الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التنجيم
يضم الوحي في مجموعه ثلاثة وعشرين عاماً، فهو لا يكوِّن ظاهرة مؤقتة أو خاطفة. ولقد نزلت الآيات منجمة، بين كل وحي وما يليه مدة انقطاع تتفاوت طولاً وقصراً.
ولقد ينقطع الوحي مدة أطول مما ينتظره النبي، وخاصة عندما يحتاج أن يتخذ قراراً يعتقد أن من الواجب ألا يصدره قبل تصديق السماء عليه.
وأوضح مثال على ذلك موقفه إزاء قرار الهجرة، فلقد غادر أصحابه مكة فارين بدينهم، بينما كان يعتقد أنه لا بد- فيما يتعلق بشخصه- أن ينتظر أمراً صريحاً من الوحي.
ومثال آخر عندما كان الأمر بالنسبة له يحتم اتخاذ قرار في موقف محير مريب، بينما ينتظر- على أحر من الجمر- وحي الله الحاسم.
ولقد تعرض النبي صلى الله عليه وسلم لمثل هذه الحيرة في حادثة الإفك، التي لم يفصل فيها الوحي إلا بعد شهر (1) من الانتظار على مضض.
كان هذا يبدو- في الظاهر- تورطاً وحرجاً لم يلبث المستهزئون أن وجهوا من أجلهما نقدهم الجارح إلى النبي، وكان هو يتألم لذلك أحياناً.
وعليه فمهما كان الافتراض الذي يوضع عن طبيعة القرآن، فإن هناك سؤالاً
(1) كذا ورد في حديث عائشة الذي رواه البخاري. (المترجم)
كبيراً يتردد حول هذا الموضوع: ألم يكن من الممكن أن يتدفق جملة واحدة، من العبقرية الإنسانية التي ربما يكون قد صدر عنها (1)؟.
ولكنا برجوعنا خلال الزمن نستطيع أن نحكم بأهمية هذا التنجيم الفذ للوحي، أهمية قصوى لنجاح الدعوة.
إذ بماذا كنا نفسر من الوجهات التاريخية والاجتماعية والأدبية قرآناً يهبط كأنما هو برق خاطف في ظلمات الجاهلية؟
وماذا يعني هذا بالنسبة لتاريخ النبي، لو أنه كان قد تلقى وحياً كلياً فجائياً، لو أنه تلقاه بوصفه وثيقة، أي نوعاً من صحف التفويض لدى بني الإنسان؟ ..
أي أمل كان يمكن أن يلتمسه عنده قبيل بدر مثلاً، لو أنه بدلاً من أن يتوقع إمداد الملائكة ظل يكرر آية سبق أن حفظها عن ظهر قلب؟
إننا ببحثنا مسألة تجزئة الوحي في ضوء هذه النظرات نستطيع أن ندرك أولاً قيمته التربوية.
فتلك في الواقع هي الطريقة التربوية الوحيدة الممكنة في حقبة تشم بميلاد دين وبزوغ حضارة.
وسيهدي الوحي خلال ثلاثة وعشرين عاماً سير النبي وأصحابه خطوة خطوة نحو هذا الهدف البعيد، وهو يحوطهم في كل لحظة بالعناية الإلهية المناسبة. فهو يعزز جهودهم العظيمة، ويدفع أرواحهم وإرادتهم نحو هدف الملحمة الفريدة في التاريخ، فيكرم بآية صريحة قضاء شهيد أو استشهاد بطل.
كيف كان القرآن يؤدي دوره حيال طبيعة الإنسان التي جاء يصوغها في ذلك العصر، لو أنه سبق بنزوله أحداث حنين وأحد؟ .. وماذا كان يكون، لو
(1) هذا تساؤل افتراضي على لسان الجاحدين.
أنه لم يأت لكل ألم بعزائه العاجل، ولو أنه لم ينزل لكل تضحية جزاءها، ولكل هزيمة أملها، ولكل نصر درسه في الاحتشام، ولكل عقبة إشارة إلى ما تقتضيه من جهد، ولكل خطر أدبي أو مادي روح التشجيع اللازم لمواجهته؟
وكلما كان الإسلام ينتشر في ربا الحجاز ونجد، كان الوحي يتنزل بالدرس الضروري في المثابرة والصبر، والإقدام والإخلاص، يلقنه أولئك الأبطال الأسطوريين، أبطال الملحمة الخارقة.
فهل كان لدرسه أن يجد طريقه إلى قلوبهم وضمائرهم لو لم يكن نزوله تبعاً لأمثلة الحياة نفسها، والواقع المحيط بهم؟.
ولو أن القرآن كان قد نزل جملة واحدة لتحول سريعاً إلى كلمة مقدسة خامدة وإلى فكرة ميتة، وإلى مجرد وثيقة دينية، لا مصدر يبعث الحياة في حضارة وليدة.
فالحركة التاريخية والاجتماعية والروحية التي نهض بأعبائها الإسلام لا سر لها إلا في هذا التنجيم.
والقرآن يبرز هذه الخاصة الخفية وهو يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان 25/ 32].
فنزول القرآن على نجوم، وقد كان في اعتبار الجاهليين نقصاً شاذاً، يتجلى لنا بمراجعتنا الزمن والأحداث شرطاً أساسياً ضرورياً لانتصار الدعوة المحمدية. ولن يشق علينا أن نجد في هذا المنهج التربوي- الذي أثار سخرية القوم، وأزاغ النقد السطحي في عصرنا عن الجادة- طابع العلم العلوي الذي أملى (كلمة الله) بطريقة التنجيم.