الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العربية كان مخطوطاً بمكتبة (القديس بطرسبرج). كتب حوالي عام 1060م، بيد رجل يدعى (ابن العسال).
وهكذا لم تكن توجد ترجمة عربية للإنجيل في عصر الغزالي، فمن باب أولى لم يكن يوجد مثل هذه الترجمة في العصر الجاهلي.
فهل كان يمكن أن توجد- بصفة خاصة- ترجمة للعهد القديم (التوراة)؟
إن القرآن الذي يذكر لنا صدى ما دار من المجادلة بين النبي وبعض أحبار اليهود بالمدينة، يقول مخاطباً هؤلاء:{قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران 93/ 3].
أفليس هذا دليلاً على أنه لم يكن يوجد من يقرأ العبرية من العرب من ناحية، وعلى أنه لم تكن توجد ترجمة عربية للتوراة من ناحية أخرى؟
وعليه، فلا شيء أقل احتمالا من وجود تأثير توحيدي في البيئة العربية الجاهلية، لانعدام المصادر اليهودية المسيحية المكتوبة فيها، ليصبح من المستحيل أن نقول بإمكان حدوث (امتصاص لا شعوري) للذات المحمدية، في هذا الوسط الجاهلي.
…
الفرض الثاني
هذا الفرض الثاني ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد تلقى تعليماً شخصياً مباشراً عن الكتب السابقة للقرآن، وربما كان لنا في هذا الصدد احتمالان أو فرضان نفسيان:
أولهما: أن النبي ربما تعلم بطريقة منهجية كيما يضع القرآن بعلمه.
وثانيهما: أنه ربما كان قد تعلم أو عُلِّم، ثم استخدم لا شعورياً المادة التي حصلت في يده. والفرض الأول غير محتمل؛ إذا ما اعتبرنا النتيجة العامة عن النبوة، والنتيجة الخاصة عن الذات المحمدية، وهي إخلاص هذه الذات واقتناعها الشخصي، وهي المعاني التي أنهينا بها مناقشة الفصول السابقة.
أما الافتراض الثاني، فإن الاعتبارات نفسها عن الذات المحمدية تلزمنا بأن نخصها بمغزى نفسي أكثر تحديداً، فبناء على ما أثبتناه في القياس الأول نجد أنفسنا مضطرين إلى أن نعد تعلم محمد الشخصي المباشر كأنه (حالة إدراك منسية لدى التعلم نفسه)، والأمر في هذه الحالة يتعلق- في جملته- بظاهرة نسيان جد غريبة، علماً بأن جميع تفاصيل حياة النبي الخاصة والعامة تشهد عنده بمعادلة شخصية كاملة. وخاصة ذاكرته التي كانت خارقة لكل اعتبار، حتى في حالة التلقي التي كان يعانيها خلال لحظات الوحي، لقد كانت ذاكرته تعمل كما رأينا في المقياس الأول وكما سنرى فيما بعد في فصل (المناقضات)، وقد كان هو في الواقع الحافظ الأول للسور، التي كان يرتلها عن ظهر قلب حتى لحظاته الأخيرة. ولقد قُدِّم إليه ذات يوم لفداء مكي أسير لدى المسلمين، قلادة كانت تتحلى بها خديجة، فتعرف عليها في الحال وقد دمعت عيناه، ثم إنه أطلق ساح المشرك الذي كان صهره، وأمره أن يرد القلادة إلى ابنته.
هذه الذاكرة السمعية البصرية الخارقة التي عُرف بها النبي والقائد لا يمكن أن تتفق مع مرض الذاكرة بالنسيان، النسيان الذي يجب أن يعد هنا جزئياً، لأنه لا يشمل كل الماضي الشعوري للنبي، بل يقتصر على تذكر مصدر تعلمه الكتب، وطريقته في أن يستخدمها لا شعورياً. وربما كان هذا النسيان أغرب حين نجد النبي يتذكر موضوع هذا التعلم تذكراً كاملاً، كسورة يوسف مثلاً (1).
(1) سورة يوسف مكية كلها والمفهوم من كلام المفسرين أنها نزلت جملة واحدة على ما ذكره الألوسي (ج12 ص 17) قال: "وسبب نزولها على ما روي عن سعد بن أبي وقاص أنه =
ولدينا غرابة أخرى، هي أن هذا الموضوع لا يأتي في صورة نسخة مكررة من التوراة، فهو يتعرض أولاً للمسات القرآن في التفاصيل المادية هنا، وفي الإطار الروحي هناك، كما أوضحنا ذلك في العرض الموازن لقصة يوسف، وأخيراً فإن المصادر العربية للتعليم غير موجودة إطلاقاً، كما رأينا في بحث الفرض الأول. وإذن فلقد كان من الواجب على النبي أن يكيف موضوع تعلمه المستقى من مصدر أجنبي بالضرورة، ويعدّله ليوافق التعبير القرآني، وذلك باختيار سابق للألفاظ العربية.
ولم يكن من المستطاع أن يحدث هذا التعديل تلقائياً، دون أن تشترك فيه القدرات الشعورية لدى النبي.
من أجل هذا كله نجد أنفسنا محيرين، أمام حالة نسيان مرضي، وأمام حالة (لا شعور جزئي) لا يشرحها علم النفس، حتى ولو فرضنا أن حالة كهذه كانت متوافقة- من ناحية أخرى- مع سائر خصائص الظاهرة القرآنية.
أما من الناحية التاريخية، فإذا كان هذا المصدر الأجنبي قد وجد لتعليم النبي، فإنه لن يكون سوى مصدر شفهي، غير مكتوب لكي يكون في متناول أمي، وربما كان هناك في هذه الحالة (ملقِّن) ما يهمس دائماً إليه- دون علمه- بكل ما يتصل بدعوته. وإن الطابع الخاطئ لافتراض كهذا ليقف في مواجهة واقعين لا يقبلان المناقشة، هما القيمة القرآنية، وقيمة الذات المحمدية، وهكذا ينتهي بنا الفرض إلى تناقض تاريخي ونفسي، فنحن مضطرون إلى أن نستنتج أن وجوه الشبه الملحوظة لا تعزى إلى تأثير يهودي مسيحي ذاع في البيئة الجاهلية، ولا إلى تعلم شخصي أو لاشعوري لشخص النبي.
= أنزل القرآن على رسول الله عليه الصلاة والسلام فتلاه على أصحابه زماناً فقالوا:
"يا رسول الله لو قصصت علينا" فزلت، وقد ورد غير ذلك في سبب النزول، ولكن سائر ما قيل لا ينافي أنها نزلت كلها مرة واحدة". (المترجم)
هذه النتيجة القائمة حتى الآن على ملاحظة وجوه الشبه، تتحتم أكثر من ذلك حين نأخذ في اعتبارنا صفات القرآن الخاصة. والحق أنه حتى في تاريخ الوحدانية، الذي تتوثق فيه القرابة بين القرآن والكتاب المقدس يؤكد القرآن غالباً استقلاله بعلائم مميزة كثيرة، كتلك التي جمعناها في الجدول الموازن لقصة يوسف، وأيضاً فيما نراه في مشهد عبور بني إسرائيل البحر الأحمر وقد غرق فرعون وجنوده كما روى (سفر الهجرة)(1) ة ولكن رواية القرآن تكمل هذا العرض بتفصيل غير متوقع، وهو أيضاً غير عادي! .. أعني:(النجاة البدنية) لفرعون الذي أفلت بأعجوبة من الغرق. لكن علماء الدراسات المصرية خاصة يهاجمون الرواية الكتابية، مدعين أن تاريخ ملوك مصر لم يسجل اختفاء فرعون المعاصر لموسى في البحر الأحمر، ولنتأمل الآن ما ذكرته الرواية القرآنية:
لقد فتش التفسير الكتابي- بصفة خاصة- عن التأييد التاريخي لاختفاء فرعون موسى، في الوثائق التي تحدثت عن حياة (امنحتب الرابع) وهو اسم السلالة الملكية للشخصية المصرية. ويعتمد الأستاذ (هيلير دي بارانتون Hilair de Parenton) في هذا على مذكرات (مورسيل Les Mémoires de Moursil) وهو أمير حيثي، كتب في مذكراته أن:" ملكة مصر التي كانت عابدة كبيرة للإله آمون أرسلت رسولاً إلى أبي، وكتبت له قائلة: مات زوجي وليس لي ولد .. "، ولكن الملك الحيثي ارتاب في موت فرعون إلى أن كتبت له الملكة تبعا للنص نفسه: "لم قلت: إنهم يريدون أن يخدعوني .. إن الناس جميعا
(1) أحد أسفار التوراة.
ينسبون إليك كثيراً من الأبناء، فأعطني إذن واحداً منهم ليصبح زوجي ويحكم مصر"، ويستمر الأستاذ بارانتون في قوله: "فاقتنع الملك الحيثي وأرسل أحد أبنائه، الذي مات في الطريق ميتة طبيعية- كما يقول المصريون ومقتولاً كما يدعي الحيثيون " (1).
ولقد تعمدنا ذكر النصوص الجوهرية للوثيقة الحيثية التي يستخدمها هذا المؤلف أساسأ للبرهنة على موت فرعون. على أن هذا الاستنتاج الذي يوحي به وهم التوفيق بين فكرة الكتاب المقدس وما يثبته التاريخ، مُعارَضٌ برأي علماء الدراسات المصرية، فإنهم لا يقررون اختفاء (امنحتب الرابع)، وإنما يقررون تغييراً مفاجئاً في اسمه الذي أصبح (أخناتون)، وتبدلاً خلقياً وسياسياً في ذاته عقب الهجرة، فكأنما حدثت في حياة الشخصية المصرية ثورة مفاجئة. وهاك ما كتبه في هذا الموضوع (ماسبيرو Maspéro) : " وبضربة واحدة في الواقع تبدل هذا الفرعون شخصية أخرى، واحتفظت العملة الملكية بالاسم نفسه، (سوتن باتي نفرخ براوانرا Suten Bati Neferkheperraouanra) . ولكن الاسم:(سا- رع Sa-Râ) يصبح (رع- آتن حوتي Rà-Aten-Houti) .
وفضلاً عن ذلك فإن دينه قد تغير، كان كاهن الإله (آمون)، فأصبح كاهن الإله (آتون- رع Rà- Aton) ، وبالتالي ترك طيبة بلدة (آمون)، وذهب إلى (أخناتون) المدينة الجديدة التي بناها، وخصصها معبداً (لآتون الشمس) إلهه الجديد (2)، بيد أن التبدل لا يكون مفهوماً إلا إذا وقع حدث خطير وغريب أيضاً ليغير حياة الشخصية الفرعونية تغييراً عميقاً، كأن يرى مثلاً غرق جيشه، ويرى نفسه أيضاً غريقاً في البحر الأحمر، ثم إذا به يجد نفسه بطريقة أو بأخرى
(1) موجز تاريخ العالم القديم " Petite Histoire Illustrée du Monde ancien"[ ص:36] للأستاذ هيليري دي بارانتون.
(2)
فقرة ذكرها (هيليري دي بارانتون) في كتابه المذكور [ص:42].
منجّى، كما حدثنا القرآن، والمسألة على كل حال تتعلق بنجاة بدنية، بما أن فرعون لم يتحول إلى إله موسى، بل اختار تحولاً روحياً وثنياً حدثنا عنه علماء التاريخ المصري القديم.
فإلام يمكن أن تصير- على هذا- الشهادة الحيثية؟ وماذا يعني مسلك الملكة على وجه الخصوص؟
إن من الطبيعي أن يكون لتبدل حاله فرعون نتائج بالغة، وخاصة في الحياة الزوجية، ذلك لأن الزوجة ظلت تعبد الإله (آمون)، بينما تحول الزوج كاهناً لإله الشمس، فنتج عن هذا انشقاق ديني وسياسي وزوجي، وإذا بأخناتون يقتل الأمير الحيثي الذي جاء يطلب يد الملكة المتمردة، مسطراً بذلك مأساة زوجية وسياسية.
ولكم نتمنى أن نعرف إذا ما كانت الملكة قد بقيت في عاصمتها (طيبة)، الأمر الذي يضفي مزيداً من الوضوح على الوجه السياسي والزوجي للمأساة، وأيا ما كان الأمر، فإن القرآن لا يناقض مطلقا الكتاب المقدس في هذه النقطة، ولكنه يضيف إليها- على كل حال- تفصيلاً توضيحياً يتفق مع الأخبار الدينية ومع العقائد العلمية.
ومن هذا القبيل أن تذكر الرواية الكتابية جبل (أرارات) في قصة الطوفان، ويحدد التفسير اليهودي المسيحي موقع هذا الجبل في (أرمينيا)، ثم يذكر القرآن اسماً خاصاً هو اسم جبل (الجودي) الواقع في الموصل، ثم نجد أن الاكتشافات الجيولوجية والأثرية الحديثة تحدد مكان حدوث ظاهرة الفيضان في مكان قريب من ملتقى دجلة والفرات، غير بعيد من بلدة (أر) حيث ولد إبراهيم عليه السلام، فمن الجائز أن يشير النصان إلى قصتين متمايزتين لظاهرة الفيضان، ولكن من الجائز أيضا أن يكون في الأمر خطأ وقع فيه نساخ الكتب المقدسة، خطأ من تلك الأخطاء التي من أجلها لعن أرمياء (أقلام النساخ الكاذبة).
وأخيراً فإن الرواية القرآنية مستقلة تمام الاستقلال عن الفكرة اليهودية المسيحية التي ترى- من زوايا مختلفة- في صلب المسيح حقيقة تاريخية، فإذا بالقرآن يؤكد في هذا الموضوع:{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء157/ 4].
هذه الرواية الأصلية في القرآن لا تتفق مع أية وثيقة يهودية مسيحية. ومن جهة أخرى تترك مخطوطات المسيحيين الأول الباب مفتوحاً لجميع الفروض عن نهاية المسيح وعن مدة رسالته.
و (إيرينيه Irené) - الذي ذكره الأستاذ (مونتييه Montet) باعتباره الشاهد الأول على وثاقة إنجيل القديس يوحنا- يعترف في نهاية القرن الثاني بأن المسيح ظل يعلم الناس حتى سن الخمسين، خلافاً للرواية الحالية التي تفيد أنه قد انتهت رسالته في سن الثانية والثلاثين، فلو أننا أردنا أن نرد- بأي ثمن- التاريخ التوحيدي القرآني في هذه النقطة إلى مصدر مسيحي، فمن الممكن أن نقرب جزئياً بين رأي القرآن عن اختفاء المسيح ورأي النظرية الدوسيتية Doctrine docétiste) الذي يقرر صراحة (الموت الظاهر) للمسيح تبعاً لإنجيل بطرس.
هذا التقريب يظل على الرغم من هذا جزئياً، لأن القرآن يعد مولد المسيح وحياته وقائع أرضية لا تقبل الجدل، بينما تضع الدوسيتية Le docétisme كل هذا في نطاق فهم عام لفكرة (الظاهر)(1). وهكذا يمكن أن نتتبع خطوة خطوة الفكرة القرآنية والفكرة الكتابية، لنجد فيها فيما يتصل بالأصول التاريخية موضوعات مشتركة لا تنكر، ولكنا نجد أيضاً كثيراً من نقط التباعد والاختلاف. ولعل من الواجب لكي ندفع هذا البحث إلى أقصى ما يمكن افتراضه. أن نقرر علاقة القرآن، لا بمصدر واحد فحسب، بل بكثير من المصادر
(1) فكرة الظاهر مرتبطة بفكرة القرآن في قوله تعالى: {وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء157/ 4]. (المترجم)
اليهودية المسيحية. وربما وجب فضلاً عن هذا- أن نقرر جدلاً- على الرغم من التباعد المذكور في كثير من نقاط التاريخ التوحيدي- أن القرآن قد استوحى من واحد أو أكثر من الروايات الكتابية التي لم يعد لها وجود الآن.!!
ولعل من الواجب أخيراً أن نقرر مجاراة لسذاجة النقاد المحدثين أن النبي كان يعمل بطريقة عالم فقيه، يكشف عن كثير من الوثائق ويتأملها، ثم يرتبها وينسقها كيما يستمد منها الرواية القرآنية .. !!!
إن من المحقق أن للفكر النقدي في الحديث سذاجة محيرة، حتى لنراه جديراً بما وصفه الأستاذ (مونتيه) نفسه بمناسبة حديثه عن بروفسور الطب (استرك Astruc) (1684- 1766) :" إن من البين أن أسترك يتمثل- مع شيء من السذاجة- موسى وهو يرجع إلى الوثائق يستشيرها، ويعمل كأنما هو أحد علماء القرن الثامن عشر".