الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ يحيى بن معَاذ عجبت من ثَلَاث رجل يرائي بِعَمَلِهِ مخلوقا مثله وَيتْرك أَن يعمله الله وَرجل يبخل بِمَالِه وربه يستقرضه مِنْهُ فَلَا يقْرضهُ مِنْهُ شَيْئا وَرجل يرغب فِي صُحْبَة المخلوقين ومودتهم وَالله يَدعُوهُ إِلَى صحبته ومودته
فَائِدَة جليلة قَالَ سهل بن عبد الله ترك الْأَمر عِنْد الله أعظم من
ارْتِكَاب النَّهْي لِأَن آدم نهي عَن أكل الشَّجَرَة فَأكل مِنْهَا فَتَابَ عَلَيْهِ وإبليس أَمر أَن يسْجد لآدَم فَلم يسْجد فَلم يتب عَلَيْهِ قلت هَذِه مَسْأَلَة عَظِيمَة لَهَا شَأْن وَهِي أَن ترك الْأَوَامِر أعظم عِنْد الله من ارْتِكَاب المناهي وَذَلِكَ من وُجُوه عديدة أَحدهَا مَا ذكره سهل من شَأْن آدم وعدو الله إِبْلِيس الثَّانِي أَن ذَنْب ارْتِكَاب النَّهْي مصدره فِي الْغَالِب الشَّهْوَة وَالْحَاجة وذنب ترك الْأَمر مصدره فِي الْغَالِب الْكبر والعزة وَلَا يدْخل الْجنَّة من فِي قلبه مِثْقَال ذرة من كبر ويدخلها من مَاتَ على التَّوْحِيد وَإِن زنى وسرق الثَّالِث أَن فعل الْمَأْمُور أحب إِلَى الله من ترك الْمنْهِي كَمَا دلّ على ذَلِك النُّصُوص كَقَوْلِه أحب الْأَعْمَال إِلَى الله الصَّلَاة على وَقتهَا وَقَوله أَلا أنبئكم بِخَير أَعمالكُم وأزكاها عِنْد مليككم وأرفعها فِي درجاتكم وَخير لكم من أَن تلقوا عَدوكُمْ فتضربوا أَعْنَاقهم ويضربوا أَعْنَاقكُم قَالُوا بلَى يَا رَسُول الله قَالَ ذكر الله وَقَوله اعلموا أَن خير أَعمالكُم الصَّلَاة وَغير ذَلِك من النُّصُوص وَترك المناهي عمل فَإِنَّهُ كف النَّفس عَن الْفِعْل وَلِهَذَا علّق سُبْحَانَهُ الْمحبَّة بِفعل الْأَوَامِر كَقَوْلِه {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صفا} {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وَقَوله {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} وَأما فِي جَانب المناهي فَأكْثر مَا جَاءَ النَّفْي للمحبة وَقَوله {وَاللَّهُ لَا يحب الْفساد} وَقَوله {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فخور} وَقَوله {وَلا تَعْتَدُوا إِن الله لَا يحب الْمُعْتَدِينَ} وَقَوله {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا من ظلم} وَقَوله {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ}
{كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} ونظائره وَأخْبر فِي مَوضِع آخر أَنه يكرهها ويسخطها كَقَوْلِه {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوها} وَقَوله {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ الله}
إِذا عرف هَذَا فَفعل مَا يُحِبهُ سُبْحَانَهُ مَقْصُود بِالذَّاتِ وَلِهَذَا يقدر مَا يكرههُ ويسخطه لإفضائه إِلَى مَا يحب كَمَا قدر الْمعاصِي وَالْكفْر والفسوق لما ترَتّب على تقديرها مِمَّا يُحِبهُ من لوازمها من الْجِهَاد واتخاذ الشُّهَدَاء وَحُصُول التَّوْبَة من العَبْد والتضرّع إِلَيْهِ والاستكانة وَإِظْهَار عدله وعفوه وانتقامه وعزه وَحُصُول المولاة والمعاداة لأَجله وَغير ذَلِك من الْآثَار الَّتِي وجودهَا بِسَبَب تَقْدِيره مَا يكره أحب إِلَيْهِ من ارتفاعها بارتفاع أَسبَابهَا وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يقدر مَا يحب لإفضائه إِلَى حُصُول مَا يكرههُ ويسخطه كَمَا يقدر مَا يكرههُ لإفضائه إِلَى مَا يُحِبهُ فَعلم أَن فعل مَا يُحِبهُ أحب إِلَيْهِ مِمَّا يكرههُ يُوضحهُ الْوَجْه الرَّابِع أَن فعل الْمَأْمُور مَقْصُود لذاته وَترك الْمنْهِي مَقْصُود لتكميل فعل الْمَأْمُور فَهُوَ مَنْهِيّ عَنهُ لأجل كَونه يخل بِفعل الْمَأْمُور أَو يُضعفهُ وينقصه كَمَا نبه سُبْحَانَهُ على ذَلِك فِي النَّهْي عَن الْخمر وَالْميسر بكونهما يصدان عَن ذكر الله وَعَن الصَّلَاة فالمنهيات قواطع وموانع صادة عَن فعل المأمورات أَو عَن كمالها فالنهي عَنْهَا من بَاب الْمَقْصُود لغيره وَالْأَمر بالواجبات من بَاب الْمَقْصُود لنَفسِهِ يُوضحهُ الْوَجْه الْخَامِس أَن فعل المأمورات من بَاب حفظ قُوَّة الْإِيمَان وبقائها وَترك المنهيات من بَاب الحمية عَمَّا يشوش قُوَّة الْإِيمَان ويخرجها عَن الِاعْتِدَال وَحفظ الْقُوَّة مقدم على الحمية فَإِن الْقُوَّة كلما قويت دفعت الْموَاد الْفَاسِدَة وَإِذا ضعفت غلبت الْموَاد الْفَاسِدَة فالحمية مُرَاد لغَيْرهَا وَهُوَ حفظ الْقُوَّة وزيادتها وبقاؤها وَلِهَذَا كلما قويت قُوَّة الْإِيمَان دفعت الْموَاد الرَّديئَة ومنعت من غلبتها وَكَثْرَتهَا بِحَسب الْقُوَّة وضعفها وَإِذا ضعفت غلبت الْموَاد الْفَاسِدَة فَتَأمل هَذَا الْوَجْه الْوَجْه السَّادِس أَن فعل المأمورات حَيَاة الْقلب وغذاؤه وزينته وسروره وقرة عينه ولذته ونعيمه وَترك المنهيات بِدُونِ ذَلِك لَا يحصل لَهُ شَيْئا من ذَلِك فَإِنَّهُ لَو ترك جَمِيع المنهيات وَلم
يَأْتِ بِالْإِيمَان والأعمال الْمَأْمُور بهَا لم يَنْفَعهُ ذَلِك التّرْك شَيْئا وَكَانَ خَالِدا فِي النَّار وَهَذَا يتَبَيَّن بِالْوَجْهِ السَّابِع أَن من فعل المأمورات والمنهيات فَهُوَ إِمَّا نَاجٍ مُطلقًا إِن غلبت حَسَنَاته سيئاته وَإِمَّا نَاجٍ بعد أَن يُؤْخَذ مِنْهُ الْحق ويعاقب على سيئاته فمآله إِلَى النجَاة وَذَلِكَ بِفعل الْمَأْمُور وَمن ترك المأمورات والمنهيات فَهُوَ هَالك غير نَاجٍ وَلَا ينجو إِلَّا بِفعل الْمَأْمُور وَهُوَ التَّوْحِيد
فَإِن قيل فَهُوَ إِنَّمَا هلك بارتكاب الْمَحْظُور وَهُوَ الشّرك قيل يَكْفِي فِي الْهَلَاك ترك نفس التَّوْحِيد الْمَأْمُور بِهِ وَإِن لم يَأْتِ بضد وجودي من الشّرك بل مَتى خلا قلبه من التَّوْحِيد رَأْسا فَلم يوحد الله فَهُوَ هَالك وان لم يعبد مَعَه غَيره فَإِذا انضاف إِلَيْهِ عبَادَة غَيره عذب على ترك التَّوْحِيد الْمَأْمُور بِهِ وَفعل الشّرك الْمنْهِي عَنهُ يُوضحهُ الْوَجْه الثَّامِن أَن الْمَدْعُو إِلَى الْإِيمَان إِذا قَالَ لَا أصدق وَلَا أكذب وَلَا أحب وَلَا أبْغض وَلَا أعبده وَلَا أعبد غَيره كَانَ كَافِرًا بِمُجَرَّد التّرْك والإعراض بِخِلَاف مَا إِذا قَالَ أَنا أصدق الرَّسُول وأحبه وَأُؤْمِنُ بِهِ وأفعل مَا أَمرنِي وَلَكِن شهوتي وإرادتي وطبعي حاكمة عَليّ لَا تدعني أترك مَا نهاني عَنهُ وَأَنا أعلم أَنه قد نهاني وَكره لي فعل الْمنْهِي وَلَكِن لَا صَبر لي عَنهُ فَهَذَا لَا يعد كَافِرًا بذلك وَلَا حكمه حكم الأول فَإِن هَذَا مُطِيع من وَجه وتارك الْمَأْمُور جملَة لَا يعد مُطيعًا بِوَجْه يُوضحهُ الْوَجْه التَّاسِع أَن الطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة إِنَّمَا تتَعَلَّق بِالْأَمر أصلا وبالنهي تبعا فالمطيع ممتثل الْمَأْمُور والعاصي تَارِك الْمَأْمُور قَالَ تَعَالَى {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمرهم} وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتهمْ ضلوا أَن لَا تتبعني أفعصيت أمرى وَقَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ عِنْد مَوته أَنا الَّذِي أَمرتنِي فعصيت وَلَكِن لَا إِلَه إِلَّا أَنْت وَقَالَ الشَّاعِر أَمرتك أمرا جَازِمًا فعصيتني
وَالْمَقْصُود من إرْسَال الرُّسُل طَاعَة الْمُرْسل وَلَا تحصل إِلَّا بامتثال أوامره وَاجْتنَاب المناهي من تَمام امْتِثَال الْأَوَامِر ولوازمه وَلِهَذَا لَو اجْتنب المناهي وَلم يفعل مَا أَمر بِهِ لم يكن مُطيعًا وَكَانَ عَاصِيا بِخِلَاف مَا لَو أَتَى بالمأمورات وارتكب
المناهي فَإِنَّهُ وَإِن عد عَاصِيا مذنبا فَإِنَّهُ مُطِيع بامتثال الْأَمر عَاص بارتكاب النَّهْي بِخِلَاف تَارِك الْأَمر فَإِنَّهُ لَا يعد مُطيعًا باجتناب المنهيات خَاصَّة الْوَجْه الْعَاشِر أَن امْتِثَال الْأَمر عبودية وتقرب وخدمة وَتلك الْعِبَادَة الَّتِي خلق لأَجلهَا الْخلق كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا ليعبدون} فَأخْبر سُبْحَانَهُ أَنه إِنَّمَا خلقهمْ لِلْعِبَادَةِ وَكَذَلِكَ إِنَّمَا أرسل إِلَيْهِم رسله وَأنزل عَلَيْهِم كتبه ليعبدوه فالعبادة هِيَ الْغَايَة الَّتِي خلقُوا لَهَا وَلم يخلقوا لمُجَرّد التّرْك فَإِنَّهُ أَمر عدمي لَا كَمَال فِيهِ من حَيْثُ هُوَ عدم بِخِلَاف امْتِثَال الْمَأْمُور فَإِنَّهُ أَمر وجودي مَطْلُوب الْحُصُول وَهَذَا يتَبَيَّن بِالْوَجْهِ الْحَادِي عشر وَهُوَ أَن الْمَطْلُوب بِالنَّهْي عدم الْفِعْل وَهُوَ أَمر عدمي وَالْمَطْلُوب بِالْأَمر إِيجَاد فعل وَهُوَ أَمر وجودي فمتعلق الْأَمر الايجاد ومتعلق النَّهْي الإعدام أَو الْعَدَم وَهُوَ أَمر لَا كَمَال فِيهِ إِلَّا إِذا تضمن أمرا وجوديا فَإِن الْعَدَم من حَيْثُ هُوَ عدم لَا كَمَال فِيهِ وَلَا مصلحَة إِلَّا إِذا تضمن أمرا وجوديا مُطلقًا وَذَلِكَ الْأَمر الوجودي مَطْلُوب مَأْمُور بِهِ فَعَادَت حَقِيقَة النَّهْي إِلَى الْأَمر وَأَن الْمَطْلُوب بِهِ مَا فِي ضمن النَّهْي من الْأَمر الوجودي الْمَطْلُوب بِهِ وَهَذَا يَتَّضِح بِالْوَجْهِ الثَّانِي عشر وَهُوَ أَن النَّاس اخْتلفُوا فِي الْمَطْلُوب بِالنَّهْي على أَقْوَال أَحدهَا أَن الْمَطْلُوب بِهِ كف النَّفس عَن الْفِعْل وحبسها عَنهُ وَهُوَ أَمر وجودي قَالُوا لِأَن التَّكْلِيف إِنَّمَا يتَعَلَّق بالمقدور والعدم الْمَحْض غير مَقْدُور وَهَذَا قَول الْجُمْهُور وَقَالَ أَبُو هَاشم وَغَيره بل الْمَطْلُوب عدم الْفِعْل وَلِهَذَا يحصل الْمَقْصُود من بَقَائِهِ على الْعَدَم وَإِن لم يخْطر بِبَالِهِ الْفِعْل فضلا أَن يقْصد الْكَفّ عَنهُ وَلَو كَانَ الْمَطْلُوب الْكَفّ لَكَانَ عَاصِيا إِذا لم يَأْتِ بِهِ وَلِأَن النَّاس يمدحون بِعَدَمِ فعل الْقَبِيح من لم يخْطر بِبَالِهِ فعله والكف عَنهُ وَهَذَا أحد قولي القَاضِي أبي بكر ولأجله الْتزم أَن عدم الْفِعْل مَقْدُور للْعَبد وداخل تَحت الْكسْب قَالَ وَالْمَقْصُود بِالنَّهْي الْإِبْقَاء على الْعَدَم الْأَصْلِيّ وَهُوَ مَقْدُور وَقَالَت طَائِفَة الْمَطْلُوب بِالنَّهْي فعل الضِّدّ فَإِنَّهُ هُوَ الْمَقْدُور وَهُوَ الْمَقْصُود للناهي فَإِنَّهُ إِنَّمَا نَهَاهُ عَن الْفَاحِشَة طلبا
للعفة وَهِي الْمَأْمُور بهَا وَنَهَاهُ عَن الظُّلم طلبا للعدل الْمَأْمُور بِهِ وَعَن الْكَذِب طلبا للصدق الْمَأْمُور بِهِ وَهَكَذَا جَمِيع المنهيات فَعِنْدَ هَؤُلَاءِ أَن حَقِيقَة النَّهْي الطّلب لضد لمنهى عَنهُ فَعَاد الْأَمر إِلَى أَن الطّلب إِنَّمَا تعلق بِفعل الْمَأْمُور
وَالتَّحْقِيق أَن الْمَطْلُوب نَوْعَانِ مَطْلُوب لنَفسِهِ وَهُوَ الْمَأْمُور بِهِ ومطلوب إعدامه لمضادته الْمَأْمُور بِهِ وَهُوَ الْمنْهِي عَنهُ لما فِيهِ من الْمفْسدَة المضادة للْمَأْمُور بِهِ فَإِذا لم يخْطر ببال الْمُكَلف وَلَا دَعَتْهُ نَفسه إِلَيْهِ بل اسْتمرّ على الْعَدَم الْأَصْلِيّ لم يثب على تَركه وَإِن خطر بِبَالِهِ وكف نَفسه عَنهُ لله وَتَركه اخْتِيَار أثيب عل كف نَفسه وامتناعه فَإِنَّهُ فعل وجودي وَالثَّوَاب إِنَّمَا يَقع على الْأَمر الوجودي دون الْعَدَم الْمَحْض وَإِن تَركه مَعَ عزمه الْجَازِم على فعله لَكِن تَركه عَجزا فَهَذَا وَإِن لم يُعَاقب عُقُوبَة الْفَاعِل لَكِن يُعَاقب على عزمه وإرادته الجازمة الَّتِي إِنَّمَا تخلف مرادها عَجزا وَقد دلّت على ذَلِك النُّصُوص الْكَثِيرَة فَلَا يلْتَفت إِلَى مَا خالفها كَقَوْلِه تَعَالَى {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ من يَشَاء} وَقَوله فِي كاتم الشَّهَادَة {فَإِنَّهُ آثِمٌ قلبه} وَقَوله {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} وَقَوله {يَوْمَ تُبْلَى السرائر} وَقَوله إِذا تواجه المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول فِي النَّار قَالُوا هَذَا الْقَاتِل فَمَا بَال الْمَقْتُول قَالَ إِنَّه أَرَادَ قتل صَاحبه وَقَوله فِي الحَدِيث الآخر وَرجل قَالَ لَو أَن لي مَالا لعملت بِعَمَل فلَان فَهُوَ بنيته وهما فِي الْوزر سَوَاء وَقَول من قَالَ أَن الْمَطْلُوب بِالنَّهْي فعل الضِّدّ لَيْسَ كَذَلِك فَإِن الْمَقْصُود عدم الْفِعْل والتلبس بالضدين فَإِن مَالا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ فَهُوَ غير مَقْصُود بِالْقَصْدِ الأول وَإِن كَانَ الْمَقْصُود بِالْقَصْدِ الأول الْمَأْمُور الَّذِي نهى عَمَّا يمنعهُ ويضعفه فالمنهي عَنهُ مَطْلُوب إعدامه طلب الْوَسَائِل والذرائع والمأمور بِهِ مَطْلُوب إيجاده طلب الْمَقَاصِد والغايات وَقَول أبي هَاشم إِن تَارِك القبائح يحمد وَإِن لم يخْطر بِبَالِهِ كف النَّفس فَإِن أَرَادَ
بِحَمْدِهِ أَنه لَا يذم فَصَحِيح وَإِن أَرَادَ أَنه يثني عَلَيْهِ بذلك وَيُحب عَلَيْهِ وَيسْتَحق الثَّوَاب فَغير صَحِيح فَإِن النَّاس لَا يحْمَدُونَ المحبوب على ترك الزِّنَا وَلَا الْأَخْرَس على عدم الْغَيْبَة والسب وَإِنَّمَا يحْمَدُونَ الْقَادِر الْمُمْتَنع عَن قدرَة وداع إِلَى الْفِعْل وَقَول القَاضِي الْإِبْقَاء على الْعَدَم الْأَصْلِيّ مَقْدُور فَإِن أَرَادَ بِهِ كف النَّفس ومنعها فَصَحِيح وَإِن أَرَادَ مجرّد الْعَدَم فَلَيْسَ كَذَلِك وَهَذَا يتَبَيَّن بِالْوَجْهِ الثَّالِث عشر وَهُوَ أَن الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه من طَرِيق اللُّزُوم الْعقلِيّ لَا الْقَصْد الطلبي فَإِن الْأَمر إِنَّمَا مَقْصُود فعل الْمَأْمُور فَإِذا كَانَ من لوازمه ترك الضِّدّ صَار تَركه مَقْصُودا لغيره وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب فِي مَسْأَلَة الْأَمر بالشَّيْء هَل هُوَ نهي عَن ضِدّه أم لَا فَهُوَ نهي عَنهُ من جِهَة اللُّزُوم لَا من جِهَة الْقَصْد والطلب وَكَذَلِكَ النَّهْي عَن الشَّيْء مَقْصُود الناهي بِالْقَصْدِ الأول الِانْتِهَاء عَن الْمنْهِي عَنهُ وَكَونه مشتغلا بضده جَاءَ من جِهَة اللُّزُوم الْعقلِيّ لَكِن إِنَّمَا نهى عَمَّا يضاد مَا أَمر بِهِ كَمَا تقدم فَكَأَن الْمَأْمُور بِهِ هُوَ الْمَقْصُود بِالْقَصْدِ الأول فِي الْمَوْضِعَيْنِ
وحرف الْمَسْأَلَة أَن طلب الشَّيْء طلب لَهُ بِالذَّاتِ وَلما هُوَ من ضَرُورَته باللزوم وَالنَّهْي عَن الشَّيْء طلب لتَركه بِالذَّاتِ ولفعل مَا هُوَ من ضَرُورَة التّرْك باللزوم وَالْمَطْلُوب فِي الْمَوْضِعَيْنِ فعل وكف وَكِلَاهُمَا أَمر وجودي الْوَجْه الرَّابِع عشر أَن الْأَمر وَالنَّهْي فِي بَاب الطّلب نَظِير النَّفْي وَالْإِثْبَات فِي بَاب الْخَبَر والمدح وَالثنَاء لَا يحصلان بِالنَّفْيِ الْمَحْض إِن لم يتَضَمَّن ثبوتا فَإِن النَّفْي كاسمه عدم لَا كَمَال فِيهِ وَلَا مدح فَإِذا تضمن ثبوتا صَحَّ الْمَدْح بِهِ كنفي النسْيَان المستلزم لكَمَال الْعلم وَبَيَانه وَنفي اللغوب والإعياء والتعب المستلزم لكَمَال الْقُوَّة وَالْقُدْرَة وَنفي السّنة وَالنَّوْم المستلزم لكَمَال الْحَيَاة والقومية وَنفي الْوَلَد والصاحبة المستلزم لكَمَال الْغنى وَالْملك والربوبية وَنفي الشَّرِيك وَالْوَلِيّ وَالشَّفِيع بِدُونِ الْإِذْن المستلزم لكَمَال التَّوْحِيد والتفرّد بالكمال والإلهية وَالْملك وَنفي الظُّلم المتضمن لكَمَال الْعدْل وَنفي إِدْرَاك الْأَبْصَار لَهُ المتضمن لعظمته وَأَنه أجلّ من أَن يدْرك وَإِن رَأَتْهُ
الْأَبْصَار وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي كَونه لَا يرى مدح بِوَجْه من الْوُجُوه فَإِن الْعَدَم الْمَحْض كَذَلِك
وَإِذا عرف هَذَا فالمنهي عَنهُ إِن لم يتَضَمَّن أمرا وجوديا ثبوتيا لم يمدح بِتَرْكِهِ وَلم يسْتَحق الثَّوَاب وَالثنَاء بِمُجَرَّد التّرْك الايستحق الْمَدْح وَالثنَاء بِمُجَرَّد الْوَصْف العدمي الْوَجْه الْخَامِس عشر أَن الله سُبْحَانَهُ جعل جَزَاء المأمورات عشرَة أَمْثَال نعلها وَجَزَاء المنهيات مثل وَاحِد وَهَذَا يدل على أَن فعل مَا أَمر بِهِ أحب إِلَيْهِ من ترك مَا نهى عَنهُ وَلَو كَانَ الْأَمر بِالْعَكْسِ لكَانَتْ السَّيئَة بِعشْرَة والحسنة بِوَاحِدَة أَو تَسَاويا الْوَجْه السَّادِس عشر أَن الْمنْهِي عَنهُ الْمَقْصُود إعدامه وَأَن لَا يدْخل فِي الْوُجُود سَوَاء نوى ذَلِك أَو لم يُنَوّه وَسَوَاء خطر بِبَالِهِ أَو لم يخْطر فالمقصود أَن لَا يكون وَأما الْمَأْمُور بِهِ فالمقصود كَونه ايجاد والتقرب بِهِ نِيَّة وفعلا
وسر الْمَسْأَلَة أَن وجود مَا طلب إيجاده أحب إِلَيْهِ من عدم مَا طلب إعدامه وَعدم مَا أحبه أكره إِلَيْهِ من وجود مَا يبغضه فمحبته لفعل مَا أَمر بِهِ أعظم من كَرَاهَته لفعل مَا نهى عَنهُ يُوضحهُ الْوَجْه السَّابِع عشر أَن فعل مَا يُحِبهُ والإعانة عَلَيْهِ وجزاؤه وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من الْمَدْح وَالثنَاء من رَحمته وَفعل مايكره وجزاؤهما يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من الذَّم والألم وَالْعِقَاب من غَضَبه وَرَحمته سَابِقَة على غَضَبه غالبة لَهُ وكل مَا كَانَ من صفة الرَّحْمَة فَهُوَ غَالب لما كَانَ من صفة الْغَضَب فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يكون إِلَّا رحِيما وَرَحمته من لَوَازِم ذَاته كعلمه وَقدرته وحياته وسَمعه وبصره وإحسانه فيستحيل أَن يكون على خلاف ذَلِك وَلَيْسَ كَذَلِك غَضَبه فَإِنَّهُ لَيْسَ من لَوَازِم ذَاته وَلَا يكون غضبانا دَائِما غَضبا لَا يتَصَوَّر انفكاكه بل يَقُول رسله وَأعلم الْخلق بِهِ يَوْم الْقِيَامَة إِن رَبِّي قد غضب الْيَوْم غَضبا لم يغْضب قبله مثله وَلنْ يغْضب بعده مثله وَرَحمته وسعت كل شَيْء وغضبه لم يسع كل شَيْء وَهُوَ سُبْحَانَهُ كتب على نَفسه الرَّحْمَة وَلم يكْتب على نَفسه الْغَضَب ووسع كل شَيْء رَحْمَة وعلما وَلم يسع كل شَيْء غَضبا وانتقاما فالرحمة وَمَا كَانَ بهَا ولوازمها وآثارها غالبة على الْغَضَب
وَمَا كَانَ مِنْهُ وآثاره فوجود مَا كَانَ بِالرَّحْمَةِ أحب إِلَيْهِ من وجود مَا كَانَ من لَوَازِم الْغَضَب وَلِهَذَا كَانَت الرَّحْمَة أحب إِلَيْهِ من الْعَذَاب وَالْعَفو أحب إِلَيْهِ من الانتقام فوجود محبوبه أحب إِلَيْهِ من فَوَات مكروهه وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ فِي فَوَات مكروهه فَوَات مَا يُحِبهُ من لوازمه فَإِنَّهُ يكره فَوَات تِلْكَ اللوازم المحبوبة كَمَا يكره وجود ذَلِك الْمَلْزُوم الْمَكْرُوه الْوَجْه الثَّامِن عشر أَن آثَار مَا يكرههُ وَهُوَ المنهيات أسْرع زوالا بِمَا يُحِبهُ من زَوَال آثَار مَا يُحِبهُ بِمَا يكرههُ فآثار كَرَاهَته سريعة الزَّوَال وَقد يزيلها سُبْحَانَهُ بِالْعَفو والتجاوز وتزول لتوبة وَالِاسْتِغْفَار والأعمال الصَّالِحَة والمصائب الْكَفَرَة والشفاعة والحسنات يذْهبن والسيئات وَلَو بلغت ذنُوب العَبْد عنان السَّمَاء ثمَّ استغفره غفر لَهُ وَلَو لقِيه بقراب الأَرْض خَطَايَا ثمَّ لقِيه لَا يُشْرك بِهِ شَيْئا لأتاه بقرابها مغْفرَة وَهُوَ سُبْحَانَهُ يغْفر الذُّنُوب وَإِن تعاظمت وَلَا يُبَالِي فيبطلها وَيبْطل آثارها بِأَدْنَى سعي من العَبْد وتوبة نصوح وَنَدم على مَا فعل وَمَا ذَاك إِلَّا لوُجُود مَا يُحِبهُ من تَوْبَة العَبْد وطاعته وتوحيده فدلّ على أَن وجود ذَلِك أحب إِلَيْهِ وأرضى لَهُ يُوضحهُ الْوَجْه التَّاسِع عشر وَهُوَ أَنه سُبْحَانَهُ قدر مَا يبغضه ويكرهه من المنهيات لما يَتَرَتَّب عَلَيْهَا مِمَّا يُحِبهُ ويفرح بِهِ من المأمورات فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أفرح بتوبة عَبده من الفاقد الْوَاجِد والعقيم الْوَالِد والظمآن الْوَارِد وَقد ضرب رَسُول الله لفرحه بتوبة العَبْد مثلا لَيْسَ فِي المفروح بِهِ أبلغ مِنْهُ وَهَذَا الْفَرح إِنَّمَا كَانَ بِفعل الْمَأْمُور بِهِ وَهُوَ التَّوْبَة فَقدر الذَّنب لما يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من هَذَا الْفَرح الْعَظِيم الَّذِي وجوده أحب إِلَيْهِ من فَوَاته ووجوده بِدُونِ لَازمه مُمْتَنع فَدلَّ على أَن وجود مَا يحب أحب إِلَيْهِ من فَوَات مَا يكره وَلَيْسَ المُرَاد بذلك أَن كل فَرد من أَفْرَاد مَا يحب أحب إِلَيْهِ من فَوَات كل فَرد مِمَّا يكره حَتَّى تكون رَكعَتَا الضُّحَى أحب إِلَيْهِ من فَوَات قتل الْمُسلم وَإِنَّمَا المُرَاد أَن جنس فعل المأمورات أفضل من جنس ترك الْمَحْظُورَات كَمَا إِذا فضل الذّكر على الْأُنْثَى والإنسي على الْملك فَالْمُرَاد الْجِنْس لَا عُمُوم الْأَعْيَان
وَالْمَقْصُود أَن هَذَا الْفَرح الَّذِي لَا فَرح يُشبههُ فعل مَأْمُور التَّوْبَة يدل على أَن هَذَا الْمَأْمُور أحب إِلَيْهِ من فَوَات الْمَحْظُور الَّذِي تفوت بِهِ التَّوْبَة وأثرها ومقتضاها فَإِن قيل إِنَّمَا فَرح بِالتَّوْبَةِ لِأَنَّهَا ترك للمنهي فَكَانَ الْفَرح بِالتّرْكِ قيل لَيْسَ كَذَلِك فَإِن التّرْك الْمَحْض لَا يُوجب هَذَا الْفَرح بل وَلَا الثَّوَاب وَلَا الْمَدْح وَلَيْسَت التَّوْبَة تركا وَإِن كَانَ التّرْك من لوازمها وَإِنَّمَا هِيَ فعل وجودي يتَضَمَّن إقبال التائب على ربه وإنابته إِلَيْهِ والتزام طَاعَته وَمن لَوَازِم ذَلِك ترك مَا نهى عَنهُ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} فالتوبة رُجُوع مِمَّا يكره إِلَى مَا يحب وَلَيْسَت مُجَرّد التّرْك فَإِن من ترك الذَّنب تركا مُجَردا وَلم يرجع مِنْهُ إِلَى مَا يُحِبهُ الرب تَعَالَى لم يكن تَائِبًا فالتوبة رُجُوع وإقبال وإنابة لَا ترك مَحْض الْوَجْه الْعشْرُونَ أَن الْمَأْمُور بِهِ إِذا فَاتَ فَاتَت الْحَيَاة الْمَطْلُوبَة للْعَبد وَهِي الَّتِي قَالَ تَعَالَى فِيهَا
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} وَقَالَ {أَو من كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَات} وَقَالَ فِي حق الْكفَّار {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحيَاء} وَقَالَ {إِنَّكَ لَا تسمع الْمَوْتَى} وَأما الْمنْهِي عَنهُ فغايته أَن يُوجد الْمَرَض وحياة مَعَ السقم خير من موت فَإِن قيل وَمن الْمنْهِي عَنهُ مَا يُوجب الْهَلَاك وَهُوَ الشّرك قيل الهلك إِنَّمَا حصل بِعَدَمِ التَّوْحِيد الْمَأْمُور بِهِ الْحَيَاة فَلَمَّا فقد حصل الْهَلَاك فَمَا هلك إِلَّا من عدم إِتْيَانه بالمأمور بِهِ وَهُوَ وَهَذَا وَجه حاد وَعِشْرُونَ فِي الْمَسْأَلَة وَهُوَ أَن فِي المأمورات مَا يجب فَوَاته الْهَلَاك والشقاء الدَّائِم وَلَيْسَ فِي المنهيات مَا يَقْتَضِي ذَلِك الْوَجْه الثَّانِي وَالْعشْرُونَ أَن فعل الْمَأْمُور يتضى ترك الْمنْهِي عَنهُ إِذا فعل على وَجهه من الْإِخْلَاص والمتابعة والنصح لله فِيهِ قَالَ تَعَالَى {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} وَمُجَرَّد ترك الْمنْهِي لَا يَقْتَضِي فعل الْمَأْمُور وَلَا يستلزمه الْوَجْه الثَّالِث وَالْعشْرُونَ أَن مَا يُحِبهُ من المأمورات فَهُوَ متعلّق بصفاته وَمَا يكرههُ من المنهيات فمتعلق بمفعولاته وَهَذَا وَجه دَقِيق يحْتَاج إِلَى بَيَان فَنَقُول