المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مدخل إلى دراسة الظاهرة القرآنية - الظاهرة القرآنية

[مالك بن نبي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الفرنسيةللمرحوم الدكتور الشيخ محمد عبد الله دراز

- ‌شكر وتنبيه

- ‌تقديمفصل في إعجاز القرآنللأستاذ محمود محمد شاكر

- ‌مدخل إلى دراسة الظاهرة القرآنية

- ‌مَدْخَلٌ إِلَى دِرَاسَةِ الظَّاهِرَةِ الْقُرْآنِيَّةِ

- ‌الظَّاهِرَةُ الدِّينِيَّةُ

- ‌الْمَذْهَبُ الْمَادِّيُّ

- ‌الْمَذْهَبُ الْغَيْبِيُّ

- ‌الحركة النبوية

- ‌الحركة النبويّة

- ‌مبدأ النبوة

- ‌ادعاء النبوة

- ‌النبي

- ‌أرمياء

- ‌الظاهرة النفسية عند أرمياء

- ‌خصائص النبوة

- ‌أصول الإسلامبحث المصادر

- ‌أصول الإسلامبحث المصادر

- ‌الرسول

- ‌عصر ما قبل البعثة

- ‌طفولة النبي- مراهقته

- ‌الزواج والعزلة

- ‌العصر القرآني

- ‌المرحلة المكية

- ‌المرحلة المدنية

- ‌كيفية الوحي

- ‌اقتناعه الشخصي

- ‌مقياسه الظاهريمقياسه العقلي

- ‌مقياسه الظاهري

- ‌مقياسه العقلي

- ‌مقام الذات المحمدية في ظاهرة الوحي

- ‌الفكرة المحمدية

- ‌الرسالة

- ‌الخصائص الظاهرية للوحي

- ‌التنجيم

- ‌الوحدة الكمية

- ‌مثال على الوحدة التشريعية

- ‌مثال على الوحدة التاريخية

- ‌الصورة الأدبية للقرآن

- ‌مضمون الرسالة

- ‌العلاقة بين القرآن والكتاب المقدس

- ‌العلاقة بين القرآن والكتاب المقدَّس

- ‌ما وراء الطبيعة

- ‌أخرويَّات

- ‌كونيات

- ‌أخلاق

- ‌اجتماع

- ‌تاريخ الوحدانية

- ‌قصة يوسف في القرآن والكتاب المقدس

- ‌جدول التفاصيل القرآنية في قصة يوسف

- ‌النتائج الموازنة للروايتين

- ‌البحث النقدي للمسألة

- ‌الفرض الأول

- ‌الفرض الثاني

- ‌موضوعات ومواقف قرآنية

- ‌موضوعات ومواقف قرآنية

- ‌إرهاص القرآن

- ‌ما لا مجال للعقل فيهفواتح السور

- ‌المناقضات

- ‌الموافقات

- ‌المجاز القرآني

- ‌القيمة الاجتماعية لأفاكار القرآن

- ‌المسارد

الفصل: ‌مدخل إلى دراسة الظاهرة القرآنية

‌مَدْخَلٌ إِلَى دِرَاسَةِ الظَّاهِرَةِ الْقُرْآنِيَّةِ

(1)

لم يُتَح لهذا الكتاب أن يرى النور في صورته الكاملة، فالواقع أننا قد أعدنا تأليف أصوله التي أحرقت في ظروف خاصة. وهو كما هو الآن، لا يكفي في علاج فكرتنا الأولى عن المشكلة القرآنية؛ فإن الموضوع يتطلّب عملاً شاقاً طويل الأنفاس، ومراجع ذات أهمية قصوى؛ لم يكن بوسعنا الحصول عليها في محاولتنا الثانية. غير أننا لا زلنا نشعر بقيمة الفكرة التي ساقتنا إلى هذه الدراسة، حتى لقد آمنا بضرورة بذل ما نستطيع من الجهد في سبيل تحقيقها، مهما تكن صعوبات المشروع، ومهما تكن المعوقات دون تحقيقه.

ولذا حاولنا أن نجمع العناصر التي بقيت من الأصل مكتوبة في قصاصات، أو مسجلة في الذاكرة، فأنقذنا بذلك- على ما نعتقد- جوهر الموضوع، وهو الاهتمام بتحقيق منهج تحليلي في دراسة الظاهرة القرآنية، وهو منهج يحقق من الناحية العملية هدفاً مزدوجاً هو:

1 -

أنه يتيح للشباب المسلم فرصة التأمل الناضج في الدين.

2 -

وأنه يقترح إصلاحاً مناسباً للمنهج القديم في تفسير القرآن.

وهذه المهمة وتلك ترجعان إلى أسباب مختلفة، يتصل بعضها بالتطور الثقافي الذي حدث في العالم الإسلامي بصورة عامة، وبعضها يرجع إلى عنصر

(1) هذا المدخل منشور في رسالة مستقلة.

ص: 53

آخر، يمكن أن نسميه (تطور نظرتنا في مشكلة الإعجاز) بصورة خاصة، ولا بد إذن من عرض هذه الأسباب بترتيبها:

أولاً: الأسباب التاريخية:

ينبغي أن ندرك أن التطور الثقافي في العالم الإسلامي يمر برحلة خطيرة،

إذ تتلقى النهضة الإسلامية أفكارها واتجاهاتها الفنية عن الثقافة الغربية، وخاصة من طريق مصر. هذه الأفكار الفنية لا تقتصر على أشياء الحياة الفكرية الجديدة التي يتعودها الشباب المسلم شيئاً فشيئاً، بل إنها تمس أيضاً وبطريقة غامضة، ما يتصل بالفكر وما يتصل بالنفس؛ وفي كلمة واحدة: ما يتصل بالحياة الروحية.

وإنه لمما يثير العجب أن نرى كثيراً من الشباب المسلم المثقف يتلقون اليوم عناصر ثقافة تتصل بمعتقداتهم الدينية، وأحيانا بدوافعهم الروحية نفسها، من خلال كتابات المتخصصين الأوربيين.

إن الدراسات الإسلامية التي تظهر في أوربا بأقلام كبار المستشرقين واقع لا جدال فيه، ولكن هل نتصور المكانة التي يحتلها هذا الواقع في الحركة الفكرية الحديثة في البلاد الإسلامية؟

إن الأعمال الأدبية لهؤلاء المستشرقين قد بلغت في الواقع درجة خطيرة من الإشعاع لا نكاد نتصورها، وحسبنا دليلاً على ذلك أن يضم مجمع اللغة العربية في مصر بين أعضائه عالماً فرنسياً. وربما أمكننا أن ندرك ذلك إذا لاحظنا عدد رسالات الدكتوراه، وطبيعة هذه الرسالات التي يقدمها الطلبة السوريون والمصريون كل عام إلى جامعة باريس وحدها، وفي هذه الرسالات كلها يصرون - وهم أساتذة الثقافة العربية في الغد وباعثو نهضة الإسلام- يصرون كما أوجبوا على أنفسهم، على ترديد الأفكار التي زكاها أساتذهم الغربيون.

ص: 54

وعن هذا الطريق أوغل الاستسراق في الحياة العقلية في البلاد الإسلامية، محدداً بذلك اتجاهها التاريخي إلى درجة كبيرة.

تلكم هي الأزمة الخطيرة التي تمر بها ثقافتنا الآن، مثيرة هنا وهناك صدى مناظرات مدوية، كما حدث في مصر بين الدكتور زكي مبارك والدكتور طه حسين، فقد عبرت مناظرتهما في أنشودة أدبية تهزها الحماسة عن المأساة الحديثة للفكر الإسلامي.

ولكن لهذه الأزمة العامة مظهراً يهم موضوع دراستنا هذه، وأعني به تأثير دراسات المستشرقين على الفكر الديني لدى شبابنا الجامعي، الشباب الذي يتجه إلى المصادر الغربية، حتى فيما يخص معارفه الإسلامية الشخصية، سواء أكان هذا الاتجاه ناشئاً عن افتقار مكتباتنا أم لمجرد التجانس والقرابة العقلية.

لقد نضبت فعلاً المصادر المحلية من كنوزها الثقافية، مولية وجهها شطر المكتبات الأهلية في أوربا، والحق أن مصر قد بذلت جهداً عظيهاً كيما تضع في متناول الفكر الإسلامي أدوات جديدة للعمل وذلك بما أتيح لها من مطابع حديثة، وعمل جاد اضطلع به شبابها الفتي المتعلم. ولكن هذا الجهد نفسه يعيش في كنف الدهاء الإداري الموروث من عهد الاستعمار.

وأياً ما كان الأمر، فإنما الشباب المسلم المثقف في بعض ديار الإسلام يرى نفسه مضطراً إلى أن يلجأ إلى مصادر المؤلفين الأجانب خضوعاً لمقتضيات عقلية جديدة، ولعله يقدر إلى حد كبير منهجها الوضعي الديكارتي، حتى إننا نجد قضاة وشيوخاً معممين يتذوقون فيها رشاقتها الهندسية.

وهذا كله لا غبار عليه لو اقتصر الاستشراق بمناهجه على الموضوع العلمي، ولكن الهوى السياسي الديني كشف عن نفسه أحياناً بكل أسف في تآليف هؤلاء المتخصصين الأوربيين في الدراسات الإسلامية، على الرغم من أنها تدعو إلى الإعجاب حقاً.

ص: 55

فلم يكن الأب (لامانس R،P،Lamance) المثل الفريد للمستشرق الطاعن على الإسلام ورجاله، والحالة الوحيدة التي يمكن أن نلحظ فيها العمل الصامت لتقو يض دعائم الإسلام، فقد كان لهذا الرجل (الشاطر) على الأقل، فضل في الكشف عن بغضه الشديد للقرآن، ولمحمد صلى الله عليه وسلم ولا شك أن العمل في ظل هذا التعصب الصاخب خير من تلك الميكيافيلية الصامتة المستهجنة التي اتبعها مستشرقون آخرون، متسترين بستار العلم.

ومن العجيب أن نذكر ما تتمتع به هذه الأفكار الحمقاء من مجاملة، ولا سيما في مصر عندما تصدرها جامعات الغرب، وأصدق مثال على ذلك بلا جدال، الفرض الذي وضعه المستشرق الإنجليزي (مرجليوث) عن (الشعر الجاهلي)، فقد نشر هذا الفرض في تموز عام 1925م في إحدى المجلات الاستشراقية؛ وفي خلال عام 1926م نشر (طه حسين) كتابه المشهور (في الشعر الجاهلي)، فهذا التسلسل التاريخي معبر تماماً عن تبعية أفكار بعض قادة الثقافة العربية الحديثة للأساتذة الغر بيين (1).

وربما لم يكن فرض (مرجليوث) ليحتوي على شيء خاص غير عادي لو أنه حين نشر لم يصادف ذلك الترحيب الحار من المجلات المستعربة، ومن بعض الرسالات التي تقدم بها دكاترة عرب محدثون، حتى لقد كسب هذا الفرض قيمة (المقياس الثابت) في دراسة الدكتور (صباغ) عن (المجاز في القرآن)، فقد رفض هذا الدكتور رفضاً مقصوداً مغرضاً الاعتراف بالشعر الجاهلي بوصفه حقيقة موضوعية في تاريخ الأدب العربي.

(1) ذكرنا هنا فرض (مرجليوث) لكي نبرز أمام القارئ المسلم ضرورة تطبيق منهج تحليلي جديد في تفسير القرآن، ويستطيع القارئ أن يدرك قيمة هذا المنهج القائم على دراسة الظواهر ( La Phénoménologie) وعلى طرق التحليل النفسي، وسيدرك أيضا أننا لا ندرس أراء (مرجليوث) أو من تتلمذ عليه مثل (طه حسين). وإنما نريد به دراسة (الظاهرة القرآنية).

ص: 56

فالمشكلة بوضعها الراهن إذن تتجاوز نطاق الأدب والتاريخ، وتهم مباشرة منهج التفسير القديم كله، ذلك المنهج القائم على الموازنة الأسلوبية معتمداً على الشعر الجاهلي بوصفه حقيقة لا تقبل الجدل.

وعلى أية حال، فقد كان من الممكن أن تثور هذه المشكلة تبعاً للتطور الجديد في الفكر الإسلامي، وإنما بصورة أقل ثورية لأن ضرورات التطور تقضي بتعديل منهج التفسير القديم تعديلاً، يناسب في حكمة وروية مقتضيات الفكر الحديث. ولكن يخيل إلينا أن (مرجليوث) أراد بفرضه أن يفرض على المشكلة تطوراً ثورياً، حين أدخل في الوقت المناسب ما يشبه (الديناميت) الذي قد ينسف كل مناهج التفسير القديم.

لقد قام إعجاز القرآن حتى الآن على البرهان الظاهر على سمو كلام الله فوق كلام البشر، وكان لجوء التفسير إلى الدراسة الأسلوبية لكي يضع لإعجاز القرآن أساساً عقلياً ضرورياًت فلو أننا طبقنا نتائج فرض (مرجليوث) كما فعل الدكتور (صباغ) لانهار ذلك الأساس. ومن هنا توضع مشكلة التفسير في صورة خطيرة بالنسبة لعقيدة المسلم، أعني بالنسبة إلى إعجاز القرآن في نظر هذا المسلم. وربما لم يكن التطور العقلي ليقصر عن دفع شبابنا الجامعي إلى ملاحظة تقادم القياس القديم إن آجلاً أو عاجلاً، ذلك القياس الذي كان يقدم حتى ذلك الحين الدليل القاطع على المصدر الغيبي للقرآن. أما بالنسبة للعقل ذي الصبغة الديكارتية فأية قيمة تبقى لبرهان يبدو منذئذ وقد فقد موضوعيته، وأصبح ذاتياً محضاً. وهذا الموضوع لا يتصل ببيان القرآن الذي بقي على ما هو عليه حين نزوله، ولكن بوضع المسلم نفسه.

والحق أنه لا يوجد مسلم وخاصة في البلاد غير العربية، يمكنه أن يوازن موضوعياً بين آية قرآنية، وفقرة موزونة أو مقفاة من أدب العصر الجاهلي، فمنذ وقت طويل لم نعد نملك في أذواقنا عبقرية اللغة العربية، ليمكننا أن نستنبط

ص: 57

من موازنة أدبية نتيجة عادلة حكيمة، ومنذ وقت طويل أيضاً تكتفي عقائدنا في هذا الباب بالتقليد الذي لا يتفق وعقول المتعلقين بالموضوعية. فمشكلة التفسير توضع إذن في ضوء جديد، وربما نظر إليها المصريون المحدثون في هذا الضوء الجديد.

ولكن يبدو أن جهود هؤلاء العلماء على الرغم من أنها لا تغفل الجانب الاجتماعي في علم التفسير لم تحدد منهجها الكامل، فالتفسير الكبير الذي ألفه الشيخ (طنطاوي جوهري) إنتاج علمي أشبه بدائرة معارف، ولا ينطوي على أقل اهتمام بتحديد منهج، أما تفسير الشيخ (رشيد رضا) الذي اتبع فيه إمامه الشيخ (محمد عبده) فلم يضع هو الآخر هذا المنهج، فقد كان همه أن يخلع على المنهج القديم صبغة عقل جديد. ومع أنه لم يعدل طريقة التفسير القديم تعديلاً جوهرياً، فإنه قد خلق في الصفوة المسلمة التي تعشق التجديد الأدبي اهتماماً بالنقاش الديني. ومع ذلك فمشكلة التفسير تظل خطيرة بالنسبة لاعتقاد الفرد الذي شكلته مدرسة ديكارت من جهة، وبالنسبة لمجموع الأفكار الدارجة التي هي أساس الثقافة الشعبية من جهة أخرى.

ومن المعلوم أن كل مجتمع يحتوي مشكلة أفكار دارجة محرك الجماهير، كما يحتوي مشكلة أفكار علمية تخص المثقفين، وكما أن هذه تحدد لدى القادة والعلماء حلولاً نظرية لبعض المشكلات، فإن تلك تحدد السلوك العملي للجماعات إزاء هذه المشاكل التي تصادفهم في الحياة، ففي العالم الإسلامي توجد الآن طبقة مثقفة مقتنعة بحركة الأرض، ولكن هناك جمهوراً كبيراً من الدراويش، وشعباً من الجهال من كل نوع يصر على اعتقاده ((بأن الأرض ساكنة تحملها العناية على قرن ثور)). وهذه الفكرة الدارجة قد تؤثر في توجيه التاريخ أكثر من الفكرة العلمية، لأنها تستند إلى خرافة مفسر غير موفق يرى الأرض على قرن ثور. ولنأخذ على ذلك مثلاً:(البوصلة ومقياس الزاوية)، فعلى الرغم من أنهما من

ص: 58

إنتاج أفكار المسلمين الفنية، فإن العالم الإسلامي لم يستخدمهما مثلاً في اكتشاف أمريكا، لأنه كان مشلولاً آنذاك عن التقدم العقلي والاجماعي بأفكار شعبية ميتة. أليست هذه هي المأساة التي أراد الغزالي أن يعبر عنها في بيته المشهور:

غَزَلْتُ لَهُمْ غَزْلاً رَقِيقًا فَلَمْ أَجِدْ

لِغَزْلِيَ نَسَّاجًا فَكَسَّرْتُ مِغْزَلِي

إن مشكلة التفسير القرآني على أية حال هي مشكلة العقيدة الدينية لدى التعلم، كما أنها مشكلة الأفكار الدارجة لدى رجل الشارع. ومن هاتين الوجهتين ينبغي أن يعدل منهج التفسير في ضوء التجربة التاريخية التي مر بها العالم الإسلامي. وبالتالي فإذا كانت هذه الأسباب التي قدمناها تدل على ضرورة هذا التعديل فهناك أسباب أخرى تدل على محتواه، أعني على صورة المنهج الذي يجب أن نسلكه في مشكلة الإعجاز.

ثانياً: الأسباب العائدة إلى المنهج:

ذكرنا فيما تقدم من هذا المدخل الأسباب التي دعت إلى هذه الدراسة، نظراً لما حدث في العالم الإسلامي من تطورات اجتماعية وثقافية، تؤثر في موقف المسلم المثقف إزاء الإسلام بصورة عامة. وينبغب الآن أن نذكر الأسباب التي حددت المنهج المتبع في هذه الدراسة، نظراً إلى إدراك هذا المسلم للقرآن بوصفه كتاباً منزلاً على وجه الخصوص، ولأنه لا يمكن فصل هذه الأسباب عن تاريخ الأديان السماوية بصورة عامة. إننا نجد هذه الصورة في الحديث الذي أورده أخي الأستاذ شاكر في مقدمته حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:((ما من نبي إلا وأوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحي إلي فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة))، يجب إذن أن نحدد الإعجاز في القرآن بالنظر إلى مفهوم الإعجاز في الأديان عامة.

وإذن لابد من تحديد هذه الكلمة لغة واصطلاحاً وفي حدود التاريخ، لأن

ص: 59

عنصر الزمن ذو دخل في هذه القضية إذا ما اعتبرناها من دين إلى آخر، أعني في اتجاه تطورها.

أهل اللغة يرون أن الإعجاز هو الإيقاع في العجز. وأهل الاصطلاح يرون أن الإعجاز هو الحجة التي يقدمها القرآن إلى خصومه من المشركين ليعجزهم بها. فأما حين نريد تحديد هذا المصطلح في حدود التاريخ أي في تطور إدراك البشر لـ (حجة) الدين، وإدراك المسلم لـ (حجة) الإسلام خاصة، فلابد من مراجعة القضية في ضوء تاريخ الأديان.

وهذا هو الإعجاز من نواحيه الثلاث.

أما الآيات التي تدل عليه في القرآن، بل تلفت النظر إليه متعمدة، فهي كثيرة مثل قوله عز وجل:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء17/ 88]. وقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود 13/ 11 و 14].

وقوله جل شأنه: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة 23/ 2 و 24].

ويجب أن نلاحظ أن هذه الآيات الثلاث لم يسقها القرآن لتنشئ الحجة، وإنما جاءت إعلاناً هنا، وإشهاراً لوجودها في سائر القرآن. كيم تؤتي تأثيرها في العقول المتربصة، وتنتج أثرها في القلوب التي لا زالت في أكنتها.

فإلى أي مدى بلغ هذا التأثير في الوسط الجاهلي؟

ص: 60

إن لكل شعب هواية يصرف إليها مواهبه الخلاقة، طبقاً لعبقريته ومزاجه. فالفراعنة مثلاً كان لهم اهتمام بفنون العمارة والرياضيات، يدلنا عليه ما بقي بين أيدينا من آثارهم العظيهة؛ تلك الآثار التي أثارت اهتمام رجال العلم، مثل الأب (مورو) الذي خصص أحد كتبه لدراسة تصيم الهرم الأكبر، وما يتضن من نظريات هندسية غريبة، وخصائص رياضية وميكانيكية عجيبة.

كما كان اليونان مغرمين بصور الجمال، على ما أبدعه فن (فيدياس)، وبآيات المنطق والحكمة على ما جادت به عبقرية (سقراط).

أما العرب في الجاهلية، فقد كانت هوايتهم في لغتهم، فلم يقتصروا على استخدامها في ضرورات الحياة اليومية، شأن الشعوب الأخرى، وإنما كان العربي يفتن في استخدام لغته، فينحت منها صوراً بيانية لا تقل جمالاً مما كان ينحته (فيدياس) في المرمر، وما كانت ترسمه ريشة (ليونار دوفانسي) في لوحاته المعلقة في متاحف العالم الكبرى.

فالشعر العربي كما قال أخي الأستاذ محمود شاكر في مقدمة هذا الكتاب:

((كان حين أنزل الله القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم نوراً يضيء ظمات الجاهلية، ويعكف أهله على بيانه عكوف الوثني للصنم، ويسجدون لآياته سجدة خاشعة لم يسجدوا مثلها لأوثانهم قط، فقد كانوا عبدة البيان، قبل أن يكونوا عبدة الأوثان، وقد سمعنا من استخف منهم بأوثانهم، ولم نسمع قط منهم من استخف ببيانهم)).

هذه صورة الظروف النفسية التي نزل فيها القرآن، فكان لإعجازه أن ينفذ إلى الأرواح- بصفة عامة في زمن النزول- على هذا السبيل، أي بما ركب في الفطرة العربية من ذوق بياني.

ثم تغيرت هذه الظروف مع تطورات التاريخ الإسلامي، وفاض طوفان العلوم في أواخر عهد بني أمية والعهد العباسي. فصار إدراك جانب الإعجاز في

ص: 61

القرآن بالمعنى الذي حددناه- لغة واصطلاحاً- من طريق التذوق العلمي، أكثر من أن يكون من طريق الذوق الفطري.

وهذا يعني أن الإعجاز كما أدركته العرب وقت النزول، أصبح من أختصاص طائفة قليلة من المسلمين، بيدها وسائل التذوق العلمي.

ومن الممكن أن نتتبع هذا التطور في مرحلتيه في مراجع التاريخ الإسلامي:

1 -

فمن ذلك أن السيرة تروي لنا بعض المواقف التاريخية، التي يظهر فيها أثر الإعجاز على الذوق الفطري عند العرب في الجاهلية، ويظهر ذلك في صورتين: أولاهما: إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما تأثر بآيات سمعها من أخته، أو قرأها في صحيفتها.

وثانيتهما: حكم الوليد بن المغيرة حين يقول في القرآن ((والله لقد سمعت كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة)). وهنا نرى الوليد يقف على قيد شبر من الإيمان، وقد هزه بيان القرآن، ولكن ما كان للحجة أن تغير أمراً أراده الله، فترى الوليد ينتكس، ويختم كلامه منكراً صدق الرسالة بقوله:" وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر جاء يفرق بين المرء وأبيه .. الخ .. ".

وهذا هو صدى الإعجاز في فطرة العرب في صورتين مختلفتين. حتى إذا تقدم الزمن وتغيرت الظروف الاجمتاعية، وتقدمت العلوم، صار الإعجاز موضوع دراسة قائم بذاته، فكتب فيه أئمة البيان، من أمثال الجاحظ في كتابه (نظم القرآن)(وعبد القاهر) صاحب (دلائل الإعجاز).

ومن هذا الأخير نستعير نبذة لتوضيح المقام والمقال؛ نستعيرها على سبيل

ص: 62

المثال، من تعليق له على قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا

} [مريم 19/ 5]. يقول معلقاً: ((إن في الاستعارة ما لا يمكن بيانه إلا من طريق العلم بالنظم، والوقوف على حقيقته، ومن دقيق ذلك وخفيه أنك ترى الناس إذا ذكروا قوله تعالى:{وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} لم يزيدوا فيه على ذكر الاستعارة، ولم ينسبوا الشرف إلا إليها، ولم يروا للمزية موجباً سواها. هكذا ترى الأمر في كلامهم، وليس الأمر على ذلك

)).

ولا لزوم لذكر النص بأكله، وإنما أوردته فقط لأبين مباشرة عجزي عن إدراك (الإعجاز) من هذا الوجه، أي بوسائل التذوق العلمي، بعد أن اعترفت بعجزي عن إدراكه من طريق الذوق الفطري. وهكذا أراني حيران، فاقد الحيلة والوسيلة في قضية هي أمس القضايا بالنسبة لي بصفتي مسلماً. وهنا تواجهنا مشكلة (الإعجاز) في صورتها الجديدة بالنسبة لهذا المسلم، أعني بالنسبة لأغلبية المسلمين المثقفين ثقافة أجنبية، بل ربما بالنسبة لذوي الثقافة التقليدية، في ظروفهم الثقافية والنفسية الخاصة، فلابد إذن من أعادة النظر في القضية في نطاف الظروف الجديدة التي يمر بها المسلم اليوم، مع الضرورات التي يواجهها في مجال العقيدة والروح.

وعلى الرغم مِما يبدو في القضية من تعقد، بسبب موقفنا التقليدي إزاءها، فإني أعتقد أن مفتاحها موجود في قوله تعالى:{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأحقاف 46/ 9]. فإذا اعتبرنا هذه الآية على أنها حجة يقدمها القرآن للنبي كي يستخدمها في جداله مع المشركين، فلا بد أن نتأمل محتواها المنطقي من ناحيتيها:

فهي تحمل، أولاً، إشارة خفية إلى أن تكرار الشيء في ظروف معينة يدل على صحته، أي أن سوابقه في سلسلة معينة تدعم حقيقته بوصفه (ظاهرة

ص: 63

بالمعنى الذي يسبغه التحديد العلمي على هذه الكلمة: فالظاهرة هي: ((الحدث الذي يتكرر في الظروف نفسها، مع النتائج نفسها)).

وهي تحمل في مدلولها، ثانياً، ربطاً واضحاً بين الرسل والرسالات خلال العصور، وأن الدعوة المحمدية يجري عليها أمام العقل ما يجري على هذه الرسالات. ومن هذا نستخلص أمرين:

1 -

أنه يصح أن ندرس الرسالة المحمدية في ضوء ما سبقها من الرسالات.

2 -

كما يصح أن ندرس هذه الرسالات في ضوء رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، على قاعدة أن ((حكم العام ينطبق على الخاص قياساً، وحكم الخاص ينطبق على العام استنباطاً)).

ولا مانع إذن من أن نعيد النظر في معنى (الإعجاز) في ضوء منطق الآية الكريمة.

وحاصل هذا أننا إذا عددنا الأشياء في حدود الحدث المتكرر، أي في حدود الظاهرة، فالإعجاز هو:

1 -

بالنسبة إلى شخص الرسول: الحجة التي يقدمها لخصومه ليعجزهم بها.

2 -

وهو بالنسبة إلى الدين: وسيلة من وسائل تبليغه.

وهذان المعنيان للإعجاز يضفيان على مفهومه صفات معينة:

أولاً: أن الإعجاز- بوصفه (حجة) لابد أن يكون في مستوى إدراك الجميع، وإلا فاتت فائدته، إذ لا قيمة منطقية لحجة تكون فوق إدراك الخصم، فهو ينكرها عن حسن نية أحياناً.

ثانياً: ومن حيث كونه وسيلة لتبليغ دين: أن يكون فوق طاقة الجميع.

ص: 64

ثالثاً: ومن حيث الزمن: أن يكون تأثيره بقدر ما في تبليغ الدين من حاجة إليه.

وهذه الصفة الثالثة تحدد نوع صلته بالدين، الصلة التي تختلف من دين إلى آخر، باختلاف ضرورات التبليغ كما سنبين ذلك.

فهذا هو القياس العام الذي نراه ينطبق على معنى الإعجاز، في كل الظروف المحتملة بالنسبة إلى الأديان المنزلة.

فإذا قسنا به في نطاق رسالة موسى عليه السلام، مثلاً، نرى أن الله اختار لهذا الرسول معجزتي اليد والعصا، وإذا تأملناهما وجدناهما ((بوصفهما حجة)) يدعم الله بها نبيه- تتصفان بأنهما:

1 -

ليستا من مستوى العلم الفرعوني الذي كان من اختصاص أشخاص معدودين، يكونون هيئة الكهنوت، بل كانت المعجزة في صورتيهما كلتيهما، من مستوى السحر الذي يقع أثره في إدراك الجميع عن طريق المعاينة الحسية، دون إجهاد فكر.

2 -

هاتان المعجزتان تتصلان بتاريخ الدين الموسوي لا بجوهره، إذ ليس لليد أو العصا صلة بمعاني هذا الدين ولا بتشريعه، فهما على هذا مجرد توابع للدين، لا من صفاته اللازمة له.

3 -

ودلالة هاتين المعجزتين على صحة الدين محدودة بزمن معين، إذ لا نتصور مفعول اليد والعصا (حجة) إلا في الجيل الذي شاهدهما، أو الجيل الذي بلغته تلك الشهادة بالتواتر من التابعين وتابع التابعين، أي أن مفعوله لا يكون إلا في زمن محدد، لحكمة أرادها الله. ولو فكرنا في هذه الحكمة لوجدنا أنها تتفق مع حقائق نفسية، وحقائق تاريخية سجلها الواقع فعلاً، هي:

ص: 65

أولاً: أن القوم الذين يدينون اليوم بدين موسى- أي اليهود- يفقدون، لأسباب نفسية لا سبيل لشرحها هنا، نزعة التبليغ، فلا يشعرون بضرورة تبليغ دينهم إلى غيرهم من الأمم، أي: الأميين- كما يقولون- حتى إننا إذا استخدمنا لغة الاجتماع قلنا: إن (الإعجاز) قد ألغاه في هذا الدين عدم الحاجة إليه.

ثانياً: إن مشيئة الله قد قدرت أن يأتي عيسى رسولاً من بعد موسى، وأتى الدين الجديد لينسخ الدين السابق، فينسخ طبعاً جانب الإعجاز فيه، وتزول الحجة بزوال ضرورتها التاريخية.

ثم أتى عيسى بالدين الجديد، وبما يتطلب هذا الدين من وسائل لتبليغه، أي بما يتطلب من حجة، فأتى بإعجازه الخاص، بالمعنى المحدد لغة واصطلاحاً كما سبق، فكان لعيسى إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله. ولسنا بحاجة أن نكرر بالنسبة إلى الدين الجديد ما قدمنا من اعتبارات عامة بالنسبة إلى خصائص (الإعجاز) في الدين السابق، لأن القضية تتعلق هنا وهناك بالتركيب النفسي الذي عليه الإنسان، من جهة أنه إنسان يدرك الأشياء بعقله، مع ما في عقله من عجز عن إدراك حقيقة الدين مباشرة إن لم يكن هنا حجة خاصة، تسند تلك الحقيقة لدى عقله في صورة (إعجاز).

فالأسباب تتكرر، وإنما يتغير شكلها نظراً لما حدث من تطور في الظروف النفسية والاجتماعية حول الدين الجديد في البيئة التي ينشر فيها عيسى دعوته، تلك البيئة التي تشع عليها الثقافة اليونانية والرومانية.

ولكن دلالة ما أوتي عيسى من إعجاز ستزول أيضاً مع زوال موضوعها، للأسباب نفسها التي ألغت جانب الإعجاز في دين موسى، لأنه يأتي بعد عيس رسول جديد ودين جديد يلغيان الدين السابق، دين عيسى عليه السلام، فيلغي ضرورة التدليل على صحة الإنجيل.

ص: 66

وهكذا تأتي رسالة الرسول الأمين، ولكنها تتسم بصفة خاصة تميزها عما سبقها من الرسالات، إذ أنها الحلقة الأخيرة في سلسلة البعث. ويأتي محمد (خاتم الأنبياء) كما ينوه بذلك القرآن، ويشهد به مرور الزمن منذ أربعة عشر قرناً.

وما كانت هذه الميزة التاريخية في الدين الجديد، دون أن يكون أثرها في كل خصائصه، وفي نوع إعجازه على وجه الخصوص، فإن حاجة التبليغ ستبقى مستمرة فيه، سواء من الناحية النفسية، لأن كل مسلم- بعكس اليهودي- يحمل في نفسه (مركب التبليغ)، أم من الناحية التاريخية لأن الدين الجديد- الإسلام- سيكون دين آخر الزمن، أي الدين الذي لا يعقبه دين سماوي آخر، بل لا يأتي دين بعده بصورة مطلقة كما تشهد بذلك القرون، حتى إن حاجة الإسلام إلى وسائل تبليغه ستبقى ملازمة له، من جيل إلى جيل، ومن جنس إلى جنس، لا يلغيها شيء في التاريخ، وهذا يعني أن هذه الوسائل يجب ألا تكون- مثل الأديان الأخرى- مجرد توابع يتركها الدين في الطريق عبر التاريخ بعد مرحلة التبليغ، مثل اليد عند موسى أو عصاه التي لم يبق لها أثر حتى في متاحف العالم، كما بقيت عصا (توت عنخ آمون) المذهبية.

وعليه يجب أن يكون (إعجاز) القرآن صفة ملازمة له عبر العصور والأجيال، وهي صفة يدركها العربي في الجاهلية بذوقه الفطري كعمر رضي الله تعالى عنه أو الوليد، أو يدركها بالتذوق العلمي كما فعل الجاحظ في منهجه الذي رسمه لمن جاء بعده. ولكن المسلم اليوم قد فقد فطرة العربي الجاهلي وإمكانيات عالم اللغة في العصر العباسي، وعلى الرغم من هذا فإن القرآن لم يفقد بذلك جانب (الإعجاز) لأنه ليس من توابعه بل من جوهره؛ وإنما أصبح المسلم مضطراً إلى أن يتناوله في صورة أخرى وبوسائل أخرى، فهو يتناول الآية من جهة تركيبها النفسي الموضوعي، أكثر مما يتناولها من ناحية العبارة، فيطبق في دراسة مضمونها طرقاً للتحليل الباطن، كما حاولنا أن نطبقها في هذا الكتاب.

ص: 67

وإذا كانت هذه الضرورة ملحة بالنسبة للمسلم، الذي حاول تعقيد عقيدته على أساس إدراك شخصي لقيمة القرآن بوصفه كتاباً منزلاً، فإنها أكثر إلحاحاً بالنسبة لغير المسلم الذي يتناول القرآن بوصفه موضوع دراسة أو مطالعة.

فهذه في مجملها الأسباب التي دعتنا إلى تطبيق التحليل النفسي خاصة لدراسة القرآن بوصفه ظاهرة.

بيد أن تنفيذ هذه المهمة قد أظهر نقائص جهازنا الفني دونما تواضع، بل عن معرفة تامة بالقضية التي نعدّ تنفيذها مجرد إرشاد لما سيتلوها من دراسات، نحتاج للقيام بها أن نحشد وسائلنا الفنية ووثائقنا التي لم نستطع بكل أسف أن نجمعها للقيام بهذه الدراسة.

ومن المفيد هنا أن نذكر كم سيكون مفسر الغد بحاجة إلى معرفة لغوية وأثرية واسعة، فإن عليه أن يتتبع الترجمة اليونانية السبعينية للكتاب المقدس، والترجمة اللاتينية الأولى من خلال الوثائق العبرية، وبصورة أعم عليه أن يتتبع جميع الوثائق السريانية والآرامية ليدرس مشكلة الكتب المقدسة.

هذه مهمة جليلة لا يمكننا الشروع فيها، على الرغم من رغبتنا الحارة في تحقيق هذا الأمل والله يوفقنا.

مصر الجديدة 1/ 11/ 1961

مالك بن نبي

ص: 68