الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أرمياء
هذا هو أنصع مثال يمكن استخلاصه من الحركة النبوية الإسرائيلية ليعرض علينا الأفكار العامة عن النبوة، وعن نفسية النبي.
ولقد سبق أن اتخذنا الصحة التاريخية المقررة لكتاب هذا النبي أحد بواعث اختيارنا لحالته.
وهناك باعث آخر هو أننا نريد أن نعقد موازنة علمية بين النبوة وادعاء النبوة. ولقد سبق أن بيّنا مصير كلمة (النبي) في الآداب الدينية الإسرائيلية في القرنين السابع والسادس قبل الميلاد. وإذن فإذا كان هناك مقياس يسمح بالتمييز بين نوعين من الفكرة الدينية في ذلك العصر متمثلين في أرمياء وحنانيا، فهو استمرار فكرة التوحيد خلال الحركة النبوية كلها، منذ (عاموس) إلى (أشعياء الثاني). ويتميز النبي الموحى إليه عن منافسه المحترف، بمقاومته العنيفة ضد الألوهية القومية، التي صارت لب العقيدة الشعبية، فجميع الاتجاهات الخلقية للنبي الموحى إليه قائمة على أساس الفكرة المتسلطة الملازمة: فكرة إله واحد عام، يريد النبي أن يثبت فرائضه الخاصة في شعائر قومه.
ولم تكن آيات الوعيد المرعب، وإنذارات السيطرة الخارجية والتهديد بهدم المعبد، إلا توابع لهذه الفكرة على الرغم من أنها كانت أكثر إثارة لاهتمام الشعب، كما هي اليوم أكثر إثارة لاهمام النقد الحديث بكل أسف.
وفي مقابل ذلك يقف مدعي النبوة موقف أحد الانتهازيين الذين يتبعون
التيار الشعبي، فهو بهذا لا أثر له أخلاقياً وليس ملهماً، بل إن موقفه تجاه عقائد عصره هو موقف المبالغة في التساهل تساهلاً يصل إلى درجة التملق والملاينة. ومع ذلك فإذا لم يكن هناك مجال للحديث بعد محمد صلى الله عليه وسلم عن الحركة النبوية بمعنى الكلمة في التاريخ الديني للإنسانية، فقد استمرت حركة ادعاء النبوة في الظهور في جميع العصور وفي كل مكان تقريباً. فهناك كثير من المنقذين في الهند، وهناك الأب الرباني في أمريكا قبل سنوات الحرب، كما ظهر (الباب) في فارس، فمتى ميزنا بين هاتين الوظيفتين: النبوة وادعاء النبوة، بناء على صفاتهما التاريخية ومبادئهما الفلسفية، فبديهي أن نميز بين العاملين اللذين يؤديانهما، وهما النبي ومدعي النبوة؛ فمهمة الأول في سماتها الخالصة: أن لها مبدأ وثيق الصلة بالأفكار العامة للحركة النبوية، ولها زمن يتناسب مع عرض هذا المبدأ وتبليغه، وهذه حالة (عاموس) الذي عاد يرعى كباشه في (تكوا)(1) في هدوء بعد تبليغ دعوته وتحذيراته المروعة. على حين لا يبشر مدعي النبوة بمبدأ شخصي بالمعنى الصحيح، بل يكتفي إما بأن يطنب في شرح رسالة النبي، وإما بأن يبشر بنوع من المعارضة في مقابل رسالة النبي: فعندما حمل أرمياء النير الرمزي، وبالغ في إنذاره بالتشاؤم، جاء حنانيا المتنبئ ليحطم هذا النير ويبشر بالتفاؤل، حتى أثّر على النبي المتشائم نفسه مؤقتاً؛ هذه الموازنة الموجزة تبين تياري الفكرة الدينية، والرجلين اللذين يعبران عنها، وهكذا نرى الأسباب التي توجب عدم الخلط بينهما.
…
(1) قرية اندثرت من قرى فلسطين.