الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمَذْهَبُ الْمَادِّيُّ
من حيث المبدأ: المادة هي العلة الأولى لذاتها، وهي أيضاً نقطة البدء في ظواهر الطبيعة؛ وبديهي أنه لا يحق لنا أن نعد المادة شيئاً عرضياً (حادثاً)، إذ أنها حينئذ ستكون منبثقة عن بعض الأشياء، أي عن سبب خالق مستقل، وهذا يتنافى مع الفرض. وإذن بكل بساطة: هي موجودة، وهي أيضاً غير مخلوقة. وهكذا نتفق على أصل المادة مبدئياً، ونهتم فقط بتطورها (1) في حالاتها المتعاقبة بادئين من نقطة التسليم هذه. فيمكن القول: إن الخاصة الوحيدة للمادة في مبدأ الأمر هي أنها كانت (كماً) معيناً أو كتلة.
وبناء عليه يجب أن نعد جميع الخواص الأخرى نتائج لهذه (الخاصة الوحيدة)، ولها وحدها.
ويجب على الأخص أن نعد هذه المادة من حيث الأصل في حالة بساطة وتجانس تام، لأن كل تنوع في ذاتها يستتبع تدخل عوامل متنوعة بالضرورة، مما يتنافى مع المؤثر الوحيد، وهو خاصة (الكم). هذا الشرط يستتبع حالة مبدئية
(1) على الرغم من أن ملاحظاتنا عن تطور المادة المحتمل مفيدة من الناحية المنهجية، في عرض يتصل بالموازنة بين مذهبين متعارضين، يقوم كلاهما على أساس مناف للآخر:(الله أو المادة)، فهي ليست ملازمة لاستخلاص الفكرة الجوهرية في هذا الفصل. ويكفي القارئ الذي لم يتمرس بمسائل العلوم، أن يتابغ العرض ابتداء من العهد الحيوي (البيولوجي) في تطور المادة. أي من التطور الذي صورناه في حدود المعادلة:
مؤثرات حرارية ديناميكية + عوامل كيميائية = مادة حية
لا يمكننا فيها أن نتصور المادة منظمة بأية طريقة، وإلا فإن التركيب الذري - الذي اكتشف العلم تنظيمه وتركيبه- يوحي بتدخل جزيئات نووية متنوعة منذ البدء، مما يتنافى أيضا مع شرط البساطة والتجانس التام. وبالتالي فإن المادة بالضرورة من حيث أصلها في حالة تحلل كلي وهي- كهربياً- متعادلة، أي لا توصف بأنها سالبة أو موجبة. فهي- مثلاً- (كمية) من (النترونات) لا توجد بينها في ذاتها سوى علاقة تجاذب، فتنظيمها الذري في المستقبل سيكون مرحلة لتطورها، وتطورها هو الذي يؤدي إلى إظهار الجزيئات النووية:(البوزيترون Positrons) ، و (الميزوترون Mesotrons) ، و (الألكترون Electrons) .. الخ .. والقوى الكهربية الاستاتيكية المقابلة.
ومن غير أن نتسرع في الحكم على هذا التنوع الجزيئي، فإن هناك سؤالاً يفرض نفسه عن إمكان تكوين الذرة الأولى، وهو تكوين يمكن إدراكه بصعوبة، وهو أيضاً غريبا في نظر قانون (كولب Coulomb) الذي يحكم الظاهرة ضرورة.
وفي الحق إنه لمن الصعب أن نتصور كيف تكونت النواة الأولى من أجزاء من النوع نفسه، وتسمى بالاسم نفسه، وتتنافر بفعل قانون الكهربا الأستاتيكية الأساسي.
ومع ذلك فإننا سنسلم بإمكان ذلك، ولكن هل تبدأ دورة الاندماج بين الجزيئات بالنسبة للنواة الأولى في وقت واحد للعناصر الاثنين والتسعين (1) التي رتبها (ماندليف)؟ أم أن ذلك يحدث بالتتابع من عنصر لآخر؟ فإن كان هناك ما يسمى (بالاقتران الزمني) فإن عنصراً واحداً فقط يمكن أن يوجد
(1) بلغ عدد العناصر المكتشفة عنصرين ومائة عنصر (102)، وقد اشترك في اكتشاف العنصر الأخير العالم البريطاني الدكتور (ميلستبد). (المترجم)
طبيعياً بواسطة تدخل مؤثر واحد، أي حالة المادة في بساطتها وخلوها من التكهرب. ولكن ستبقى إحدى وتسعون حالة شاذة عن القاعدة، لا يمكن أن يوجدها المؤثر نفسه في الوقت نفسه.
وعلى العكس من ذلك إذا كان هناك تتابع في خلق المادة لعناصر الطبيعة، فمن الواجب تفسير تكون هذه العناصر على أنه مجموعة من واحد وتسعين تحولاً عنصرياً، ابتداء من عنصر واحد أولي، وليكن (الإيدروجين).
وهنا يمكن أن تحتل الظاهرة مكانها سواء أكان ذلك بواسطة سلسلة وحيدة:
تخلق المادة الأولى العنصر الأول، بم تتوالد العناصر الباقية منه في سلسلة واحدة، أم كان بسلاسل متعددة: تخلق المادة الأولى العنصر الأول (الإيدروجين)، ومن هذا العنصر الأول تتولد عائلة من الأجسام البسيط ولتكن أربعة مثلاً، يتسلسل من كل منها مجموعة من العناصر الباقية والكل ناتج، عن عنصر أولي.
ففي الحالة الأولى: تتطلب السلسلة الوحيدة واحداً وتسعين تحولاً عنصرياً محدداً؛ إن كل عنصر يتشكل في الوقت الذي تبقى فيه العناصر التي سبقته، وهي على ذلك تتعرض لإحدى وتسعين حالة من التعادل الطبيعي الكيماوي المختلف، الذي يتضن تدخل عامل مختلف أيضاً عن قانون الاندماج الأولي. ولكننا افترضنا أصلاً أن هذا القانون وحيد، وأنه مستقل عن الزمان وعن سائر العوامل الحرارية الديناميكية. فلدينا إذن سلسلة مكونة من واحد وتسعين تحولاً عنصرياً تتولد من العنصر الأول، وهذه السلسلة لم تحظ بتفسير طبقاً لقانون واحد.
وعلى هذا ففي كلتا الحالتين لا يجد جدول (ماندليف) تفسيراً كافياً في نظر المبدأ الذي نسلم به، وهذا يثبت ضعف المذهب المادي.
ثم يزيد هذا الضعف وضوحاً- في نظرنا- إذا نحن تتبعنا تطور المادة في
الحالة الثانية، فهي بعد أن أصبحت في حالة منظمة غير عضوية، ستصل إلى تحول عنصري حيوي، وستصبح كمية منها مادةً عضويةً حية هي (البروتوبلازم).
وعندما تتطور هذه المادة بدورها خلال سلسلة حيوانية معينة تصبح بناء على تحول عنصري جديد مادة مفكرة، هي الإنسان.
فعندنا معادلة (1) معينة هي: مؤثرات حرارية ديناميكية + عوامل كيمائية = مادة حية >> الإنسان
وهذه المعادلة صحيحة طوال العهد الجيولوجي المطابق للعوامل أو المؤثرات الحرارية الديناميكية التي تبدو في الجزء الأول من معادلتنا (مؤثرات حرارية ديناميكية + عوامل كيمائية)، فإذا نحن سلّمنا جدلاً بمدة هذا العهد، وكذلك بمدة الدورة الحيوانية التي تنتقل بالمادة الحية من حالة عدم التشكل (للبروتوبلازم) إلى الحالة المنتظمة الفكرة للإنسان، فإن هناك بالضرورة عدداً من الأجيال مطابقاً للنسبة بين هاتين الفترتين، وعليه فإن الجيل الأول يكون قد سبق بالنسبة لما أعقبه بمدة طويلة معادلة لطول العصر الجيولوجي الذي تصح فيه شروط المعادلة.
وفي نهاية ذلك السباق يكون الجيل الأول قد وعى حقيقة دنياه، والظواهر التي مرت عليه.
وينبغي خصوصاً أن يكون الجيل السابق قد سجل في ذاكرته ظاهرة الأجيال التي تليه، ولكن الجيل الإنساني الحالي لم يسجل في مفكرته حدثاً
(1) هذه المعادلة يفرضها المبدأ الذي سلمنا به في هذا الفصل وهو ((أن المادة تخلق نفسها)) فهي صحيحة محتمة علمياً على حين تناقضها بعض نتائجها كما هو ظاهر من التحليل التالي.
كهذا، ولا نجد لديه إلا أثراً يتعلق بالجيل الآدمي الحاضر. فمن الضروري إذن أن نقر أن المعادلة البيولوجية المشار إليها لم تحدث سوى مرة واحدة، ومن أجل جيل وحيد فريد؛ وبعبارة أخرى: هنالك حتمية بيولوجية لا تستطيع العوامل المادية وحدها أن تبرهن عليها، وهذا يلفت انتباهنا إلى نقص في المذهب المادي، وهو نقص يثبت ضعف مبدئه الأساسي، وسيزيد هذا النقص في نظرنا إذا ما اعتبرنا أن المعادلة المذكورة لا تعطينا تفسيراً لظاهرة التوالد الحيواني. وهناك في الواقع مشكلة جديدة تخص وحدة النوع التي لا يمكن أن ترى في الفرد، وإنما في الزوج: الذكر والأنثى؛ ولذلك فإن النظرية المادية لا تقدم أي تسويغ لهذا الازدواج الذي يعد شرطاً لوظيفة التوالد الحيوانية.
فإذا كان هناك حدث (بيولوجي) عرضي فيما يخص الرجل، فإن المشكلة تظل تواجهنا على الرغم من ذلك فيما يتعلق بالمرأة، إلا إذا قررنا حدثا مزدوجاً في الأصل، نتج عنه الزوج المتوالد الضروري لتناسل النوع الإنساني، وإذا نحن قررنا على الرغم من كل شيء هذا الحدث المزدوج للمادة، يكون من الصعب أن نقرر أن نتيجته كانت متسقة تماماً مع هدف وظيفة التناسل الواحدة المشتركة بين الذكر والأنثى.
وعلى كل فإن حتمية المادة يمكن أن تصح إذا كانت تتحقق في صورة خنوثة زوجية لنوعين متماثلين مستقلين: نوع الرجل ونوع المرأة، وبهذا يوجد أيضاً بقية نقص تثير عدم التوافق في المبدأ.
ومن وجهة النظر الآلية: من الثابت أن المادة تخضع لمبدأ (القصور الذاتي) خضوعاً تاماً، فالمادة الحية على هذا تعد استثناء من القاعدة: فإن الحيوان مزود بميزة تعديل وضعه بنفسه، وهنا يظهر أيضاً ضعف المذهب المادي.
وهناك ظواهر أخرى لا تقل عن السابقة في إثارة الاهتمام بغرائب المذهب
المادي، ومن ذلك ظهور بقع في بشرة الزنوج، فهل يمكن أن يعزى هذا إلى تأقلم عضوي في بيئات يؤثر عامل الشمس فيها تأثيراً كبيراً؟ ومع ذلك ففي المستوى نفسه نجد البشرة البيضاء والصفراء أو النحاسية، فهل يمكن أن يعزى هذا إلى الغابة العذراء؟ وفي هذه الحالة يجب أن تتلون بشرة الإنسان في البرازيل مثلاً.
وأخيراً ففي علم الفلك نصادف أيضاً غرائب غامضة في نطاق المذهب المادي، فقد كشف تحليل ألوان الطيف عام 1939م لعالم الطبيعة (هابل) اتجاه حركة النجوم السديمية الخارجية عن سمائنا بالنسبة لعالمنا، فإن هذه السديميات تبتعد عن كوكبنا، فيما عدا ستاً تقترب منه على عكس سالفاتها.
وهكذا تحتمل المادة في مجموعها- بالنسبة لنا- تفسيرين متعارضين، فإذا وضح أحدهما في ضوء قانون أساسي معين، فإن معنى الآخر يظل معلقاً، وكل هذا الشذوذ الذي يتنافى مع الحتمية المادية المحضة- أساساً- يحتم إعادة النظر في بناء المذهب كله، فإن المبدأ الأساسي نفسه يبدو عاجزاً عن تزويدنا بنظرية متسقة عن الخلق وعن تطور المادة.
** *