الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذه الفجيعة المزدوجة مسته وأثرت عليه في أعمق مشاعر الإنسان، وأصابته بالقدر نفسه في مصلحة دعوته، فقد فقَد بفقده عمه وزوجه العضد الأدبي والمادي الذي كان يؤيده في مكة، وفضلاً عن ذلك فإن إقامته ستصبح في الحال مستحيلة، فإن قريشا ًالتي كانت مهابة أبي طالب تفزعها قد انطلقت الآن من عقالها، ورأت أن الوقت قد حان لتدبر مقتل النبي لإنقاذ مصالحها السياسية، وامتيازاتها التجارية بين القبائل العربية (1).
لقد حيكت مؤامرة، تشترك فيها القبائل جميعاً، حتى لا يقع دم الضحية على عاتق قبيلة بعينها.
المرحلة المدنية
بينما كانت مكة تتآمر ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت المدينة على العكس من ذلك تهيئ له استقبالاً حماسياً حافلاً.
وكانت بيعة العقبة- ميثاق النبي مع رجال المدينة الملقبين منذ ذلك الحين بالأنصار- وهمةُ النقيب مصعب بن عمير، الذي عرف كيف يكسب للإسلام كثيراً من عواطف يثرب، كان هذان العاملان هما اللذان مهدا للهجرة.
وفي إحدى الليالي، بينما كان المتآمرون يحيطون ببيت النبي، خرج تحت أعين أعدائه، دون أن يروه- كما جاء في الخبر- ولقد نجح في الوصول إلى ضواحي مكة برفقة صاحبه أبي بكر، فلجأ إلى (غار ثور)، حيث كان على الدليل الذي اتفقا معه أن يلحق بهما مع نوقه حاملاً المؤونة في يومين أو ثلاثة لتضليل المطاردين، ولكن الرجفة كانت قد أخذت مكة ساعة رحيل المهاجرين، فقامت قريش على آثارهما.
(1) يذهب بعض ذوي الرأي إلى أن دافع المؤامرة كان أعم من هذا، إذ كان في جوهره دفاعاً عن عقيدتهم التي سفهها الدين الجديد. (المترجم)
إن من يعرف حياة الصحراء، يدرك تماماً ضآلة الفرصة التي كانت أمام النبي وصاحبه للنجاة، ولقد بلغ القافَة فعلاً مدخل الغار، لكنهم لم يتجاوزوا عتبته، وتفسر السيرة هذه الحادثة الغريبة بتدخل معجز لحمامة ورقاء ولعنكبوت واهن.
وأية كانت وجهة الأمر، وحتى لو كانت تعليقات السيرة قد أمكنها أن تتدخل في تفسير هذا الحل العجيب، فإن القيمة التاريخية للحادثة ليست بأقل ثبوتاً، فهي- في الواقع- مقررة في أوثق مصادر ذلك العصر، وهو القرآن؛ وقد ورد الحادث صراحة في قوله تعالى:
وواضح من هذا أن القدر قد يمهد سبله بطريقة غير مفهومة أحياناً، تحير الخواطر والعقول.
ونحن نرى لفائدة دراستنا هذه أن نهتم بالتفصيل النفسي في هذه الحادثة التاريخية، ذلك التفصيل الذي تدل عليه سكينة النبي، حين كان يطمئن رفيقه، في هدوء يفوق طاقة البشر، بينما الخطر والموت على قيد خطوات؛ وإن إخلاص النبي الذي نؤكده في هذا القياس الأول بوصفه شرطاً ضرورياً، لاستخدام الآيات القرآنية وثائق نفسية ثابتة، هذا الإخلاص يتجلى هنا بوضوح وبصورة روائية في تلك اللحظة الحاسمة.
وأخيراً، فحينما انسحب المطاردون استطاع المهاجران أن يأخذا طريقهما إلى يثرب موطن الأنصار، الذين أعدّوا لهما استقبالاً عظيماً، وغيرت مدينة (يثرب)
اسمها فأصبحت (مدينة الرسول) كما تخص نفسها تماماً للدعوة والداعية (1).
وعلى أسطح المنازل، ترقب النساء والأطفال مقدم المهاجرين العظيمين، واستهلوا العهد الجديد، عهد الهجرة. بأنشودة، ترددها منذ ذلك الحين أجيال الإسلام:
طَلَعَ الْبَدْرُ عَلَيْنَا
…
مِنْ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعْ
وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَيْنَا
…
مَا دَعَا للهِ دَاعْ
أَيُّهَا الْمَبْعُوثُ فِينَا
…
جِئْتَ بِالْأَمْرِ الْمُطَاعْ
وبينما كانت هذه الأنشودة تنطلق من كل مكان، كان المهاجرون والأنصار يعقدون فيما بينهم أواصر الأخوة الإسلامية، أساس المجتمع الجديد والحضارة الجديدة.
ولكن، كم من المشاكل التشريعية والدينية والسياسية والعسكرية سيواجهها هذا المجتمع الناشئ؟. إن حل هذا الحشد من المشاكل هو الذي سيظهر فيه النبي صلى الله عليه وسلم عبقرية ذات رحابة لا مثيل لها، مستهدياً بالوحي الذي يجإء حاملاً دائماً الشعاع العلوي والكلمة الأخيرة.
وسيكشف (الرجل) عن ذكاء عجيب، وعن حكم على قيم الأشياء، وعلى نفسية الرجال منزَّه تقريباً عن الخطأ، كما يكشف عن إرادة لا يعتريها الوهن. لقد تتبعنا حتى الآن خطواته داعية فحاولنا أن نفهم حركات قلبه، وخلجات نفسه، وأن نكتشف في إشاراته وفي دعوته الدلائل الناصعة على خشوعه وإيمانه وإخلاصه المطلق.
(1) أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم على يثرب (طابة أو طيبة) حين نزلها في الهجرة، وأطلق عليها (مدينة الرسول) في المناسبة نفسها وما تلاها (معجم البلدان لياقوت ج2 ط بيروت). (المترجم)
وإذا كانت الرحلة المكية في جوهرها عهداً روحياً، هو عهد النبي الداعية الذي يرشد المصطفين الأخيار، فإن المرحلة الدنية استمرار للمرحلة الأولى، ونتيجة زمنية لها في وقت واحد، فالنبي والقائد سيتحدان الآن في ذات واحدة تدعو وتقود جموع المؤمنين.
وإنه لمن الواجب حقاً أن يتبع فن قيادة الجماهير ما يتصل بنفسية الفرد، فإن مشاكل مجتمع ما لا يمكن أن تحل بالأسلوب الرائق الرشيق فحسب، ولذلك فإن الرسول سيتيح لنا أثناء شغله في حل تلك المشاكل جميعاً أن نكمل صورته النفسية بمظهر عقلي، إذ عندما يضطرم نشاطه يمكن أن نفهم ألوان فكره، وأن نقوِّم نسيج إرادته، وأن نقدر قيمة حكمه على الآخرين وعلى نفسه أيضاً.
وإنه لزعم غريب أن نحاول الإحاطة بجوانب هذا المظهر العقلي جميعاً، فذلك يستلزم أن نلم بتاريخ العبقرية الفذة كله في الحدود الضيقة لهذا الفصل. بل إننا سنقتصر على أن نضع بعض المعالم التي تؤدي إلى النتيجة المقصودة من هذا القياس.
سيكون شغل النبي الشاغل بالمدينة أن يقر فيها السلام، ويخلصها من خصوماتها الداخلية، ويصلح ما بين الأوس والخزرج، لتنظيم دفاع فعال ضد الأعداء في الخارج:(قريش).
إن ساعة الجهاد ستؤذن عما قريب.
ولقد كان هذا مثار دهشة وعجب لدى النقاد المحدثين، فهم لا يفهمون أن (الداعية) يدعو هكذا إلى حمل السلاح، ولكن إذا كان النبي قد حمل السيف فلأنه كان يعلم جيداً أن مكة لن تلقي السلاح، وسيعطيه التاريخ على ذلك البرهان القاطع.
ولا مجال هنا لأن نعقد موازنة بين المسيحية والإسلام في هذه النقطة، فإن الظروف التاريخية ليست واحدة، إذ تواجه الأولى من الداخل دولة منظمة
تحطم أجهزتها، على حين أن الإسلام يواجه دولة منظمة نوعاً ما من الخارج هي مكة، فكان عليه أن يختار بين أن يحطمها أو يتحطم، وفضلاً عن ذلك فإن هذه الظروف يفرضها مجرى الحوادث نفسه إذ أن الجهاد يعد من الناحية التاريخية نتيجة للهجرة.
هذه الظاهرة نفسها قد حدثت في تاريخ اليهودية، عندما واجه بنو إسرائيل بقيادة موسى ويوشع من الخارج، دولاً منظمة على شاطئ نهر الأردن.
فالرسول إذن سينظم صفوفه من أجل الصراع المسلح الذي سيفتح له أبواب مكة في السنة الثامنة من التاريخ الجديد، ولكن كم سيعترض الدعوة من عقبات قبل هذا الموكب العظيم الذي يدوخ، يوم دخول المسلمين مكة، ذلك الصَّلِف أبا سفيان؟ إن مجموعة من الأسماء المهيبة ستدوي منذ ذلك الحين في أركان التاريخ العالي:
بدر
…
أحد
…
الخندق
…
حنين ..
لسوف تعرض الملحمة المحمدية آنذاك على شاشة التاريخ مجموعة من الأحداث الأسطورية، حتى كأنها رواية سحرية. ها هو ذا حلم (آمنة) القديم، عندما كانت تهز بين أحضانها ثمرة أحشائها، وعندما كانت يخيل إليها أنها تسمع صهيل الخيل وعدو الفرسان وقعقعة السلاح، هذا الحلم القديم سيتحقق اليوم على صفحة الواقع.
وفي هذه الملحمة سيتدخل القائد دائماً لكي يفصل في حالة دقيقة، ولكي يتخذ قراراً سياسياً هاماً، ولكي يضع خطة استراتيجية، ولكن النبي هناك دائماً، يشرف على أعمال القائد، ويمضي قراراته من وجهة نظر دعوته، التي تخلع على كل تفصيل في هذه الملحمة الطابع الروحي الضروري الذي ينسبه إلى الله.
وسنجد (محمداً) عندما ستدق ساعة بدر، بعد أن يكون قد اتخذ أهبته الحربية الكاملة، نجده وقد شعر بخطورة اللحظة التي ستقرر مصير الإسلام،
وقد رأى التفوق العددي لأعدائه بالنسبة لحفنة الرجال التي يقودها، نجده يرفع عينيه إلى السماء:
"اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض، اللهم أنجز ما وعدت".
وهذه الكلمات البسيطة تدل بوضوح على أن (بدراً) ليست كمعركة (كان)(1) أو (استرليتز)(2) أو (سنغافورة)(3).
ولقد كانت هذه الملحمة تتحرك بعبقرية (محمد) القادرة، وإرادته الخارقة، متتبعة وثباته من نصر إلى نصر .... حتى حنين.
وإن عمق آرائه ليحير أحياناً صحابته أنفسهم، فإن أول عمل دبلوماسي أمضاه مع مبعوثي مكة، سيكون بالنسبة لبعض الصحابة موضع دهشة ومبعث عار تقريباً، فلقد جاء الرسل من مكة لكي يصلوا مع النبي إلى أن يسلمهم من وقت توقيع المعاهدة كل مكي يأتي هارباً إلى معسكره، إذ أن كثيراً من المؤمنين المستضعفين بمكة سيهربون من اضطهاد قريش، ويجيئون لينشدوا الأمان في مدينة الأنصار.
ولقد وقع النبي صلى الله عليه وسلم المعاهدة التي طبقت في الحال دون أن تكون ذات أثر رجعي، وبدا هذا النص العجيب وكأنما قد أتاح لمكة نصراً دبلوماسياً، تذمر منه المسلمون ورأوه فضيحة لهم. وفي اللحظة التي كان المبعوثون يتبادلون فيها وثائق التصديق، تقدم هارب مكي إلى المعسكر الإسلامي، فطالب به رسل مكة في
(1) معركة سحق فيها القائد القرطاجني هانيبال الجيش الروماني منزلاً بذلك الرعب في قلب روما في القرن الثالث قبل الميلاد.
(2)
معركة اكتسح فيها نابليون الجيش النمساوي عام 1804م.
(3)
معركة تم فيها للجيش الياباني بعد هجوم هائل في شبه جزيرة مالقه استسلام القوات الإنجليزية التي كانت تدافع عن هذه القلعة عام 1943م. (المترجم)
الحال، ولم يملك النبي إلا أن يسلم بالواقع، مثيراً بذلك ذهول صحابته، وأعيد الأسير، ولكنه أثناء الطريق غافل القوم وهرب منهم، وأوى إلى مكمن احتمى به، وبعد قليل انضم إليه كثير من إخوانه الذين هربوا مثله من الاضطهاد، وإذا بهؤلاء الخارجين على القانون قد نظموا على الطريق نهباً لقوافل مكة، فشلوا بذلك، وفي زمن قليل، تجارة المدينة القرشية كلها، حتى إنها رأت أخيراً أن تتوسل راغمة إلى النبي ليقبل المؤمنين الهاربين إلى معسكره. وجملة القول إن النبي قد ظفر بجميع امتيازات المعاهدة التي بطل منها الشرط الوحيد القاسي، أبطله المنتفعون به أنفسهم.
وهكذا بينما كان (النبي) يقود في سبيل الله (فيلق) الشهداء الذين اتبعوه، كان (القائد) يلقن أبطال ملحمته أسمى دروس الدبلوماسية والاستراتيجية الحربية، جاعلاً من المسلمين بهذا التوجيه المزدوج أعظم الفاتحين نزاهة، في الوقت الذي يعدون فيه أكمل المستنيرين في التاريخ.
لم يصنع الرسول نفوساً مؤمنة تقية فحسب، وإنما صنع عقولاً مستنيرة. وطرق إرادات فولاذية، إنه ينهي الشعور بالمسؤولية، ويشجع المبادأة في كل إنسان، ويعظم الفضيلة في أبسط صورها، وإن التأسي والمسارعة لهما رائد كل عضو في الجماعة، إذ يرى نفسه في سباق إلى الخير، بحسب أمر القرآن.
وعندما قاد النبي أصحابه إلى (تبوك) كانت نيته تبدو أبعد كثيراً من هذا الهدف المتواضع، فهو يعبر الصحراء العربية، في حَمارّة القيظ مضطراً رجاله العطاش، الذين أضناهم التعب، أن يستمروا في طريقهم دون أن يحطوا رحالهم عند (آبار مدين).
لم يكن هذا من الفن الحربي فحسب، ولكنه كان من التربية العالية، وإن هذا السير الذي لم يسمع بمثله في منظره الهائل ليكشف- زيادة على ذلك- عن
عملية تدريب بدني ونفسي في آن واحد، لإعداد الجيش الإسلامي كيما يواجه عما قريب الأسفار والعقبات في جميع أرجاء العالم.
ولقد احتمل بنفسه كل المتاعب التي فرضها على جنده خلال هذه الحقبة المضنية، فهو مسير هائل ورائع سيوحي إلى (دينيه Dinet) بصفحة خالدة، ارتبطت فيها عبقرية مصور الصحراء المبدع بنفس المؤمن المضطرمة.
و (محمد) باعتباره (نبياً) يلتزم دائماً في سلوكه الشخصي الحقيقة المنزلة، فهو يقوم جزءاً كبيراً من الليل متنفلاً، ولكنه لا يلزم أتباعه بذلك.
وهو مع كونه (قائداً)، لا يستأثر بأية ميزة دون صحابته، بل إن سلوكه الشخصي يعرفهم بحدود الجهد الإنساني، فلقد كانوا يؤسسون في المدينة أول مسجد في الإسلام على تقوى من الله ورضوان، ولقد كان النبي كما كان صحابته يحملون الأحجار على أكتافهم، وكل منهم يحمل لبنة، ولكنه يلحظ مؤمناً متواضعاً هو عمار بن ياسر يحمل كل مرة لبنتين، فيخاطبه ليذكي حماسته قائلاً:" للناس أجر ولك أجران (1) ".
وهكذا كانت سائر المناسبات تتيح له أن يشجع صحابته ويعلمهم أيضاً.
وهو لا يريد أن يدع شيئاً يشوب صفاء أصحابه أو يثني جهودهم الخالقة. إنه يقاوم الخطأ، وخاصة عندما يأتي اعتباطاً بما يشبه المعجزة لتأييد دعوته، فكأنه كان يهتم بأن يبعد عقول أصحابه عن (المعجزة الدارجة) التي تخاطب الجوارح.
ففي يوم دفن ولده الوحيد (إبراهيم) الذي رآه يكبر، حدث كسوف كلي، وفسر الناس الظلمات المفاجئة بأنها آية على مشاركة الطبيعة للنبي في حزنه، ولكنه صحح في حزم خطأ صحابته قائلاً: " إن الشمس والقمر آيتان
(1) الروض الأنف- الجزء الثاني [ص:13].
من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته" (1).
هذا التفصيل التاريخي الذي ترويه السيرة ببساطة، يثبت لنا إخلاص (محمد المطلق)، ويرينا اقتناعه الشخصي لم يكن قائماً على شبه معجزة.
وعلى كل حال، ففي ضوء وثيقة نفسية كهذه لا يمكن أن نعد هذا الاقتناع نتيجة استعداد عقلي غير سليم، واتجاه منحرف لتفسير بعض الأحداث العارضة داخل الذات، أو الخارجة عنها بأنها آية علوية، إن محمداً ذو فكر موضوعي، لا يميل إلى تأييد دعوته بغير معجزته الوحيدة:(القرآن).
إن الملحمة المحمدية قد بلغت الآن أوجها، ووصلت دعوة النبي إلى نهايتها، وإنه ليستشعر ذلك. وهو يودع صاحبه معاذ بن جبل ويملي عليه وصاياه الأخيرة، وهو ذاهب إلى اليمن لينشر دعوة الإسلام قال:" لو حدث لي أن أراك يوماً فسأوجز لك ما عندي من الوصايا، ولكن هذه هي المرة الأخيرة التي أحادثك فيها، ولن نجتمع إلا يوم الحشر (2) ".
ولقد كان لدى أبي بكر وعمر الشعور نفسه نحو النبي، فلقد كانا يعتقدان أن أجل الوحي قد دنا، وأن إشارة إلى نهاية النبي القريبة قد وردت في قوله تعالى:
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر 110/ 1 و 2 و 3].
فمن كل وجه، يبدو النبي مهتماً بدنو أجله، وأنه يأخذ أهبته الأخيرة، فهو يريد أن يملي وصاياه على الأمة، واختار لذلك مناسبة عظيمة حافلة، فأعلن عن رغبته في أداء فريضة الحج ذلك العام، وغادر المدينة ومعه آلاف الحجاج،
(1) رواه البخاري.
(2)
ليس لهذا الخبر أثر في كتب الحديث (ف).
وانضم إليهم الحجاج الواردون من أنحاء الجزيرة إلى مكة، وهنالك أدى النبي شعائر الحج كلها، كأنه يريد تسجيلها إلى الأبد في ذاكرة معاصريه لتنتقل من بعدهم إلى أعقابهم، ثم إنه صعد عرفات على ظهر ناقته، وألقى خطبته الأخيرة، خطبة الوداع، واختير صحابي جهوري الصوت ليكررها للناس جملة جملة.
وفي غروب الشمس، بينما كان شبحه المحلق على قمة عرفات، يبدو مرتحلاً عن الدنيا، كأنه نهار يتلاشى في الأفق، كانت كلمات خطبته تصل الجموع كأنما تخلص إليها من صوت علوي، وكانت الجموع المتأثرة الصامتة تنصت إليه خاشعة متصدعة، وأخيراً صاح النبي:((ألا هل قد بلغت؟)) فأجابته الجموع الحاشدة، التي بلغت قمة الانفعال، في صوت واحد .. ((اللهم نعم)) (1).
وفي تلك اللحظة هبط الوحي، كأنما ليضع الخاتم على هذه الدعوة، فبركت الناقة- كما روي- على ركبتيها، وأرغت من الألم، وكانت خاتمة الوحي كما ورد في الخبر قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة 5/ 4].
وسيطلق على هذا الموسم في التاريخ (حجة الوداع).
والواقع أن أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله منذ الآن، حتى اليوم الأخير لن تكون إلا وداعاً لأهله ولأصحابه ولأمته، ولهذا العالم الذي خط له بعمقٍ مصائره.
فضلاً عن ذلك، فإن هذا اليوم الأخير قريب جداً، إذ حينما عاد إلى المدينة وافاه مرض الموت، الذي أنهى ملحمته العجيبة وختم دعوته المبلغة.
(1) هذه رواية البخاري، وفي المقريزي " قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت " وهي تقرب مما جاء بالأصل. (المترجم)
وفي الصلاة الأخيرة التي أقامها بنفسه في المسجد، أعلن للحاضرين رغبته في أن يقضي ما عليه من ديون قائلاً: " أيها الناس من كان عنده شيء فليؤده ولا يقل فضوح الدنيا، ألا وإن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة
…
وإن عبداً خيّره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده " (1).
لقد ذاب الصحابة الذين أدركوا هذه الإشارة في دموعهم، وبعد شهوده يومين أو ثلاثة صلاة الجماعة، لزم حجرة زوجه عائشة حتى النهاية. وعندما حل الأجل، كان رأسه مستنداً إلى ذراع زوجه التي سمعته وهو يتمتم بتلك الكلمات الأخيرة:"اللهم في الرفيق الأعلى"(2).
كان هذا هو الكلام الأخير الذي ختم بالنسبة للتاريخ حقيقة هذه الذات التي حاولنا تخطيط صورتها النفسية، لكي نجلو الظاهرة القرآنية.
ولقد حاولنا حين جلونا معالم هذا الوجه المثالي أن نبرز السمات الخاصة بمحمد (الرجل) لي نتلقى منه- في بحثنا للقضية- شهادته على محمد (النبي).
ولا شك أن هذه الشهادة تكون عنصراً ثميناً في دراستنا، فهي على كل حال شهادة رجل شهد له زمانه على لسان امرأة، بهذا الحكم الأخير (3):"أي رسول الله!! أنت حتى في قبرك، أملنا الغالب، لقد عشت بيننا طاهراً مخلصاً منصفاً، وكنت لكل إنسان هادياً حكيماً منيراً"(4).
(1) كذا في رواية ابن الأثير ج 2 [ص:116] الطبعة المنيرية 1349هـ.
(2)
رواه البخاري.
(3)
ورد هذا في رثاء عمته صفية. (المؤلف)
(4)
لعل هذه ترجمة لبعض ما أنشدته عمته السيدة صفية في رثائه من مثل قولها:
فإما تمس في جدثٍ مقيماً
…
فقد ما عشتَ ذا كرم وطيب
وكنتَ موفقاً في كلِ أمر
…
وفيما نابَ منْ حدثِ الخطوب
وقولها:
فلقدْ كان بالعباد رؤوفاً
…
لهم رحمةً وخير رَشيد