الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأما خوف أوليائه من مكره فَحق فَإِنَّهُم يخَافُونَ أَن يخذلهم بِذُنُوبِهِمْ وخطاياهم فيصيرون إِلَى الشَّقَاء فخوفهم من ذنوبهم ورجاؤهم لِرَحْمَتِهِ وَقَوله أفأمنوا مكر الله إِنَّمَا هُوَ فِي حق الْفجار وَالْكفَّار وَمعنى الْآيَة فَلَا يعْصى ويأمن مُقَابلَة الله لَهُ على مكر السَّيِّئَات بمكره بِهِ إِلَّا الْقَوْم الخاسرون وَالَّذِي يخافه العارفون بِاللَّه من مكره أَن يُؤَخر عَنْهُم عَذَاب الْأَفْعَال فَيحصل مِنْهُم نوع اغترار فيأنسوا بِالذنُوبِ فيجيئهم الْعَذَاب على غرّة وفترة وَأمر آخر وَهُوَ أَن يغفلوا عَنهُ وينسوا ذكره فيتخلى عَنْهُم إِذا تخلوا عَن ذكره وطاعته فيسرع إِلَيْهِم الْبلَاء والفتنة فَيكون مكره بهم تخليه عَنْهُم وَأمر آخر أَن يعلم من ذنوبهم وعيوبهم مَا لَا يعلمونه من نُفُوسهم فيأتيهم الْمَكْر من حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ وَأمر آخر أَن يمتحنهم ويبتليهم بِمَا لَا صَبر لَهُم عَلَيْهِ فيفتنون بِهِ وَذَلِكَ مكر
فصل السّنة شَجَرَة والشهور فروعها وَالْأَيَّام أَغْصَانهَا والساعات أوراقها
والأنفاس ثَمَرهَا فَمن كَانَت أنفاسه فِي طَاعَة فثمرة شجرته طيبَة وَمن كَانَت فِي مَعْصِيّة فثمرته حنظل وَإِنَّمَا يكون الجداد يَوْم الْمعَاد فَعِنْدَ الجداد يتَبَيَّن حُلْو الثِّمَار من مرّها وَالْإِخْلَاص والتوحيد شَجَرَة فِي الْقلب فروعها الْأَعْمَال وَثَمَرهَا طيب الْحَيَاة فِي الدُّنْيَا وَالنَّعِيم الْمُقِيم فِي الْآخِرَة وكما أَن ثمار الْجنَّة لَا مَقْطُوعَة وَلَا مَمْنُوعَة فثمرة التَّوْحِيد وَالْإِخْلَاص فِي الدُّنْيَا كَذَلِك والشرك وَالْكذب والرياء شَجَرَة فِي الْقلب ثَمَرهَا فِي لدُنْيَا وَالْخَوْف والهم وَالْغَم وضيق الصَّدْر وظلمة الْقلب وَثَمَرهَا فِي الْآخِرَة الزقّوم وَالْعَذَاب الْمُقِيم وَقد ذكر الله هَاتين الشجرتين فِي سُورَة إِبْرَاهِيم
فصل إِذا بلغ العَبْد أعْطى عَهده الَّذِي عَهده إِلَيْهِ خالقه ومالكه فَإِذا أَخذ
عَهده بِقُوَّة وَقبُول
وعزم على تَنْفِيذ مَا فِيهِ صلح للمراتب والمناصب الَّتِي يصلح لَهَا الموفون بعهودهم فَإِذا هز نَفسه عِنْد أَخذ الْعَهْد وانتحاها وَقَالَ قد أُهِّلْت لعهد رَبِّي فَمن أولى بقبوله وفهمه وتنفيذه مني فحرص أَولا على فهم عَهده وتدبره وتعرفه وَصَايَا سَيّده لَهُ ثمَّ وطّن نَفسه على امْتِثَال مَا فِي عَهده وَالْعَمَل بِهِ وتنفيذه حَسْبَمَا تضمنه عَهده فأبصر بِقَلْبِه حَقِيقَة الْعَهْد وَمَا تضمنه فاستحدث همة أُخْرَى وعزيمة غير الْعَزِيمَة الَّتِي كَانَ فِيهَا وَقت الصِّبَا قبل وُصُول الْعَهْد فاستقال من ظلمَة غرَّة الصِّبَا والانقياد للْعَادَة والمنشأ وصبر على شرف الهمة وهتك ستر الظلمَة إِلَى نور الْيَقِين فَأدْرك بِقدر صبره وَصدق اجْتِهَاده مَا وهبه الله لَهُ من فَضله فَأول مَرَاتِب سعادته أَن تكون لَهُ أذن وَاعِيَة وقلب يعقل مَا تعيه الْأذن فَإِذا سمع وعقل واستبانت لَهُ الجادة وَرَأى عَلَيْهَا تِلْكَ الْأَعْلَام وَرَأى أَكثر النَّاس منحرفين عَنْهَا يَمِينا وَشمَالًا فلزمها وَلم ينحرف مَعَ المنحرفين الَّذين كَانَ سَبَب انحرافهم عدم قبُول الْعَهْد أَو قبلوه بكره وَلم يأخذوه بِقُوَّة وَلَا عَزِيمَة وَلَا حدثوا أنفسهم بفهمه وتدبره وَالْعَمَل بِمَا فِيهِ وتنفيذ وَصَايَاهُ بل عرض غيهم الْعَهْد وَمَعَهُمْ ضراوة الصِّبَا وَدين الْعَادة وَمَا ألفوا عَلَيْهِ الْآبَاء والأمهات فتلقوا الْعَهْد تلقي من هُوَ مكتف بِمَا وجد عَلَيْهِ آباءه وسلفه وعادتهم لَا تَكْفِي من يجمع همه وَقَلبه على فهم الْعَهْد وَالْعَمَل بِهِ حَتَّى كَأَن ذَلِك الْعَهْد أَتَاهُ وَحده وَقيل لَهُ تَأمل مَا فِيهِ ثمَّ اعْمَلْ بِمُوجبِه فَإِذا لم يتلق عَهده هَذَا التلقي أخلد إِلَى سير الْقَرَابَة وَمَا استمرت عَلَيْهِ عَادَة أَهله وَأَصْحَابه وجيرانه وَأهل بَلَده فَإِن علت همته أخلد إِلَى مَا عَلَيْهِ سلفه وَمن تقدمه من غير الْتِفَات إِلَى تدبر الْعَهْد وفهمه فَرضِي لنَفسِهِ أَن يكون دينه دين الْعَادة فَإِذا شامه الشَّيْطَان وَرَأى هَذَا مبلغ همته وعزيمته رَمَاه بالعصبية وَالْحمية للآباء وسلفه وزيّن لَهُ أَن هَذَا هُوَ الْحق وَمَا خَالفه بَاطِل وَمثل لَهُ الْهدى فِي صُورَة الضلال والضلال فِي صُورَة الْهدى بِتِلْكَ العصبية وَالْحمية الَّتِي أسست على غير علم فرضاه أَن يكون مَعَ عشيرته وَقَومه لَهُ مَا لَهُم وَعَلِيهِ مَا عَلَيْهِم فخذل عَن الْهدى وولاه الله مَا تولّى فَلَو جَاءَهُ كل هدى يُخَالف قومه وعشيرته لم يره
إِلَّا ضَلَالَة وَإِذا كَانَت همته أَعلَى من ذَلِك وَنَفسه أشرف وَقدره أَعلَى أقبل على حفظ عَهده وفهمه وتدبره وَعلم أَن لصَاحب الْعَهْد شَأْنًا لَيْسَ كشأن غَيره فَأخذ نَفسه بمعرفته من نفس الْعَهْد فَوَجَدَهُ قد تعرف إِلَيْهِ وعرفه نَفسه وَصِفَاته وأسماءه وأفعاله وَأَحْكَامه فَعرف من ذَلِك الْعَهْد قيوما بِنَفسِهِ مُقيما لغيره غَنِيا عَن كل مَا سواهُ وكل مَا سواهُ فَقير إِلَيْهِ مستو على عَرْشه فَوق جَمِيع خلقه يرى وَيسمع ويرضى ويغضب وَيُحب وَيبغض وَيُدبر أَمر مَمْلَكَته وَهُوَ فَوق عَرْشه مُتَكَلم آمُر ناه يُرْسل رسله إِلَى أقطار مَمْلَكَته بِكَلَامِهِ الَّذِي يسمعهُ من يَشَاء من خلقه وَأَنه قَائِم بِالْقِسْطِ مُجاز بِالْإِحْسَانِ والإساءة وَأَنه حَلِيم غَفُور شكور جواد محسن مَوْصُوف بِكُل كَمَال منزه عَن كل عيب وَنقص وَأَنه لَا مثل لَهُ وَيشْهد حكمته فِي تَدْبِير مَمْلَكَته وَكَيف يقدر مقاديره بِمَشِيئَة غير مضادة لعدله وحكمته وتظاهر عِنْده الْعقل وَالشَّرْع والفطرة فَصدق كل مِنْهُمَا صَاحِبيهِ وَفهم عَن الله سُبْحَانَهُ مَا وصف بِهِ نَفسه فِي كِتَابه من حقائق أَسْمَائِهِ الَّتِي بهَا نزل الْكتاب وَبهَا نطق وَلها أثبت وحقق وَبهَا تعرف إِلَّا عباده حَتَّى أقرّت بِهِ الْعُقُول وَشهِدت بِهِ الْفطر فَإِذا عرف بِقَلْبِه وتيقن صِفَات صَاحب الْعَهْد وأشرقت أنوارها على قلبه فَصَارَت لَهُ كالمعاينة فَرَأى حِينَئِذٍ تعلقهَا بالخلق وَالْأَمر وارتباطهما بهَا وسريان آثارهما فِي الْعَالم الْحسي والعالم الروحي وَرَأى تصرفها فِي الْخَلَائق كَيفَ عمّت وخصّت وقرّبت وأبعدت وأعطت ومنعت فشاهد بِقَلْبِه مواقع عدله سُبْحَانَهُ وقسطه وفضله وَرَحمته وَاجْتمعَ لَهُ الْإِيمَان بِلُزُوم حجَّته مَعَ نُفُوذ أقضيته وَكَمَال قدرته مَعَ كَمَال عدله وحكمته وَنِهَايَة علوّه على جَمِيع خلقه مَعَ إحاطته ومعيّته وعظمته وجلاله وكبريائه وبطشه وانتقامه مَعَ رَحمته وبره ولطفه وجوده وعفوه وحلمه وَرَأى لُزُوم الْحجَّة مَعَ قهر الْمَقَادِير الَّتِي لَا خُرُوج لمخلوق عَنْهَا وَكَيف اصطحاب الصِّفَات وتوافقها وَشَهَادَة بَعْضهَا لبَعض وانعطاف الْحِكْمَة الَّتِي هِيَ نِهَايَة وَغَايَة على الْمَقَادِير الَّتِي هِيَ أول وبداية وَرُجُوع فروعها إِلَى أُصُولهَا ومبادئها إِلَى
غاياتها حَتَّى كَأَنَّهُ مشَاهد مبادىء الْحِكْمَة وتأسيس القضايا على وفْق الْحِكْمَة وَالْعدْل والمصلحة وَالرَّحْمَة وَالْإِحْسَان لَا تخرج قَضِيَّة عَن ذَلِك إِلَى انْقِضَاء الأكوان وانفصال الْأَحْكَام يَوْم الْفَصْل بَين الْعباد وَظُهُور عدله وحكمته وَصدق رسله وَمَا أخْبرت بِهِ عَنهُ لجَمِيع الخليقة انسها وجنّها مؤمنها وكافرها وَحِينَئِذٍ يتَبَيَّن من صِفَات جَلَاله ونعوت كَمَاله لِلْخلقِ مَا لم يَكُونُوا يعرفونه قبل ذَلِك حَتَّى إِن أعرف خلقه بِهِ فِي الدُّنْيَا يثني عَلَيْهِ يَوْمئِذٍ من صِفَات كَمَاله ونعوت جَلَاله مَا لم يكن يُحسنهُ فِي الدُّنْيَا وكما يظْهر ذَلِك لخلقه تظهر لَهُم الْأَسْبَاب الَّتِي بهَا زاغ الزائغون وضلّ الضالّون وَانْقطع المنقطعون فَيكون الْفرق بَين الْعلم يَوْمئِذٍ بحقائق الْأَسْمَاء وَالصِّفَات الْعلم بهَا فِي الدُّنْيَا كالفرق بَين الْعلم بِالْجنَّةِ وَالنَّار ومشاهدتهما وَأعظم من ذَلِك وَكَذَلِكَ يفهم من العَبْد كَيفَ اقْتَضَت أسماؤه وَصِفَاته لوُجُود النُّبُوَّة والشرائع وَأَن لَا يتْرك خلقه سدى وَكَيف اقْتَضَت مَا تضمّنته من الْأَوَامِر والنواهي وَكَيف اقْتَضَت وُقُوع الثَّوَاب وَالْعِقَاب والمعاد وَأَن ذَلِك من مُوجبَات أَسْمَائِهِ وَصِفَاته بِحَيْثُ ينزّه عَمَّا زعم أعداؤه من إِنْكَار ذَلِك وَيرى شُمُول الْقُدْرَة وإحاطتها بِجَمِيعِ الكائنات حَتَّى لَا يشذّ عَنْهَا مِثْقَال ذرة وَيرى أَنه لَو كَانَ مَعَه إِلَه آخر لفسد هَذَا الْعَالم فَكَانَت تفْسد السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمن فِيهِنَّ وَأَنه سُبْحَانَهُ لَو جَازَ عَلَيْهِ النّوم أَو الْمَوْت لتدكدك هَذَا الْعَالم بأسره وَلم يثبت طرفَة عين وَيرى ذَلِك الْإِسْلَام وَالْإِيمَان اللَّذين تعبّد الله بهما جَمِيع عباده كَيفَ انبعاثهما من الصِّفَات المقدسة وَكَيف اقتضيا الثَّوَاب وَالْعِقَاب عَاجلا وآجلا وَيرى مَعَ ذَلِك أَنه لَا يَسْتَقِيم قبُول هَذَا الْعَهْد والتزامه لمن جحد صِفَاته وَأنكر علوه على خلقه وتكلمه بكتبه وعهوده كَمَا لَا يَسْتَقِيم قبُوله لمن أنكر حَقِيقَة سَمعه وبصره وحياته وإرادته وقوته وَأَن هَؤُلَاءِ هم الَّذين ردوا عَهده وأبوا قبُوله وَأَن من قبلهم مِنْهُم لم يقبله بِجَمِيعِ مَا فِيهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق