المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الظاهرة النفسية عند أرمياء - الظاهرة القرآنية

[مالك بن نبي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الفرنسيةللمرحوم الدكتور الشيخ محمد عبد الله دراز

- ‌شكر وتنبيه

- ‌تقديمفصل في إعجاز القرآنللأستاذ محمود محمد شاكر

- ‌مدخل إلى دراسة الظاهرة القرآنية

- ‌مَدْخَلٌ إِلَى دِرَاسَةِ الظَّاهِرَةِ الْقُرْآنِيَّةِ

- ‌الظَّاهِرَةُ الدِّينِيَّةُ

- ‌الْمَذْهَبُ الْمَادِّيُّ

- ‌الْمَذْهَبُ الْغَيْبِيُّ

- ‌الحركة النبوية

- ‌الحركة النبويّة

- ‌مبدأ النبوة

- ‌ادعاء النبوة

- ‌النبي

- ‌أرمياء

- ‌الظاهرة النفسية عند أرمياء

- ‌خصائص النبوة

- ‌أصول الإسلامبحث المصادر

- ‌أصول الإسلامبحث المصادر

- ‌الرسول

- ‌عصر ما قبل البعثة

- ‌طفولة النبي- مراهقته

- ‌الزواج والعزلة

- ‌العصر القرآني

- ‌المرحلة المكية

- ‌المرحلة المدنية

- ‌كيفية الوحي

- ‌اقتناعه الشخصي

- ‌مقياسه الظاهريمقياسه العقلي

- ‌مقياسه الظاهري

- ‌مقياسه العقلي

- ‌مقام الذات المحمدية في ظاهرة الوحي

- ‌الفكرة المحمدية

- ‌الرسالة

- ‌الخصائص الظاهرية للوحي

- ‌التنجيم

- ‌الوحدة الكمية

- ‌مثال على الوحدة التشريعية

- ‌مثال على الوحدة التاريخية

- ‌الصورة الأدبية للقرآن

- ‌مضمون الرسالة

- ‌العلاقة بين القرآن والكتاب المقدس

- ‌العلاقة بين القرآن والكتاب المقدَّس

- ‌ما وراء الطبيعة

- ‌أخرويَّات

- ‌كونيات

- ‌أخلاق

- ‌اجتماع

- ‌تاريخ الوحدانية

- ‌قصة يوسف في القرآن والكتاب المقدس

- ‌جدول التفاصيل القرآنية في قصة يوسف

- ‌النتائج الموازنة للروايتين

- ‌البحث النقدي للمسألة

- ‌الفرض الأول

- ‌الفرض الثاني

- ‌موضوعات ومواقف قرآنية

- ‌موضوعات ومواقف قرآنية

- ‌إرهاص القرآن

- ‌ما لا مجال للعقل فيهفواتح السور

- ‌المناقضات

- ‌الموافقات

- ‌المجاز القرآني

- ‌القيمة الاجتماعية لأفاكار القرآن

- ‌المسارد

الفصل: ‌الظاهرة النفسية عند أرمياء

‌الظاهرة النفسية عند أرمياء

لقد قدم لنا (أرمياء) على الظاهرة النبوية شهادة من أقيم الشهادات وأصرحها، فقد أورد تفصيلاً وصفياً ذا أهية قصوى لسلوكه الخاص حيال الظاهرة، وأشركنا في تأملاته المرة أحياناً، تلك التأملات التي توحي بها إليه حالته، فقال:((لقد صرت محور سخرية طيلة النهار، فالجميع يهزؤون بي، لأني كلما تكلمت وجدتني مضطراً لأن أصرخ، وأعلن الجبروت والخراب؛ لقد صارت كلمة الله بالنسبة لي مصدر عار واستهزاء مستمر، فإذا قلت: لم أعد أذكره، أو أتكلم باسمه، وجدت في قلي كالنار المضطرمة المستكنة في عظامي، فأحاول أن أطفئها، ولكني لا أستطيع)) (1).

وإذن فـ (أرمياء) يرسم بطريقة ما الخطوط الداخلية لذاته، ونحن نجد في وصفه هذا ثلاثة عناصر مترتبة متميزة:

أولها: الاحتراق العميق لمشاعره المضطربة، من جراء الاستهزاء الذي يلقاه.

وثانيها: إرادته أن يتخلص من دعوته، بامتناع ناتج عن تأمل وإعمال فكر.

وثالثها: عنصر ثابت يبدو أنه يطبع هذه الحالة النفسية كلها، ويطوق إرادة ذات النبي، وهو الذي يشير إليه ما يجده في قلبه (كالنار المضطرمة).

هذا العنصر الأخير هو الذي نعده العنصر الجوهري في الحالة الداخلية للنبي،

(1) أنبياء بني إسرائيل ص 192 - 193 بالفرنسية لـ (أندريه لودز).

ص: 95

إذ هو يحدد بصفة نهائية سلوكه في المستقبل، وهذا السلوك يعد قطعاً جوهر حياة النبي. ولنا أن نعد هذا العنصر عاملاً دائماً مطلقاً عند النبي، فإن (أرمياء) كان يستطيع أن يعطينا سمات أخرى لذاته متمثلة في أحوال أخرى للضمير، ربما لا نصادف فيها عوامل (الحساسية) و (الميل إلى الامتناع)، وإنما نلقى (النار المضطرمة) نفسها مسهمة في عوامل نفسية جديدة، تحذف من السلوك الأساسي للنبي في النهاية.

ولنأخذ على ذلك مثلاً: حينما جاء (حنانيا)(ليحطم الطوق الخشبي الذي كان في عنق النبي) قائلا: (هاك ما قال الله، وسأحطم هكذا نير ملك بابل) .... لقد أجابه (أرمياء) في براءة وحسن طوية مدفوعأ بمحض اختياره: (آمين .... حقق الله ما تقول).

ثم لم يروه عدة أيام ينشر دعوته، ومع ذلك فإنه لم يلبث أن ظهر في الأماكن العامة وليس معه هذه المرة طوق خشب، بل طوق من حديد، إمارة على تصميمه القاطع النهائي على الاستمرار في دعوته العابسة.

وأياً ما كانت الأسباب النفسية التي حتمت هذا التوقف المؤقت لنشاط النبي، فإنه مما له دلالته الكبرى أنه عاد أخيراً إلى رسالته.

فالعنصر الدائم الذي وصفناه ينفي أخيراً ودائماً جميع العوامل النفسية عند النبي، ذلك العنصر الذي ينظم له نهائياً سلوكه في المستقبل. فهذا العامل له إذن بعض القهر بالنسبة لذات (أرمياء)، إذ هو ينتصر تماماً على مقاومته، فيذل حساسيته، وينفي ثقته الشخصية في تنبؤ (حنانيا)، وإن كانت تلك إلى أجل. وهذا العامل هو الذي قمع ألمه عندما وضعه كاهن المعبد في (الفلقة) بتهمة التحريف، قمع ألمه قمعاً محا لديه الغريزة الأولية للمحافظة على النفس، عندما كبدته تنبؤاته المشؤومة أن يلقى به ذات يوم في (الجب) حتى كاد يهلك.

ص: 96

إلى جانب هذا القهر الذي رأيناه في الإطار النفسي للنبي، والذي يقهره على قضائه بصورة لا تقاوم، يجب أن نضم قهراً من نوع آخر، ذلك الذي يتجلى في أحكام (أرمياء) على أحداث عصره. والحق أن النبي قد حكم على هذه الأحداث على نحو يختلف تماماً عن أحكام معاصريه، وطريقته الفذة في النظر إلى الأشياء صدقتها الأحداث بشكل عجيب.

هل يجب أن تعزى هذه (النظرة العميقة) إلى مواهب شخصية، أي إلى مقدرة هائلة على الاستنتاج، وذوق نقدي نادر لمجرى التاريخ؟!

إن النقد الحديث يفسر لغز النبوة بهذه الطريقة، حين يخص الأنبياء بهبة معينة، تخول لهم الحكم العميق على التاريخ، ولكن يبدو أن هذا الرأي العقلي (المنكر للوحي) قد فاته أن ما ينقص (أرمياء) - مثلاً- بصفة موضوعية هو الأساس العقلي لأحكامه على أحداث التاريخ. وأكثر من ذلك، فإن الأنبياء باعتبارهم مصادر لنبوءاتهم لم يرجعوا إلى منطق الأحداث، بل لقد تجاوزوا هذا المنطق. ولهذا يظهرون أحياناً في نظر معاصريهم بمظهر عدم الاتساق في التفكير، فإن هؤلاء المعاصرين يبرهنون بطريقة أكثر اتفاقاً مع العقل ويجعلون لنظراتهم أساساً مستمداً من أحداث التاريخ.

ولنأخذ مثلاً: حالة الإسرئيليين أثناء أسرهم ببابل. لقد كانوا يأملون العودة القريبة إلى وطنهم. وهم ينظرون- في دهشة وأمل- ارتقاء حاميهم (إميل مردوخ Emel Mardoukh) على العرش، فقد كان ارتقاؤه غير متوقع!! أي شيء يمكن أن يكون مطابقاً للعقل أكثر من أمل كهذا؟. وكان ملك بابل في ذلك الوقت قد انتهج فعلاً (سياسة يهودية جديدة) يإطلاق سراح (جيكونياس Jeconias) ملك (جودا Juda) الأسير الذي أصبح الجليس المبجل لمعتقه. فالأمل إذن كان المنطق بعينه!!.

ص: 97

لكن (أرمياء) قد ذهب منذ البداية إلى نقيض هذا الأمل الذي حقر من شأنه بمواعظه التشاؤمية، فقد حذر الأمة من نير أقسى. ولقد صدق التاريخ بطريقة عجيبة تشاؤم (أرمياء) الرهيب، فقد هلك (مردوخ) في الواقع مقتولاً.

ويمكن أن يقال: إن المفاجآت قد صدقت تشاؤم النبي، ولكن لا يمكن القول: إنه قد تنبأ بالصدفة. ومع ذلك فإن هذا التشاؤم لم يبدأ في الدعوة النبوية بـ (ـأ رمياء) المعاصر للأحداث، فمنذ (عاموس) وصوت الأنبياء يردد النذير فوق رأس الأمة اليهودية:(فليهدم بيت المقدس Delunda est jérusalem) حسب تعبير (لودز A.Lods) ، فلم يفعل (أرمياء) إلا أن شدد عليهم النذير، ورأى وقوعه فعلاً.

***

ص: 98