignebert) ، فإنه بعد أن درس العناصر التي تسم (تطور العقيدة) اليهودية المسيحية، طبق نتائجها بطريقة غير متوقعة على تطور العقيدة الإسلامية كأنما كانت موضوع دراسته (2).
…
(1) محاضرات عن (الفلسفة الإسلامية والثقافة الفرنسية) للأب تيري الأستاذ بالمعهد الكاثولكي في باريس [ص:25].
(2)
جينيوبيرت Guignebert في (تطور العقيدة).