الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خلدين فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمين وقصته مَعْرُوفَة فَإِنَّهُ بنى أساس أمره على عبَادَة الله بِجَهْل فأوقعه الشَّيْطَان بجهله وكفّره بجهله فَهَذَا إِمَام كل عَابِد جَاهِل يكفر وَلَا يدْرِي وَذَاكَ إِمَام كل عَالم فَاجر يخْتَار الدُّنْيَا على الْآخِرَة وَقد جعل سُبْحَانَهُ رضى العَبْد بالدنيا وطمأنينته وغفلته عَن معرفَة آيَاته وتدبرها وَالْعَمَل بهَا سَبَب شقائه وهلاكه وَلَا يجْتَمع هَذَانِ أعنى الرضى بالدنيا والغفلة عَن آيَات الرب إِلَّا فِي قلب من لَا يُؤمن بالمعاد وَلَا يَرْجُو لِقَاء رب الْعباد وَإِلَّا فَلَو رسخ قدمه فِي الْإِيمَان بالمعاد لما رَضِي الدُّنْيَا وَلَا اطْمَأَن إِلَيْهَا وَلَا أعرض عَن آيَات الله وَأَنت إِذا تَأَمَّلت أَحْوَال النَّاس وجدت هَذَا الضَّرْب هُوَ الْغَالِب على النَّاس وهم عمّار الدُّنْيَا وَأَقل النَّاس عددا من هُوَ على خلاف ذَلِك وَهُوَ من أَشد النَّاس غربَة بَينهم لَهُم شَأْن وَله شَأْن علمه غير علومهم وإرادته غير إرادتهم وَطَرِيقه غير طريقهم فَهُوَ فِي وَاد وهم فِي وَاد قَالَ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
ثمَّ ذكر وصف ضد هَؤُلَاءِ ومآلهم وعاقبتهم بقوله {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جنَّات النَّعيم} فَهَؤُلَاءِ إِيمَانهم بلقاء الله أورثهم عدم الرِّضَا بالدنيا والطمأنينة إِلَيْهَا ودوام ذكر آيَاته فَهَذِهِ مَوَارِيث الْإِيمَان بالمعاد وَتلك مَوَارِيث عدم الْإِيمَان بِهِ والغفلة عَنهُ
فَائِدَة عَظِيمَة أفضل مَا اكتسبته النُّفُوس وحصلته الْقُلُوب العَبْد ونال بِهِ
العَبْد الرّفْعَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة هُوَ الْعلم وَالْإِيمَان وَلِهَذَا قرن بَينهمَا سُبْحَانَهُ فِي قَوْله {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْم الْبَعْث} وَقَوله {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات} وهؤلاهم خُلَاصَة الْوُجُود ولبه والمؤهلون للمراتب الْعَالِيَة وَلَكِن أَكثر النَّاس غالطون فِي حَقِيقَة مُسَمّى الْعلم وَالْإِيمَان اللَّذين بهما
السَّعَادَة والرفقة وَفِي حقيقتهما حَتَّى أَن كل طَائِفَة تظن أَن مَا مَعهَا من الْعلم وَالْإِيمَان هُوَ هَذَا الَّذِي بِهِ تنَال السَّعَادَة وَلَيْسَ كَذَلِك بل أَكْثَرهم لَيْسَ مَعَهم إِيمَان يُنجي وَلَا علم يرفع بل قد سدوا على نُفُوسهم طرق الْعلم وَالْإِيمَان اللَّذين جَاءَ بهما الرَّسُول ودعا إِلَيْهِمَا الْأمة وَكَانَ عَلَيْهِمَا هُوَ وَأَصْحَابه من بعده وتابعوهم على منهاجهم وآثارهم
فَكل طَائِفَة اعتقدت أَن الْعلم مَا مَعهَا وفرحت وتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لديهم فَرِحُونَ وَأكْثر مَا عِنْدهم كَلَام وآراء وخرص وَالْعلم وَرَاء الْكَلَام كَمَا قَالَ حمّاد بن زيد قلت لأيوب الْعلم الْيَوْم أَكثر أَو فِيمَا تقدّم فَقَالَ الْكَلَام الْيَوْم أَكثر وَالْعلم فِيمَا تقدم أَكثر
فَفرق هَذَا الراسخ بَين الْعلم وَالْكَلَام فالكتب كَثِيرَة جدا وَالْكَلَام والجدال والمقدرات الذهنية كَثِيرَة وَالْعلم بمعزل عَن أَكْثَرهَا وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول عَن الله قَالَ تَعَالَى
{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ من الْعلم} وَقَالَ
وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَك من لعلم وَقَالَ فِي الْقُرْآن أنزلهُ بِعِلْمِهِ أَي وَفِيه علمه
وَلما بعد الْعَهْد بِهَذَا الْعلم آل الْأَمر بِكَثِير من النَّاس إِلَى أَن اتَّخذُوا هواجس الأفكار وسوانح الخواطر والآراء علما وَوَضَعُوا فِيهَا الْكتب وأنفقوا فِيهَا الأنفاس فضيعوا فِيهَا الزَّمَان وملأوا بهَا الصُّحُف مدادا والقلوب سوادا حَتَّى صرح كثير مِنْهُم أَنه لَيْسَ فِي الْقُرْآن وَالسّنة علم وَأَن أدلتها لفظية لَا تفِيد يَقِينا وَلَا علما وصرخ الشَّيْطَان بِهَذِهِ الْكَلِمَة فيهم وأذَّن بهَا بَين أظهرهم حَتَّى أسمعها دانيهم لقاصيهم فانسلخت بهَا الْقُلُوب من الْعلم وَالْإِيمَان كانسلاخ الْحَيَّة من قشرها وَالثَّوْب عَن لابسه قَالَ الإِمَام الْعَلامَة شمس الدّين ابْن الْقيم وَلَقَد أَخْبرنِي بعض أَصْحَابنَا عَن بعض أَتبَاع أَتبَاع تلاميذ هَؤُلَاءِ أَنه رَآهُ يشْتَغل فِي بعض كتبهمْ وَلم يحفظ الْقُرْآن فَقَالَ لَهُ لَو حفظت الْقُرْآن أَولا كَانَ أولى فَقَالَ وَهل فِي الْقُرْآن علم قَالَ ابْن الْقيم وَقَالَ لي بعض أَئِمَّة هَؤُلَاءِ إِنَّمَا نسْمع الحَدِيث لأجل الْبركَة لَا لنستفيد
مِنْهُ الْعلم لِأَن غَيرنَا قد كفانا هَذِه المؤونة فعمدتنا على مَا فهموه قرروه وَلَا شكّ أَن من كَانَ هَذَا مبلغه من الْعلم فَهُوَ كَمَا قَالَ الْقَائِل
نزلُوا بِمَكَّة فِي قبائل هَاشم
…
وَنزلت بالبطحاء أبعد منزل
قَالَ وَقَالَ لي شَيخنَا مرّة فِي وصف هَؤُلَاءِ أَنهم طافوا على أَرْبَاب الْمذَاهب ففازوا بأخس المطالب وَيَكْفِيك دَلِيلا على أَن هَذَا الَّذِي عِنْدهم لَيْسَ من عِنْد الله مَا ترى فِيهِ من التنقائض وَالِاخْتِلَاف ومصادمة بعضه لبَعض قَالَ تَعَالَى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كثيرا} وَهَذَا يدل على أَن مَا كَانَ من عِنْده سُبْحَانَهُ لَا يخْتَلف وَأَن مَا اخْتلف وتناقض فَلَيْسَ من عِنْده وَكَيف تكون الآراء والخيالات وسوانح الأفكار دينا يدان بِهِ وَيحكم بِهِ على الله وَرَسُوله سُبْحَانَكَ هَذَا بهتان عَظِيم
وَقد كَانَ علم الصَّحَابَة الَّذِي يتذاكرون فِيهِ غير عُلُوم هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفين الخرّاصين كَمَا حكى الْحَاكِم فِي تَرْجَمَة أبي عبد الله البُخَارِيّ قَالَ كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله إِذا اجْتَمعُوا إِنَّمَا يتذاكرون كتاب رَبهم وَسنة نَبِيّهم لَيْسَ بَينهم رَأْي وَلَا قِيَاس وَلَقَد أحسن الْقَائِل
الْعلم قَالَ الله قَالَ رَسُوله
…
قَالَ الصَّحَابَة لَيْسَ بالتمويه
مَا الْعلم نصبك للْخلاف سفاهة
…
بَين الرَّسُول وَبَين رَأْي فَقِيه
كلا وَلَا جحد الصِّفَات ونفيها
…
حذرا من التَّمْثِيل والتشبيه فصل
وَأما الْإِيمَان فَأكْثر النَّاس أَو كلهم يَدعُونَهُ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بمؤمنين وَأكْثر الْمُؤمنِينَ إِنَّمَا عِنْدهم إِيمَان مُجمل وَأما الْإِيمَان الْمفصل بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول معرفَة وعلما وإقرارا ومحبة وَمَعْرِفَة بضده وكراهيته وبغضه فَهَذَا إِيمَان
خَواص الْأمة وخاصة الرَّسُول وَهُوَ إِيمَان الصدّيق وَحزبه وَكثير من النَّاس حظهم من الْإِيمَان الْإِقْرَار بِوُجُود الصَّانِع وَأَنه وَحده الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا وَهَذَا لم يكن يُنكره عبّاد الْأَصْنَام من قُرَيْش وَنَحْوهم وَآخَرُونَ الْإِيمَان عِنْدهم هُوَ التَّكَلُّم بِالشَّهَادَتَيْنِ سَوَاء كَانَ مَعَه عمل أَو لم يكن وَسَوَاء وَافق تَصْدِيق الْقلب أَو خَالفه وَآخَرُونَ عِنْدهم الْإِيمَان مُجَرّد تَصْدِيق الْقلب بِأَن الله سُبْحَانَهُ خَالق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله وَإِن لم يقر بِلِسَانِهِ وَلم يعْمل شَيْئا بل وَلَو سبّ الله وَرَسُوله وأتى بِكُل عَظِيمَة وَهُوَ يعْتَقد وحدانية الله ونبوة رَسُوله فَهُوَ مُؤمن وَآخَرُونَ عِنْدهم الْإِيمَان هُوَ جحد صِفَات الرب تَعَالَى من علوه على عَرْشه وتكلمه بكلماته وَكتبه وسَمعه وبصره ومشيئته وَقدرته وإرادته وحبه وبغضه وَغير ذَلِك مِمَّا وصف بِهِ نَفسه وَوَصفه بِهِ رَسُوله فالإيمان عِنْدهم إِنْكَار حقائق ذَلِك كُله وجحده وَالْوُقُوف مَعَ مَا تَقْتَضِيه آراء المتهوكين وأفكار المخرصين الَّذين يرد بَعضهم على بعض وينقض بَعضهم قَول بعض الَّذين هم كَمَا قَالَ عمر بن الْخطاب وَالْإِمَام أَحْمد مُخْتَلفُونَ فِي الْكتاب مخالفون للْكتاب متفقون على مُفَارقَة الْكتاب وَآخَرُونَ عِنْدهم الْإِيمَان عبَادَة الله بِحكم أذواقهم ومواجيدهم وَمَا تهواه نُفُوسهم من غير تَقْيِيد بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول وَآخَرُونَ الْإِيمَان عِنْدهم مَا وجدوا عَلَيْهِ آبَاءَهُم وأسلافهم بِحكم الِاتِّفَاق كَائِنا مَا كَانَ بل إِيمَانهم مَبْنِيّ على مقدمتين إِحْدَاهمَا أَن هَذَا قَول أسلافنا وَآبَائِنَا وَالثَّانيَِة أَن مَا قَالُوهُ فَهُوَ الْحق وَآخَرُونَ عِنْدهم الْإِيمَان مَكَارِم الْأَخْلَاق وَحسن الْمُعَامَلَة وطلاقة الْوَجْه وإحسان الظَّن بِكُل أحد وتخلية النَّاس وغفلاتهم وَآخَرُونَ عِنْدهم الْإِيمَان التجرد من الدُّنْيَا وعلائقها وتفريغ الْقلب مِنْهَا والزهد فِيهَا فَإِذا رَأَوْا رجلا هَكَذَا جَعَلُوهُ من سَادَات أهل الْإِيمَان وَإِن كَانَ منسلخا من الْإِيمَان علما وَعَملا وَأَعْلَى من هَؤُلَاءِ من جعل الْإِيمَان هُوَ مُجَرّد الْعلم وَإِن لم يقارنه عمل وكل هَؤُلَاءِ لم يعرفوا حَقِيقَة الْإِيمَان وَلَا قَامُوا بِهِ وَلَا قَامَ بهم وهم أَنْوَاع مِنْهُم من جعل الْإِيمَان مَا يضاد الْإِيمَان وَمِنْهُم