الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسنبحث الآن بإيجاز هاتين الحقيقتين المتتاليتين، موردين في كل منهما الأحداث التي تطبع شخصية النبي، والتي انطبعت بشخصيته، كيما نكشف بقدر الإمكان عن طبيعة الارتباط بين الذات المحمدية، والظاهرة القرآنية.
…
عصر ما قبل البعثة
طفولة النبي- مراهقته
إن هناك تقاليد طيبة مشتركة بين جميع الشعوب، تحوط مهود عظماء الرجال وقبورهم بالأساطهير؛ ولقد أحاطت الروايات الإسلامية الوسط العائلي للنبي وميلادَه وطفولته بالخوارق المنبئة بما ينتظره من مستقبل فريد رائع، ولكن ليس من الضروري أن نهتم بدرجة صحتها التاريخية لأنها لا تهم موضوعنا مباشرة، بل إننا سنصرف كثيراً من اهتمامنا إلى التفاصيل التي ستكشف شيئاً فشيئاً عن الصفات الخاصة بذلك (الطفل)، الذي ظل بالنسبة لمرضعته (حليمة) مصدر سرور وقلق معاً.
لقد شب الطفل عندها كأنه نبتة قوية من نبات الصحراء، ولكنه حين كان في دور الرضاعة كان يبكي كلما كشف من أجل النظافة (1)، فإذا أرادت مرضعته أن تهدئ من بكائه خرجت به في الليل أمام الخيمة، فيغرم الطفل بمنظر الفلك الداجي، الذي يبدو أنه كان يسلط جاذبية مؤثرة على مقلته، لا زالت تتلألأ فيها العبرة الأخيرة.
كببر الطفل الآن، وصار يلعب في نواحي الخيمة مع إخوته في الرضاعة.
(1) لم أجد لهذا الخبر أثراً في كتب السيرة المعتمدة. ((المترجم))
ومع ذلك فإن عارضاً قد حدث بالتأكيد فغير مجرى حياته. فما هو هذا الذي حدث؟ لقد جاء أحد إخوته في الرضاعة ذات يوم مبهور الأنفاس، ليقص متلعثماً على حليمة المذعورة حادثاً غريباً فاجأ محمداً، فهبت حليمة من فورها تبحث عن رضيعها، فلما لقيته أكد لها ما حدث قائلاً:(جاءني رجلان يلبسان البياض فأمسكاني وفتحا صدري وقلبي وأخرجا منه علقة سوداء)(1).
وترى السيرة في هذه القصة اقتلاعاً رمزياً للإثم من جذوره، وربما أورد لها بعض المفسرين قوله تعالى:
{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الانشراح 94/ 1 و3 و3].
ولكن من الثابت أن حليمة قد أعادت الطفل إلى مكة عندما كان في الرابعة أو الخامسة من عمره.
فماذا يمكن أن ينطبع في عقله من هذه الحقبة من الحياة الوثنية والبدوية؟.
لا شيء- بكل تأكيد- يمكن أن يكون قد علق بذاته فيما يتعلق بالدعوة المقبلة.
وبعد قليل ماتت أمه (آمنة)، ولم يعد للغلام منزل أبوة، فضمه جده (عبد المطلب) إليه.
(1) قال القريزي في "إمتاع الأسماع" عند حديثه عن رضاعة الرسول في بني سعد: ((وشق فؤاده المقدس هناك، وملئ حكمة وإيماناً بعد أن أخرج حظ الشيطان منه)). وروى البخاري في صحيحه ((شق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج " وقد استشكله أبو محمد بن حزم. كما روى مسلم في صحيحه ((ج2 ص 215 بشرح النووي- طبع الطبعة المصرية) من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه. قال أنس: ((وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره)). (على أن الشق في فترة الحضانة روي أيضاً في مسند الدارمي المقدمة باب 3)((ف)). ((المترجم))
ثم مات الجد العجوز، فكفله عمه (أبو طالب)، أبو (علي)، وكانت سنه آنذاك سبعاً أو ثمانياً.
وفي منزل الوصي حيث لا ثروة تغني أهل البيت عن العمل، كان عمه يعمل قائداً ورائداً للقوافل المكية، فكان يذهب في مواسم معينة إلى مراكز التجارة الشامية، لمقايضة منتجات الهند واليمن بمنتجات بلاد البحر الأبيض المتوسط، وفي أحد هذه الأسفار، حين بلغت سن النبي إحدى عشرة أو اثنتا عشرة سنة، توسل إلى عمه أن يصطحبه، ولكنه رفض لأنه لم يكن يريد أن يصطحب رفيقاً حدثاً مثله، في سفر طويل قاس.
ومع ذلك فقد ألح الغلام وذاب في دموعه، وألقى بنفسه بين ذراعي عمه الذي استجاب أخيراً لطلبه المؤثر.
تلك إذن هي المرة الأولى التي اتصل فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالعالم الخارجي، أي إنه عاش حتى الثانية عشرة، في بيئة عربية وثنية، يرعى إبل عمه في ضواحي مكة؛ ومعنى ذلك أن حياته لم تنطبع بأي ظرف خاص من نوع ثقافي، بل لقد عاش تلك الفترة يتيماً راعياً. هذا السفر غير المتوقع سيضع في طريق الغلام الحادث العارض الأول الذي يتصل مباشرة بالدعوة المستقبلة.
فعندما بلغت القوافل مدينة (بصرى) بالشام، استقبلهم راهب الدير استقبالاً حاراً، وقدم لهم الضيافة المسيحية ثم انتحى ذلك الراهب المسمى (بحيرا) بأبي طالب جانباً وقال له:((ارجع إلى مكة بابن أخيك، واحذر عليه اليهود فإنه كائن له شأن عظيم)) (1).
فهل أولى أبو طالب هذه الحادثة العادية في السفر ما تستحق من الاهتمام،
(1) ابن الأثير ج 2 ص 24.
ليشترك مع ابن أخيه في رسالته المقبلة، وهو الذي مات دون أن يعترف مطلقاً بالإسلام؟
…
وعلى كل، فإن رئيس القافلة المكية كان يجب عليه أولاً أن يكمل مهمته التجارية، قبل أن يأخذ طريق العودة.
أما فيما يخص الغلام- حتى على فرض أن القصة طرقت سمعه، فإن الحادث- فيما يبدو- لم يغير شيئاً من سلوكه كسائر شباب قريش.
والسيرة اليقظة لوقائع حياته لم تذكر شيئاً خاصاً- منذ هذا الحادث التاريخي- يدل على أن نبي المستقبل قد تجلى له مستقبله.
لقد بلغ (محمد) مرحلة المراهقة في مدينة مولده، فقد كان يختلط بالفتيان، ماراً بشهواتهم وأهوائهم دون أن ينزلق فيها، مع أن أحيان الفساد لم تكن قليلة هناك، فقد كانت المصابيح الحمراء المعلقة على أبواب الجواري المنحرفات يجتذبن شباب مكة، المولعين بحمل السلاح، وعشق النساء، ومطارحة الأشعار، وهم يحملون بشجاعة عنترة وغرام امرئ القيس، وكل منهم يمني نفسه بتخليد اسمه، ويود لو يعلق ذات يوم معلقته (على أستار الكعبة)، والرسول صلى الله عليه وسلم نفسه قد حدثنا عما كان يراوده من نزعات الشباب، فقد ورد في الخبر: أنه كان يرعى غنماً لأهله مع فتى من قريش بأعلى مكة، فاستأذنه في أن يبصر له غنمه حتى يسمر بمكة كما يسمر الفتيان، فخرج فما جاء أدنى دار من دور مكة سمع غناء وصوت دفوف ومزامير في عرس بالمدينة، فلها بذلك حتى غلبته عيناه فنام، ثم عراه مرة أخرى مثل ذلك. ومن هذا يظهر أن حادثاً عارضاً غير متوقع يحدث دائماً ليحوله عن قصده، وليست الخرافة هي التي تتكلم في هذا الشأن، ولكنه الشاهد نفسه، أعني التاريخ القائم على الأحاديث الصحيحة، ولدينا في هذه النقطة مرجع مهم: فإن نبي المستقبل كان ولا شك يلقى في غمار