الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل فَإِذا دفعت الخاطر الْوَارِد عَلَيْك انْدفع عَنْك مَا بعده وَإِن قبلته صَار
فكرا جوّالا فاستخدم الْإِرَادَة فتساعدت هِيَ والفكر على اسْتِخْدَام الْجَوَارِح فَإِن تعذّر استخدامها رجعا إِلَى الْقلب بالمني والشهوة وتوجهه إِلَى جِهَة المُرَاد وَمن الْمَعْلُوم أَن إصْلَاح الخواطر أسهل من إصْلَاح الأفكار وَإِصْلَاح الأفكار أسهل من إصْلَاح الإرادات وَإِصْلَاح الإرادات أسهل من تدارك فَسَاد الْعَمَل وتداركه أسهل من قطع العوائد فأنفع الدَّوَاء أَن تشغل نَفسك بالفكر فِيمَا يَعْنِيك دون مَالا يَعْنِيك فالفكر فِيمَا لَا يَعْنِي بَاب كل شَرّ وَمن فكّر فِيمَا لَا يعنيه فَاتَهُ مَا يعنيه واشتغل عَن أَنْفَع الْأَشْيَاء لَهُ بِمَا لَا مَنْفَعَة لَهُ فِيهِ فالفكر والخواطر والإرادة والهمة أَحَق شَيْء بإصلاحه من نَفسك فَإِن هَذِه خاصتك وحقيقتك الَّتِي تبتعد بهَا أَو تقرب من إلهك ومعبودك الَّذِي لَا سَعَادَة لَك إِلَّا فِي قربه وَرضَاهُ عَنْك وكل الشَّقَاء فِي بعْدك عَنهُ وَسخطه عَلَيْك وَمن كَانَ فِي خواطره ومجالات فكره دنيئا خسيسا لم يكن فِي سَائِر أمره إِلَّا كَذَلِك وَإِيَّاك أَن تمكّن الشَّيْطَان من بَيت أفكارك وإرادتك فَإِنَّهُ يُفْسِدهَا عَلَيْك فَسَادًا يصعب تَدَارُكه ويلقي إِلَيْك أَنْوَاع الوساوس والأفكار المضرّة ويحول بَيْنك وَبَين الْفِكر فِيمَا ينفعك وَأَنت الَّذِي أعنته على نَفسك بتمكينه من قَلْبك وخواطرك فملكها عَلَيْك فمثالك مَعَه مِثَال صَاحب رَحا يطحن فِيهَا جيّد الْحُبُوب فَأَتَاهُ شخص مَعَه حمل تُرَاب وبعر وفحم وغثاء ليطحنه فِي طاحونته فَإِن طرده وَلم يُمكنهُ من إِلْقَاء مَا مَعَه فِي الطاحون اسْتمرّ على طحن مَا يَنْفَعهُ وَإِن مكنه فِي إِلْقَاء ذَلِك فِي الطاحون أفسد مَا فِيهَا من الْحبّ وَخرج الطحين كُله فَاسِدا وَالَّذِي يلقيه الشَّيْطَان فِي النَّفس لَا يخرج عَن الْفِكر فِيمَا كَانَ وَدخل الْوُجُود لَو كَانَ على خلاف وَذَلِكَ وَفِيمَا لم يكن لَو كَانَ كَيفَ كَانَ يكون أَو فِيمَا يملك الْفِكر فِيهِ من أَنْوَاع
الْفَوَاحِش وَالْحرَام أَو فِي خيالات وهمية لاحقيقة لَهَا وَإِمَّا فِي بَاطِل أَو فِيمَا لَا سَبِيل إِلَى إِدْرَاكه من أَنْوَاع مَا طوى عَنهُ علمه فيلقيه فِي تِلْكَ الخواطر الَّتِي لَا يبلغ مِنْهَا غَايَة وَلَا يقف مِنْهَا على نِهَايَة فَيجْعَل ذَلِك مجَال فكره ومسرح وهمه
وجماع إصْلَاح ذَلِك أَن تشغل فكرك فِي بَاب الْعُلُوم والتصورات بِمَعْرِِفَة مَا يلزمك التَّوْحِيد وحقوقه وَفِي الْمَوْت وَمَا بعده إِلَى الدُّخُول إِلَى الْجنَّة وَالنَّار وَفِي آفَات الْأَعْمَال وطرق التَّحَرُّز مِنْهَا وَفِي بَاب الإرادات والعزوم أَن تشغل نَفسك بِإِرَادَة مَا ينفعك إِرَادَته وَطرح إِرَادَة مَا يَضرك إِرَادَته وَعند العارفين أَن تمني الْخِيَانَة وإشغال الْفِكر وَالْقلب بهَا أضرّ على الْقلب من نفس الْخِيَانَة وَلَا سِيمَا إِذا فرغ قلبه مِنْهَا بعد مباشرتها فَإِن تمنيها يشغل الْقلب بهَا ويملؤه مِنْهَا ويجعلها همه وَمرَاده وَأَنت تَجِد فِي الشَّاهِد أَن الْملك من الْبشر إِذا كَانَ فِي بعض حَاشِيَته وخدمه من هُوَ متمن لخيانته مَشْغُول الْقلب والفكر بهَا ممتلىء مِنْهَا وَهُوَ مَعَ ذَلِك فِي خدمته وَقَضَاء أشغاله فَإِذا اطّلع على سره وَقصد مقته غَايَة المقت وأبغضه وقابله بِمَا يستحقّه وَكَانَ أبْغض إِلَيْهِ من رجل بعيد عَنهُ جنى بعض الْجِنَايَات وَقَلبه وسره مَعَ الْملك غير منطو على تمنّي الْخِيَانَة ومحبتها والحرص عَلَيْهَا فالأوّل يَتْرُكهَا عَجزا واشتغالا بِمَا هُوَ فِيهِ وَقَلبه ممتلىء بهَا وَالثَّانِي يَفْعَلهَا وَقَلبه كَارِه لَهَا لَيْسَ فِيهِ إِضْمَار الْخِيَانَة وَلَا الْإِصْرَار عَلَيْهَا فَهَذَا أحسن حَالا وَأسلم عَاقِبَة من الأول
وَبِالْجُمْلَةِ فالقلب لَا يَخْلُو من الْفِكر وَأما فِي وَاجِب آخرته ومصالحها وَإِمَّا فِي مصَالح دُنْيَاهُ ومعاشه وَإِمَّا فِي الوساوس والأماني الْبَاطِلَة والمقدرات الْمَفْرُوضَة وَقد تقدم أَن النَّفس مثلهَا كَمثل رَحا تَدور بِمَا يلقى فِيهَا فَإِن ألقيت فِيهَا حبا دارت بِهِ وَإِن ألقيت فِيهَا زجاجا وحصا وبعرا دارت بِهِ وَالله سُبْحَانَهُ هُوَ قيم تِلْكَ الرحا ومالكها ومصرّفها وَقد أَقَامَ لَهَا ملكا يلقِي فِيهَا مَا ينفعها فتدور بِهِ شَيْطَانا يلقِي فِيهَا مَا يَضرهَا فتدور بِهِ فالملك يلم بهَا مرّة والشيطان يلم بهَا مرّة فالحب الَّذِي يَقِيه
الْملك إيعاد بِالْخَيرِ وتصديق بالوعد وَالْحب الَّذِي يلقيه الشَّيْطَان إيعاد بِالشَّرِّ وَتَكْذيب بالوعد والطحين على قدر الْحبّ وَصَاحب الْحبّ المضر لَا يتَمَكَّن من إلقائه إِلَّا إِذا وجد الرَّحَى فارغة من الْحبّ النافع وقيمها قد أهملها وَأعْرض عَنْهَا فَحِينَئِذٍ يُبَادر إِلَى إِلْقَاء مَا مَعَه فِيهَا
وَبِالْجُمْلَةِ فقيم الرحا إِذا تخلى عَنْهَا وَعَن إصلاحها وإلقاء الْحبّ النافع فِيهَا وجد الْعَدو السَّبِيل إِلَى إفسادها وإرادتها بِمَا مَعَه وأصل صَلَاح هَذِه الرَّحَى بالاشتغال بِمَا يَعْنِيك وفسادها كُله فِي الِاشْتِغَال بِمَا لَا يَعْنِيك وَمَا أحسن مَا قَالَ بعض الْعُقَلَاء لما وجدت أَنْوَاع الذَّخَائِر مَنْصُوبَة غَرضا للمتألف وَرَأَيْت الزَّوَال حَاكما عَلَيْهَا مدْركا لَهَا انصرفت عَن جَمِيعهَا إِلَى مَا لَا يُنَازع فِيهِ الحجا أَنه أَنْفَع الذَّخَائِر وَأفضل المكاسب وأربح المتاجر وَالله الْمُسْتَعَان
قَالَ شَقِيق بن إِبْرَاهِيم أغلق بَاب التَّوْفِيق عَن الْخلق من سِتَّة أَشْيَاء اشتغالهم بِالنعْمَةِ عَن شكرها ورغبتهم فِي الْعلم وتركهم الْعَمَل والمسارعة إِلَى الذَّنب وَتَأْخِير التَّوْبَة والاغترار بِصُحْبَة الصَّالِحين وَترك الِاقْتِدَاء بفعالهم وإدبار الدُّنْيَا عَنْهُم وهم يتبعونها وإقبال الْآخِرَة عَلَيْهِم وهم معرضون عَنْهَا قلت وأصل ذَلِك عدم الرَّغْبَة والرهبة وَأَصله ضعف الْيَقِين وَأَصله ضعف البصيرة وَأَصله مهانة النَّفس ودناءتها واستبدال الَّذِي هُوَ أدنى بِالَّذِي هُوَ خير وَإِلَّا فَلَو كَانَت النَّفس شريفة كَبِيرَة لم ترض بالدون فَأصل الْخَيْر كُله بِتَوْفِيق الله ومشيئته وَشرف النَّفس ونبلها وكبرها وأصل الشَّرّ خستها ودناءتها وصغرها قَالَ تَعَالَى قَدْ أَفْلح من زكاها وَقد خَابَ من دساها أَي أَفْلح من كبرها وكثرها ونماها بِطَاعَة الله وخاب من صغرها وحقرها بمعاصي الله فالنفوس الشَّرِيفَة لَا ترْضى من الْأَشْيَاء إِلَّا بِأَعْلَاهَا وأفضلها وأحمدها عَاقِبَة والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وَتَقَع عَلَيْهَا كَمَا يَقع الذُّبَاب على الأقذار فَالنَّفْس الشَّرِيفَة الْعلية لَا ترْضى بالظلم وَلَا بالفواحش وَلَا بِالسَّرقَةِ والخيانة لِأَنَّهَا أكبر من ذَلِك وأجلّ وَالنَّفس المهينة
الحقيرة والخسيسة بالضد من ذَلِك فَكل نفس تميل إِلَى مَا يُنَاسِبهَا ويشاكلها وَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِه أَي على مَا يشاكله ويناسبه فَهُوَ يعْمل على طَرِيقَته الَّتِي تناسب أخلاقه وطبيعته وكل إِنْسَان يجْرِي على طَرِيقَته ومذهبه وعادته الَّتِي ألفها وجبل عَلَيْهَا فالفاجر يعْمل بِمَا يشبه طَرِيقَته من مُقَابلَة النعم بِالْمَعَاصِي والإعراض عَن النعم وَالْمُؤمن يعْمل بِمَا يشاكله من شكر النعم ومحبته وَالثنَاء عَلَيْهِ والتودد إِلَيْهِ وَالْحيَاء مِنْهُ والمراقبة لَهُ وتعظيمه وإجلاله فصل
من لم يعرف نَفسه كَيفَ يعرف خالقه فَاعْلَم أَن الله تَعَالَى خلق فِي صدرك بَيْتا وَهُوَ الْقلب وَوضع فِي صَدره عرشا لمعرفته يَسْتَوِي عَلَيْهِ الْمثل الْأَعْلَى فَهُوَ مستو على عَرْشه بِذَاتِهِ بَائِن من خلقه والمثل الْأَعْلَى من مَعْرفَته ومحبته وتوحيده مستو على سَرِير الْقلب وعَلى السرير بِسَاط من الرِّضَا وَوضع عَن يَمِينه وشماله مرافق شرائعه وأوامره وَفتح إِلَيْهِ بَابا من جنَّة رَحمته والأنس بِهِ والشوق إِلَى لِقَائِه وأمطره من وابل كَلَامه مَا أنبت فِيهِ أَصْنَاف الرياحين وَالْأَشْجَار المثمرة من أَنْوَاع الطَّاعَات والتهليل وَالتَّسْبِيح والتحميد وَالتَّقْدِيس وَجعل فِي وسط الْبُسْتَان شَجَرَة معرفَة فَهِيَ تُؤْتِي أكلهَا كل حِين بِإِذْنِ رَبِّهَا من الْمحبَّة والإنابة والخشية والفرح بِهِ والابتهاج بِقُرْبِهِ وأجرى إِلَى تِلْكَ الشَّجَرَة مَا يسقيها من تَدْبِير كَلَامه وفهمه وَالْعَمَل بوصاياه وعلّق فِي ذَلِك الْبَيْت قِنْدِيلًا أسرجه بضياء مَعْرفَته وَالْإِيمَان بِهِ وتوحيده فَهُوَ يستمد من شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تمسسه نَار ثمَّ أحَاط عَلَيْهِ حَائِطا يمنعهُ من دُخُول الْآفَات والمفسدين وَمن يُؤْذِي الْبُسْتَان فَلَا يلْحقهُ إِذا هم وَأقَام عَلَيْهِ حرسا من الْمَلَائِكَة يَحْفَظُونَهُ فِي يقظته ومنامه ثمَّ أعلم صَاحب الْبَيْت والبستان بالساكن فِيهِ فَهُوَ دَائِما همه إصْلَاح السكن وَلم شعثه ليرضاه السَّاكِن منزلا وَإِذا أحس بِأَدْنَى شعث فِي السكن
بَادر إِلَى إِصْلَاحه ولمّه خشيَة انْتِقَال السَّاكِن مِنْهُ فَنعم السَّاكِن وَنعم الْمسكن فسبحان الله رب الْعَالمين كم بَين هَذَا الْبَيْت وَبَيت قد استولى عَلَيْهِ الخراب وَصَارَ مأوى للحشرات والهوام ومحلا لإلقاء الأنتان والقاذورات فِيهِ فَمن أَرَادَ التخلي وَقَضَاء الْحَاجة وجد خربة لَا سَاكن فِيهَا وَلَا حَافظ لَهَا وَهِي معدة لقَضَاء الْحَاجة مظْلمَة الأرجاء مُنْتِنَة الرَّائِحَة قد عمّها الخراب وملأتها القاذورات فَلَا يأنس بهَا وَلَا ينزل فِيهَا إِلَّا من يُنَاسِبه سكناهَا من الحشرات والديدان والهوام الشَّيْطَان جَالس على سريرها وعَلى السرير بِسَاط من الْجَهْل وتخفق فِيهِ الْأَهْوَاء وَعم يَمِينه وشماله مرافق الشَّهَوَات وَقد فتح إِلَيْهِ بَاب من حقل الخذلان والوحشة والركون إِلَى الدُّنْيَا والطمأنينة بهَا والزهد فِي الْآخِرَة وأمطر من وابل الْجَهْل والهوى والشرك والبدع وَمَا أنبت فِيهِ أَصْنَاف الشوك والحنظل وَالْأَشْجَار المثمرة بأنواع الْمعاصِي والمخالفات من الزَّوَائِد والتنديبات والنوادر والهزليات والمضحكات والأشعار الغزليات والخمريات الَّتِي تهيج على ارْتِكَاب الْمُحرمَات وتزهد فِي الطَّاعَات وَجعل فِي وسط الحقل شَجَرَة الْجَهْل بِهِ والإعراض عَنهُ فَهِيَ تؤتي أكلهَا كل حِين من الفسوق والمعاصي وَاللَّهْو واللعب والمجون والذهاب مَعَ كل ريح واتّباع كل شَهْوَة وَمن ثَمَرهَا الْعُمُوم والغموم وَالْأَحْزَان والآلام وَلكنهَا متوارية بإشغال النَّفس بلهوها ولعبها فَإِذا أفاقت من سكرها أحضرت كل هم وغم وحزن وقلق ومعيشة ضنك وأجرى إِلَى تِلْكَ الشَّجَرَة مَا يسقيها من اتّباع الْهوى وَطول الأمل والغرور ثمَّ ترك ذَلِك الْبَيْت وظلماته وخراب حيطانه بِحَيْثُ لَا يمْنَع مِنْهُ مُفسد وَلَا حَيَوَان وَلَا مؤذ وَلَا قذر فسبحان خَالق هَذَا الْبَيْت وَذَلِكَ الْبَيْت فَمن عرف بَيته وَقدر السَّاكِن فِيهِ وقدّر مَا فِيهِ من الْكُنُوز والذخائر والآلات انْتفع بحياته وَنَفسه وَمن جهل ذَلِك جهل نَفسه وأضاع سعادته وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
سَأَلَ سهل التسترِي الرجل يَأْكُل فِي الْيَوْم أَكلَة قَالَ أكل الصديقين قيل لَهُ فأكلتين قَالَ أكل الْمُؤمنِينَ قيل لَهُ فَثَلَاث أكلات فَقَالَ قل لأَهله يبنوا