الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن تفكير النبي وإخلاصه وإرادته وذاكرته، وإحساسه وسيطرته على ذاته، ليست هذه كلها لديه كلمات جوفاء، بل إنه على العكس من ذلك، قد أبرز هذه الخصائص الرفيعة بصورة نادرة.
وعليه فإن اقتناعه يبدو لأول وهلة حقيقة لا يمكن إغفالها، هع أننا ملزمون - في مقياسنا الثاني- بأن نستخلص مباشرة نتائجنا عن الظاهرة القرآنية، من تحليلنا للقرآن.
أما الآن، فيجب أن نحاول تتبع العملية التي يصدر عنها الاقتناع الشخصي لدى النبي، فالطريقة التي استطاع بها أن يعكف بنفسه على حالته الخاصة، لا تخرج دون شك عن القواعد التي يخضع لها نشاط فكر موضوعي كفكره.
ولا شك أن الأحداث التي أثرت على جوارحه قد لفتت نظره أولاً للظاهرة، ثم إن فكره المتواصل- دون شك- قد تناول مثل هذه الأحداث لكي يتحقق من موضوعيتها، أعني من مجرد وقوعها على المرآة العاكسة لذاته.
ومن هنا كان النبي بحاجة إلى التثبت من مقياسين يدم بهما اقتناعه:
(أ) مقياس ظاهري للتحقق من وقوع الظاهرة.
(ب) مقياس عقلي لمناقشتها وتسويغها.
مقياسه الظاهري
في سن الأربعين، يجد النبي نفسه فجأة موضوعاً لظاهرة غير عادية، فعلى شفا هاوية (حِراء) يسمع للمرة الأولى هذا الصوت:
"يا محمد .. أنت رسول الله ".
فيرتفع بصره نحو الأفق، وإذا بضوء يبهره محيطاً بصورة غير مألوفة. هذا
الحادث المزدوج الذي أمسك به على حافة الانتحار يصبح الآن بالنسبة له شغلاً متسلطاً مؤلماً:
فهل سمع ورأى حقاً؟ أو أن هذا الحادث السمعي البصري لم يكن سوى سراب باطني، انبعث في نفسه تحت تأثير انفعال مؤلم قاده إلى شفا الهاوية؟
ألم تخدعه جوارحه المنفعلة؟
لقد كان يجب أن تثور هذه الأسئلة كلها من أول وهلة في ذهن النبي، حتى قبل أن يثيرها النقد في عصره أو عصرنا.
فهو يخيل إليه أنه قد ألَمَّ به، فيمضي مسرعاً، ليسر بيأسه إلى زوجه الحانية، يشركها في فكرته المسيطرة عليه
…
في اضطرابه وخلطه.
ومع ذلك، فحتى في كنف زوجه الرقيقة لا تزايل رؤية جبل النور عينيه، كأنما هي مطبوعة على باصرته بشعاع ثابت غير منظور، فتحسرت زوجه وألقت خمارها ثم قالت: هل تراه؟ قال: لا
…
قالت: يا بن عم .. اثبت وأبشر فوالله إنه ملك، ما هو بشيطان (1).
قد يرى عصرنا المغرم بالعلوم في هذا الذي حدث دليلاً على ظاهرة ذاتية محضة، لأن الرؤية موضوع الظاهرة لم تحدث في حضور خديجة، لكن هذا الخروج على القاعدة ليس عسيراً على الفهم، من الناحية الحسية: فإن عمى الألوان مثلاً يقدم لنا حالة نموذجية، لا يمكن أن ترى فيها بعض الألوان بالنسبة لكل العيون، وهناك أيضا مجموعة من الإشعاعات الضوئية دون الضوء الأحمر، وفوق الضوء البنفسجي لا تراها أعيننا، ولا شيء يثبت علمياً أنها كذلك بالنسبة
(1) ابن الأثير ج2 [ص:32].
لجميع العيون، فقد توجد عيون يمكن أن تكون أقل أو أكثر حساسية أمام تلك الأشعة، كما يحدث في حالة المخلية الضوئية الكهربية.
ونضيف إلى ذلك أن ظاهرة الوحي سيصحبها فيما بعد دلائل حسية يشعر بها بعض من شاهدوها خلال حدوثها (1).
ولكنا فيما يخص مرحلة ظهورها الأولى يمكن أن نتصور أن النبي كان في حالة من حالات التلقي، فهو بهذا الشاهد الممتاز على الظاهرة.
ويمكننا أن نستخدم هنا مقياساً فجاً، ولكنه مفيد لعقول المغرمين بالعلوم، هذا المقياس نجريه بين حالة التلقي هذه، وبين ما يسمى بالانتفاء الخاص في جهاز الاستقبال، ففي المجال الحسي تكون المسألة في أقصى صورها مسألة ضبط، وفي محيط النبوة يمكن أن نتصل بوضع خاص بالنبي في استقبال موجات ذات طبيعة خاصة.
وأية كانت وجهة الأمر، فبعد ظهور الوحي للمرة الأولى التي هزته هزاً عميقاً عاد محمد إلى (غار حِراء) وهناك عاودته الرؤية، ولكنها في هذه المرة أكثر قرباً ومباشرة وتأثيراً ومادية نوعاً ما، فإن لها شكلاً خاصاً هو هيئة (رجل متشح بثوبه الأبيض)، تأمره قائلة:{اقرأ} [العلق 1/ 96]
ترى هل يمكن للاختلاط أو (الهلوسة) أن تؤدي أصواتاً؟ ومع ذلك فإن
(1) عن عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول". قالت عائشة رضي الله عنها: "ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقاً"
…
رواه البخاري ج1 كتاب (كيف كان بدء الوحي). (المترجم)
الرؤية تتكرر آمرة: {اقرأ} ، هذا الحوار الغريب، والرؤية التي تسبقه وتصحبه وتلحقه، يشكلان الأساس الأول الضروري للنبي في نظر النقد الذاتي لحالته، فها هي ذي الظاهرة تحت سمعه وبصره، فهو يرى ويسمع.
ولكن في الوقت الذي تصير فيه الرؤية أكثر قرباً وأكثر تمثلاً، يصبح الكلام واضحاً تماماً، مهما احتوى المضمون الأول الصادر عنه من الغرابة، إذ هو أمر (القراءة) موجه إلى أمي.
فالنبي- من كل وجه- لا يبدو أنه قد استفاد توجيهاً محدداً لسلوكه المستقبل، فهو الآن يشاهد، ويشاهد فحسب.
لكن هذه المشاهدة الحسية الخالصة تترك فكره الموضوعي في حال حائرة مختلطة، فيعود مسرعاً إلى مكة، مضطرباً كما لم يكن، محطم الجسد كما لم يحدث، وهو يشعر بحاجته إلى أن يهدئ أهله من روعه، أو إلى أن يدثروه، فتدثره خديجة بعباءة، فيضع رأسه على الوسادة وينام، بينما تلاطفه بكلماتها المسلية.
ولكن إحساساً لا شعورياً يعاوده فيوقظه، وإذا برؤية حراء أمام عينيه تملي عليه أمراً واضحاً صريحاً {قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر 2/ 74].
إن النبي سيدرك للمرة الأولى أهمية الظاهرة في إطار حياته الخاصة، وسيظهر بعد تأمل أثاره هذا الوحي اقتناعه الوليد، فيما يسر به إلى خديجة:" لقد أمرني جبريل أن أنذر الناس، فمنذا أدعو، ومنذا يستجيب؟ " وفي هذا التساؤل، نلمح الريبة التي ليست بالتحديد صدى ليقين لا يتزعزع، وهو اليقين الذي سنجده لديه عندما يتحقق حتى نهاية دعوته، والذي أثاره خاصة عندما فاتحه عمه أبو طالب في عرض قريش ليضع حداً لدعوته.
إنه لم يصل بعد إلى هذه الدرجة من اليقين، فاقتناعه ليس مطلقاً، وهو رهن بالظروف الخارجية للنجاح، الذي يبدو له غير محتمل في تلك اللحظة،
ومع ذلك فإن تيار الوحي لن ينقطع، وستلفت بعض الظواهر العضوية نظر النبي، فيصاحب كل وحي عنده أعراض خاصة، وسوف يحدث أصحابه- فيما بعد- بأنه سمع قبيل حدوث الظاهرة، أي قبيل نزول الوحي، دوياً مؤذناً، شبيهاً أحياناً بدوي النحل عندما ينطلق من خليته، وأحياناً أخرى أكثر رنيناً حتى كأنه صلصلة جرس.
ومن ناحية أخرى استطاع أصحابه أن يلاحظوا كما نزل الوحي، شحوباً مفاجئاً، يتبعه احتقان في وجه النبي (1) وهو نفسه يدرك ذلك، ولذا يأمرهم بأن يلقوا على وجهه ستراً (2) كما طرأت الظاهرة، ألا يعني هذا الاحتياط أن هذه الظاهرة كانت مستقلة عن إرادة النبي صلى الله عليه وسلم، حق يصبح عاجزاً مؤقتاً عن أن يغطي وجهه بنفسه، وهو يعاني حالة متناهية الإيلام، كما روت السيرة.
لقد تعجل بعض النقاد حين ألموا بهذه الدلائل النفسية فعدّوها أعراضاً للتشنج، هذا الرأي يشتمل خطأ مزدوجاً حين يتخذ من هذه الأعراض الخارجية مقياساً يحكم به على الظاهرة القرآنية في مجموعها. ولكن من الضروري أن نأخذ في اعتبارنا قبل كل شيء الواقع النفسي المصاحب، الذي لا يمكن أن يفسره أي تعليل مرضي.
وأكثر من ذلك، فإن الأعراض العضوية نفسها ليست خاصة بحالة التشنج التي تحدث شللا ارتعاشياً (إن صح التعبير) عند الفرد المحروم مؤقتاً من قواه العقلية والجسمية.
(1) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي كرب لذلك. وترتد وجهه، وفي رواية نكس رأسه ونكس أصحابه رؤوسهم، فلما سري عنه رفع رأسه".
(2)
جاء في البخاري، كتاب (26)(العمرة) - 10 - باب (يفعل في العمرة ما يفعل في الحج) ما يفيد أنه صلى الله عليه وسلم كان يستر بثوب حين ينزل عليه الوحي، وأن عمر رضي الله عنه رفع طرف الثوب لينظر السائل إلى الرسول وهو في حاله تلك (ف).