الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على غَضَبه وَمَا فِيهَا من الْإِكْرَام والتقريب والعناية دَال على محبّته وَمَا فِيهَا من الإهانة والإبعاد والخذلان دَال على بغضه ومقته وَمَا فِيهَا من ابْتِدَاء الشَّيْء فِي غَايَة النَّقْص والضعف ثمَّ سوقه إِلَى تَمَامه ونهايته دَال على وُقُوع الْمعَاد وَمَا فِيهَا من أَحْوَال النَّبَات وَالْحَيَوَان وَتصرف الْمِيَاه دَلِيل على إِمْكَان الْمعَاد وَمَا فِيهَا من ظُهُور آثَار الرَّحْمَة وَالنعْمَة على خلقه دَلِيل على صحّة النبوّات وَمَا فِيهَا من الكمالات الَّتِي لَو عدمتها كَانَت نَاقِصَة دَلِيل على أَن معطي تِلْكَ الكمالات أَحَق بهَا فمفعولاته من أدل شَيْء على صِفَاته وَصدق مَا أخْبرت بِهِ رسله عَنهُ فالمصنوعات شاهدة تصدق الْآيَات المسموعات منبّهة على الِاسْتِدْلَال بِالْآيَاتِ المصنوعات قَالَ تَعَالَى {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} أَي أَن الْقُرْآن حق فَأخْبر أنّه لَا بُد من أَن يُرِيهم من آيَاته المشهودة مَا يبيّن لَهُم أَن آيَاته المتلوّة حق ثمَّ أخبر بكفاية شَهَادَته على صِحَة خَبره بِمَا أَقَامَ من الدَّلَائِل والبراهين على صدق رَسُوله فآياته شاهدة بصدقه وَهُوَ شَاهد بِصدق رَسُوله بآياته وَهُوَ الشَّاهِد والمشهود لَهُ وَهُوَ الدَّلِيل والمدلول عَلَيْهِ فَهُوَ الدَّلِيل بِنَفسِهِ على نَفسه كَمَا قَالَ بعض العارفين كَيفَ أطلب لدَلِيل على من هُوَ دَلِيل على كل شَيْء فَأَي دَلِيل طلبته عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ أظهر مِنْهُ وَلِهَذَا قَالَ الرُّسُل لقومهم {أَفِي اللَّهِ شَكّ} فَهُوَ أعرف من كل مَعْرُوف وَأبين من كل دَلِيل فالأشياء عُرفت بِهِ فِي الْحَقِيقَة وَإِن كَانَ عُرف بهَا فِي النّظر وَالِاسْتِدْلَال بأفعاله وَأَحْكَامه عَلَيْهِ
فَائِدَة فِي الْمسند وصحيح أبي الحاتم من حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود قَالَ
قَالَ رَسُول الله مَا أصَاب عبدا هم وَلَا حزن فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي عَبدك وَابْن عَبدك ابْن أمتك ناصيتي بِيَدِك مَاض فِي حكمك عدل فِي قضاؤك أَسأَلك بِكُل اسْم هُوَ لَك سميت بِهِ نَفسك أَو أنزلته فِي كتابك أَو علّمته أحدا من خلقك أَو استأثرت
بِهِ فِي علم الْغَيْب عنْدك أَن تجْعَل الْقُرْآن ربيع قلبِي وَنور صَدْرِي وجلاء حزني وَذَهَاب همّي وغمّي إِلَّا أذهب الله همه وغمه وأبدله مَكَانَهُ فَرحا قَالُوا يَا رَسُول الله أَفلا نتعلّمهن قَالَ بلَى يَنْبَغِي لمن سمعهن أَن يتعلّمهن فتضمّن هَذَا الحَدِيث الْعَظِيم أمورا من الْمعرفَة والتوحيد والعبوديّة مِنْهَا أَن الدَّاعِي بِهِ صدَّر سُؤَاله بقوله إِنِّي عَبدك ابْن عَبدك ابْن أمتك وَهَذَا يتَنَاوَل مَن فَوْقه من آبَائِهِ وأمهاته إِلَى أَبَوَيْهِ آدم وحوّاء وَفِي ذَلِك تملّق لَهُ واستخذا بَين يَدَيْهِ واعتراف بِأَنَّهُ مَمْلُوكه وآباؤه مماليكه وَأَن العَبْد لَيْسَ لَهُ غير بَاب سيّده وفضله وإحسانه وَأَن سيّده إِن أهمله وتخلّى عَنهُ هلك وَلم يُؤوه أحد وَلم يعْطف عَلَيْهِ بل يضيع أعظم ضَيْعَة فتحت هَذَا الِاعْتِرَاف أَنِّي لَا غنى بِي عَنْك طرفَة عين وَلَيْسَ لي من أعوذ بِهِ وألوذ بِهِ غير سيّدي الَّذِي أَنا عَبده وَفِي ضمن ذَلِك الِاعْتِرَاف بِأَنَّهُ مربوب مدبّر مَأْمُور مَنْهِيّ إِنَّمَا يتصرّف بِحكم العبوديّة لَا بِحكم الِاخْتِيَار لنَفسِهِ فَلَيْسَ هَذَا شَأْن العَبْد بل شَأْن الْمُلُوك والأحرار وَأما العبيد فتعرفهم على مَحْض العبوديّة فَهَؤُلَاءِ عبيد الطَّاعَة المضافون إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ فِي قَوْله {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِم سُلْطَان} وَقَوله {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْض هونا} وَمن عداهم عبيد الْقَهْر والربوبية فأضافتهم إِلَيْهِ كإضافة سَائِر الْبيُوت إِلَى ملكه وَإِضَافَة أُولَئِكَ كإضافة الْبَيْت الْحَرَام إِلَيْهِ اضافة نَاقَته إِلَيْهِ وداره الَّتِي هِيَ الْجنَّة إِلَيْهِ وَإِضَافَة عبودية رَسُوله إِلَيْهِ بقوله {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا على عَبدنَا} {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} وَفِي التَّحْقِيق بِمَعْنى قَوْله أَنِّي عَبدك الْتِزَام عبوديته من الذل والخضوع والإنابة وامتثال أَمر سيّده وَاجْتنَاب نَهْيه ودوام الافتقار اليه واللجأ إِلَيْهِ والاستعانة بِهِ والتوكّل عَلَيْهِ وعياذ العَبْد بِهِ ولياذه بِهِ وَإِن لم لَا يتعلّق قلبه بِغَيْرِهِ محبّة وخوفا ورجاء وَفِيه أَيْضا أَنِّي عبد من جَمِيع الْوُجُوه صَغِيرا وكبيرا حيّا وميّتا ومطيعا وعاصيا معافى ومبتلى بِالروحِ وَالْقلب وَاللِّسَان والجوارح وَفِي أَيْضا أَن مَالِي وَنَفْسِي ملك لَك فَإِن العَبْد وَمَا
يملك لسيّده وَفِيه أَيْضا أَنَّك أَنْت الَّذِي مننت عليَّ بِكُل مل أَنا فِيهِ من نعْمَة فَذَلِك كلّه من إنعامك على عَبدك وَفِيه أَيْضا أَنِّي لَا أتصرّف فِيمَا خوّلتني من مَالِي وَنَفْسِي إِلَّا بِأَمْرك كَمَا لَا يتصرّف العَبْد إِلَّا بِإِذن سيّده وَأَنِّي لَا أملك لنَفْسي ضرّا وَلَا نفعا وَلَا موتا وَلَا حَيَاة وَلَا نشورا فَإِن صحّ لَهُ شُهُود ذَلِك فقد قَالَ أَنِّي عَبدك حَقِيقَة ثمَّ قَالَ ناصيتي بِيَدِك أَي أَنْت المتصرّف فيَّ تصرّفي كَيفَ تشَاء لست أَنا المتصرّف فِي نَفسِي وَكَيف يكون لَهُ فِي نَفسه تصرّف من نَفسه بيد ربه وسيده وناصيته بِيَدِهِ وَقَلبه بَين أصبعين من أَصَابِعه وَمَوته وحياته وسعادته وشقاوته وعافيته وبلاؤه كُله إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ لَيْسَ إِلَى العَبْد مِنْهُ شَيْء بل هُوَ فِي قَبْضَة سَيّده أَضْعَف من مَمْلُوك ضَعِيف حقير ناصيته بيد سُلْطَان قاهر مَالك لَهُ تَحت تصرّفه وقهره بل الْأَمر فَوق ذَلِك وَمَتى شهد العَبْد أَن ناصيته ونواصي الْعباد كلهَا بيد الله وَحده يصرفهم كَيفَ يَشَاء لم يخفهم بعد ذَلِك وَلم يرجهم وَلم ينزلهم منزلَة المالكين بل منزلَة عبيد مقهورين مربوبين المتصرّف فيهم سواهُم والمدبّر لَهُم غَيرهم فَمن شهد نَفسه بِهَذَا المشهد صَار فقره وضرورته إِلَى ربه وَصفا لَازِما لَهُ وَمَتى شهد النَّاس كَذَلِك لم يفْتَقر إِلَيْهِم وَلم يعلّق أمله ورجاءه بهم فاستقام توحيده وتوكّله وعبوديته وَلذَا قَالَ هود لِقَوْمِهِ {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي على صِرَاط مُسْتَقِيم} وَقَوله مَاض فيَّ حكمك عدل فِي قضاؤك تضمّن هَذَا الْكَلَام أَمريْن أَحدهمَا مضاء حكمه فِي عَبده وَالثَّانِي يتضمّن حَمده وعدله وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَهُ الْملك وَله الْحَمد وَهَذَا معنى قَول نبيّه هود {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} ثمَّ قَالَ {إِنَّ رَبِّي على صِرَاط مُسْتَقِيم} أَي مَعَ كَونه مَالِكًا قاهراً متصرّفا فِي عباده نواصيهم بِيَدِهِ فَهُوَ على صِرَاط مُسْتَقِيم وَهُوَ الْعدْل الَّذِي يتصرّف بِهِ فيهم فَهُوَ على صِرَاط مُسْتَقِيم فِي قَوْله وَفعله وقضائه وَقدره وَأمره وَنَهْيه وثوابه وعقابه فخبره كُله صدق وقضاؤه كلّه عدل وَأمره كُله مصلحَة وَالَّذِي نهى عَنهُ كُله ومفسدة وثوابه لمن يسْتَحق الثَّوَاب بفضله وَرَحمته وعقابه لمن يسْتَحق الْعقَاب بعدله وحكمته وَفرق بَين
الحكم وَالْقَضَاء وَجعل المضاء للْحكم وَالْعدْل لقَضَاء فَإِن حكمه سُبْحَانَهُ يتَنَاوَل حكمه الديني الشَّرْعِيّ وَحكمه الكوني القدري والنوعان نافذان فِي العَبْد ان ماضيان فِيهِ وَهُوَ مقهور تَحت الْحكمَيْنِ قد مضيا فِيهِ ونفذا فِيهِ شَاءَ أم أَبى لَكِن الحكم الكوني لَا يُمكنهُ مُخَالفَته وَأما الديني الشَّرْعِيّ فقد يُخَالِفهُ
وَلما كَانَ الْقَضَاء هُوَ الْإِتْمَام والإكمال وَذَلِكَ إِنَّمَا يكون بعد مضيه ونفوذه قَالَ عدل فيَّ قضاؤك أَي الحكم الَّذِي أكملته وأتممته ونفّذته فِي عَبدك عدل مِنْك فِيهِ وَأما الحكم فَهُوَ مَا يحكم بِهِ سُبْحَانَهُ وَقد يَشَاء تنفيذه وَقد لَا ينفذهُ فَإِن كَانَ حكما دينيا فَهُوَ مَاض فِي العَبْد وَإِن كَانَ كونيا فَإِن نفذه سُبْحَانَهُ مضى فِيهِ وَإِن لم ينفّذه انْدفع عَنهُ فَهُوَ سُبْحَانَهُ يقْضِي مَا يقْضِي بِهِ وَغَيره قد يقْضِي بِقَضَاء وَيقدر أَمر وَلَا يَسْتَطِيع تنفيذه وَهُوَ سُبْحَانَهُ يقْضِي ويمضي فَلهُ الْقَضَاء والإمضاء وَقَوله عدل فيَّ قضاؤك يتَضَمَّن جَمِيع أقضيته فِي عَبده من كل الْوُجُوه من صِحَة وسقم وغنى وفقر ولذّة وألم وحياة وَمَوْت وعقوبة وَتجَاوز وَغير ذَلِك قَالَ تَعَالَى وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَة فِيمَا كسبت أَيْدِيكُم وَقَالَ {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْأِنْسَانَ كفور} فَكل مَا يقْضى على العَبْد فَهُوَ عدل فِيهِ
فَإِن قيل فالمعصية عنْدكُمْ بِقَضَائِهِ وَقدره فَمَا وَجه الْعدْل فِي قَضَائهَا فَإِن الْعدْل فِي الْعقُوبَة عَلَيْهَا ظَاهر قيل هَذَا سُؤال لَهُ شَأْن وَمن أَجله زعمت طَائِفَة أَن الْعدْل هُوَ الْمَقْدُور وَالظُّلم مُمْتَنع لذاته قَالُوا لِأَن الظُّلم هُوَ التصرّف فِي ملك الْغَيْر وَالله لَهُ كل شَيْء فَلَا يكون تصرّفه فِي خلقه إِلَّا عدلا وَقَالَت طَائِفَة بل الْعدْل أَنه لَا يُعَاقب على مَا قَضَاهُ وَقدره فلمّا حسن مِنْهُ الْعقُوبَة على الذَّنب عُلم أنّه لَيْسَ بِقَضَائِهِ وَقدره فَيكون الْعدْل هُوَ جَزَاؤُهُ على الذَّنب بالعقوبة والذم إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَة وصعب على هَؤُلَاءِ الْجمع بَين الْعدْل وَبَين الْقدر فزعموا أَن من أثبت الْقدر لم يُمكنهُ أَن يَقُول بِالْعَدْلِ وَمن قَالَ بِالْعَدْلِ لم يُمكنهُ أَن يَقُول بِالْقدرِ كَمَا صَعب عَلَيْهِم الْجمع بَين التَّوْحِيد وَإِثْبَات الصِّفَات فزعموا أَنه لَا يُمكنهُم إِثْبَات التَّوْحِيد إِلَّا بإنكار الصِّفَات فَصَارَ توحيدهم تعطيلا
وعدلهم تَكْذِيبًا بِالْقدرِ وَأما أهل السّنة فهم مثبتون للأمرين وَالظُّلم عِنْدهم هُوَ وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه كتعذيب الْمُطِيع وَمن لَا ذَنْب لَهُ وَهَذَا قد نزّه الله نَفسه عَنهُ فِي غير مَوضِع من كِتَابه وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَإِن أضلّ من شَاءَ وَقضى بالمعصية والغي على من شَاءَ فَذَلِك مَحْض الْعدْل فِيهِ لِأَنَّهُ وضع الإضلال والخذلان فِي مَوْضِعه اللَّائِق بِهِ كَيفَ وَمن أَسْمَائِهِ الْحسنى الْعدْل الَّذِي كل أَفعاله وَأَحْكَامه سداد وصواب وَحقّ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قد أوضح السبل وَأرْسل الرُّسُل وَأنزل الْكتب وأزاح الْعِلَل ومكّن من أَسبَاب الْهِدَايَة وَالطَّاعَة بالأسماع والأبصار والعقول وَهَذَا عدله ووفّق من شَاءَ بمزيد عناية وَأَرَادَ من نَفسه أَن يُعينهُ ويوفّقه فَهَذَا فَضله وخذل من لَيْسَ بِأَهْل لتوفيقه وفضله وخلى بَينه وَبَين نَفسه وَلم يرد سُبْحَانَهُ من نَفسه أَن يوفّقه فَقطع عَنهُ فَضله وَلم يحرمه عدله وَهَذَا نَوْعَانِ أَحدهمَا مَا يكون جَزَاء مِنْهُ للْعَبد على إعراضه عَنهُ وإيثار عدوه فِي الطَّاعَة والموافقة عَلَيْهِ وتناسي ذكره وشكره فَهُوَ أهل أَن يَخْذُلهُ ويتخلى عَنهُ وَالثَّانِي أَن لَا يَشَاء لَهُ ذَلِك ابْتِدَاء لما يعلم مِنْهُ أَنه لَا يعرف قدر نعْمَة الْهِدَايَة وَلَا يشكره عَلَيْهِ وَلَا يثني عَلَيْهِ بهَا وَلَا يُحِبهُ فَلَا يشاؤها لَهُ لعدم صَلَاحِية مَحَله قَالَ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَم بِالشَّاكِرِينَ} وَقَالَ {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسمعهم} فَإِذا قضى على هَذِه النُّفُوس بالضلال وَالْمَعْصِيَة كَانَ ذَلِك مَحْض الْعدْل كَمَا إِذا قضى على الحيّة بِأَن تقتل وعَلى الْعَقْرَب وعَلى الْكَلْب الْعَقُور كَانَ ذَلِك عدلا فِيهِ وَإِن كَانَ مخلوقا على هَذِه الصّفة وَقد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِي هَذَا فِي كتَابنَا الْكَبِير فِي الْقَضَاء وَالْقدر
وَالْمَقْصُود أَن قَوْله مَاض فِي حكمك عدل فِي قضاؤك رد على الطَّائِفَتَيْنِ القدريّة الَّذين يُنكرُونَ عُمُوم أقضية الله فِي عَبده وَيخرجُونَ أَفعَال الْعباد عَن كَونهَا بِقَضَائِهِ وَقدره ويردون الْقَضَاء إِلَى الْأَمر وَالنَّهْي وعَلى الجبريّة الَّذين يَقُولُونَ كل مَقْدُور عدل فَلَا يبْقى لقَوْله عدل فِي قضاؤك فَائِدَة فَإِن الْعدْل عِنْدهم كل مَا يُمكن
فعله وَالظُّلم هُوَ الْمحَال لذاته فَكَأَنَّهُ قَالَ مَاض ونافذ فيّ قضاؤك وَهَذَا هُوَ الأول بِعَيْنِه وَقَوله أَسأَلك بِكُل اسْم إِلَى آخِره توسل إِلَيْهِ بأسمائه كلهَا مَا علم العَبْد مِنْهَا وَمَا لم يعلم وَهَذِه أحب الْوَسَائِل إِلَيْهِ فَإِنَّهَا وَسِيلَة بصفاته وأفعاله الَّتِي هِيَ مَدْلُول أَسْمَائِهِ وَقَوله أَن تجْعَل الْقُرْآن ربيع قلبِي وَنور صَدْرِي الرّبيع الْمَطَر الَّذِي يحيي الأَرْض شبّه الْقُرْآن بِهِ لحياة الْقُلُوب بِهِ وَكَذَلِكَ شبهه الله بالمطر وَجمع بَين المَاء الَّذِي تحصل بِهِ الْحَيَاة والنور الَّذِي تحصل بِهِ الإضاءة وَالْإِشْرَاق كَمَا جمع بَينهمَا سُبْحَانَهُ فِي قَوْله أنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا توقدون عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حلية وفى قَوْله {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ثمَّ قَالَ {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} وَفِي قَوْله اللَّهُ نور السَّمَوَات وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ الْآيَات ثمَّ قَالَ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يزجي السَّحَاب ثمَّ يؤلف بَينه الْآيَة فتضمّن الدُّعَاء أَن يحيي قلبه بربيع الْقُرْآن وَأَن ينوّر بِهِ صَدره فتجتمع لَهُ الْحَيَاة والنور قَالَ تَعَالَى {أَو من كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِج مِنْهَا}
وَلما كَانَ الصَّدْر أوسع من الْقلب كَانَ النُّور الْحَاصِل لَهُ يسري مِنْهُ إِلَى الْقلب لِأَنَّهُ قد حصل لما هُوَ أوسع مِنْهُ وَلما كَانَت حَيَاة الْبدن والجوارح كلهَا بحياة الْقلب تسري الْحَيَاة مِنْهُ إِلَى الصَّدْر ثمَّ إِلَى الْجَوَارِح سَأَلَ الْحَيَاة لَهُ بِالربيعِ الَّذِي هُوَ مادّتها وَلما كَانَ الْحزن والهم وَالْغَم يضاد حَيَاة الْقلب واستنارته سَأَلَ أَن يكون ذهابها بِالْقُرْآنِ فَإِنَّهَا أَحْرَى أَن لَا تعود وَأما إِذا ذهبت بِغَيْر الْقُرْآن من صِحَة أَو دنيا أَو جاه أَو زَوْجَة أَو ولد فَإِنَّهَا تعود بذهاب ذَلِك وَالْمَكْرُوه الْوَارِد على الْقلب إِن كَانَ من أَمر مَاض أحدث الْحزن زَان كَانَ من مُسْتَقْبل أحدث الْهم وَإِن كَانَ من أَمر حَاضر أحدث الْغم وَالله أعلم