الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِتِلْكَ النِّعْمَة وسخطها وتبرّم بهَا واستحكم ملكه لَهَا سلبه الله إِيَّاهَا فَإِذا انْتقل إِلَى مَا طلبه وَرَأى التَّفَاوُت بَين مَا كَانَ فِيهِ وَمَا صَار إِلَيْهِ اشْتَدَّ قلقه وندمه وَطلب العودة إِلَى مَا كَانَ فِيهِ فَإِذا أَرَادَ الله بِعَبْدِهِ خيرا ورشدا أشهده أَن مَا هُوَ فِيهِ نعْمَة من نعمه عَلَيْهِ وَرضَاهُ بِهِ وأوزعه شكره عَلَيْهِ فَإِذا حدثته نَفسه بالانتقال عَنهُ استخار ربه استخارة جَاهِل بمصلحته عَاجز عَنْهَا مفوض إِلَى الله طَالب مِنْهُ حسن اخْتِيَاره لَهُ وَلَيْسَ على العَبْد أضرّ من ملله لنعم الله فَإِنَّهُ لَا يَرَاهَا نعْمَة وَلَا يشكره عَلَيْهَا وَلَا يفرح بهَا بل يسخطها ويشكوها ويعدّها مُصِيبَة هَذَا وَهِي من أعظم نعم الله عَلَيْهِ فَأكْثر النَّاس أَعدَاء نعم الله عَلَيْهِم وَلَا يَشْعُرُونَ بِفَتْح الله عَلَيْهِم نعمه وهم مجتهدون فِي دَفعهَا وردهَا جهلا وظلما فكم من سعت إِلَى أحدهم من نعْمَة وَهُوَ ساع فِي ردهَا بِجهْدِهِ وَكم وصلت إِلَيْهِ وَهُوَ ساع فِي دَفعهَا وزوالها بظلمه وجهله قَالَ تَعَالَى ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَقَالَ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ فَلَيْسَ للنعم أعدى من نفس العَبْد فَهُوَ مَعَ عدوه ظهير على نَفسه فعدوه يطْرَح النَّار فِي نعمه وَهُوَ ينْفخ فِيهَا فَهُوَ الَّذِي مكّنه من طرح النَّار ثمَّ أَعَانَهُ بالنفخ فَإِذا اشتدّ ضرامها اسْتَغَاثَ من الْحَرِيق وَكَانَ غَايَته معاتبة الأقدار
وعاجز الرَّأْي مضياع لفرصته
…
حَتَّى إِذا فَاتَ أَمر عَاتب القدرا
فصل وَمن أعز أَنْوَاع الْمعرفَة معرفَة الرب سُبْحَانَهُ بالجمال وَهِي معرفَة خَواص
الْخلق وَكلهمْ عرفه بِصفة من صِفَاته وأتمهم معرفَة من عرفه بِكَمَالِهِ وجلاله وجماله سُبْحَانَهُ لَيْسَ كمثله شَيْء فِي سَائِر صِفَاته وَلَو فرضت الْخلق كلهم على أجملهم صُورَة وَكلهمْ على تِلْكَ الصُّورَة ونسبت جمَالهمْ الظَّاهِر وَالْبَاطِن إِلَى جمال الرب سُبْحَانَهُ لَكَانَ أقل من نِسْبَة سراج ضَعِيف إِلَى قرص الشَّمْس وَيَكْفِي فِي جماله أَنه لَو كشف الْحجاب
عَن وَجهه لأحرقت سُبْحَانَهُ مَا انْتهى إِلَيْهِ بَصَره من خلقه وَيَكْفِي فِي جماله أَن كل جمال ظَاهر وباطن فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فَمن آثَار صَنعته فَمَا الظَّن بِمن صدر عَنهُ هَذَا الْجمال وَيَكْفِي فِي جماله أَنه لَهُ الْعِزَّة جَمِيعًا وَالْقُوَّة جَمِيعًا والجود كُله وَالْإِحْسَان كُله وَالْعلم كُله وَالْفضل كُله ولنور وَجهه أشرقت الظُّلُمَات كَمَا قَالَ النَّبِي فِي دُعَاء الطَّائِف أعوذ بِنور وَجهك الَّذِي أشرقت لَهُ الظُّلُمَات وَصلح عَلَيْهِ أَمر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَقَالَ عبد الله بن مَسْعُود لَيْسَ عِنْد ربكُم ليل وَلَا نَهَار نور السَّمَوَات وَالْأَرْض من نور وَجهه فَهُوَ سُبْحَانَهُ نور السَّمَوَات وَالْأَرْض وَيَوْم الْقِيَامَة إِذا جَاءَ لفصل الْقَضَاء وتشرق الأَرْض بنوره وَمن أَسْمَائِهِ الْحسنى الْجَمِيل وَفِي الصَّحِيح عَنهُ إِن الله جميل يحب الْجمال
وجماله سُبْحَانَهُ على أَربع مَرَاتِب جمال الذَّات وجمال الصِّفَات وجمال الْأَفْعَال وجمال الْأَسْمَاء فأسماؤه كلهَا حسنى وَصِفَاته كلهَا صِفَات كَمَال وأفعاله كلهَا حِكْمَة ومصلحة وَعدل وَرَحْمَة وَأما جمال الذَّات وَمَا هُوَ عَلَيْهِ فَأمر لَا يُدْرِكهُ سواهُ وَلَا يُعلمهُ غَيره وَلَيْسَ عِنْد المخلوقين مِنْهُ إِلَّا تعريفات تعرّف بهَا إِلَى من أكْرمه من عباده فَإِن ذَلِك الْجمال مصون عَن الأغيار مَحْجُوب بستر الرِّدَاء والإزار كَمَا قَالَ رَسُوله فِيمَا يحْكى عَنهُ الْكِبْرِيَاء رِدَائي وَالْعَظَمَة إزَارِي وَلما كَانَت الْكِبْرِيَاء أعظم وأوسع كَانَت أَحَق باسم الرِّدَاء فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ الْكَبِير المتعال فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْعلي الْعَظِيم قَالَ ابْن عَبَّاس حجب الذَّات بِالصِّفَاتِ وحجب الصِّفَات بالأفعال فَمَا ظَنك بِجَمَال حجب بأوصاف الْكَمَال وَستر بنعوت العظمة والجلال
وَمن هَذَا الْمَعْنى يفهم بعض مَعَاني جمال ذَاته فَإِن العَبْد يترقّى من معرفَة الْأَفْعَال إِلَى معرفَة الصِّفَات وَمن معرفَة الصِّفَات إِلَى معرفَة الذَّات فَإِذا شَاهد شَيْئا من جمال الْأَفْعَال اسْتدلَّ بِهِ على جمال الصِّفَات ثمَّ استبدل بِجَمَال الصِّفَات على جمال الذَّات وَمن هَهُنَا يتَبَيَّن أَنه سُبْحَانَهُ لَهُ الْحَمد كُله وَأَن أحدا من خلقه لَا يحصي ثَنَاء
عَلَيْهِ بل هُوَ كَمَا أثنى على نَفسه وَأَنه يسْتَحق أَن يعبد لذاته وَيُحب لذاته ويشكر لذاته وَأَنه سُبْحَانَهُ يحب نَفسه ويثني على نَفسه ويحمد نَفسه وَأَن محبته لنَفسِهِ وحمده لنَفسِهِ وثناءه وعَلى نَفسه وتوحيده لنَفسِهِ هُوَ فِي الْحَقِيقَة الْحَمد وَالثنَاء وَالْحب والتوحيد فَهُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا أثنى على نَفسه وَفَوق مَا يثني بِهِ عَلَيْهِ خلقه وَهُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا يحب كَمَا يحب ذَاته يحب صِفَاته وأفعاله فَكل أَفعاله حسن مَحْبُوب وَإِن كَانَ فِي مفعولاته مَا يبغضه ويكرهه فَلَيْسَ فِي أَفعاله مَا هُوَ مَكْرُوه مسخوط وَلَيْسَ فِي الْوُجُود مَا يحب لذاته ويحمد لذاته إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ وكل مَا يحب سواهُ فَإِن كَانَت محبته نابعة لمحبته سُبْحَانَهُ بِحَيْثُ يحب لأَجله فمحبته صَحِيحَة وَإِلَّا فَهِيَ محبَّة بَاطِلَة وَهَذَا هُوَ حَقِيقَة الإلهية فَإِن الْإِلَه الْحق هُوَ الَّذِي يحب لذاته ويحمد لذاته فَكيف إِذا انضاف إِلَى ذَلِك إحسانه وإنعامه وحلمه وتجاوزه وعفوه وبرّه وَرَحمته فعلى العَبْد أَن يعلم أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله فَيُحِبهُ وَيَحْمَدهُ لذاته وكماله وَأَن يعلم أَنه لَا محسن على الْحَقِيقَة بأصناف النعم الظَّاهِرَة والباطنة إِلَّا هُوَ فَيُحِبهُ لإحسانه وإنعامه وَيَحْمَدهُ على ذَلِك فَيُحِبهُ من الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا وكما أَنه لَيْسَ كمثله شَيْء فَلَيْسَ كمحبته محبَّة والمحبة مَعَ الخضوع هِيَ الْعُبُودِيَّة الَّتِي خلق الْخلق لأَجلهَا فَإِنَّهَا غَايَة الْحبّ بغاية الذل وَلَا يصلح ذَلِك إِلَّا لَهُ سُبْحَانَهُ والإشراك بِهِ فِي هَذَا هُوَ الشّرك الَّذِي لَا يغفره الله وَلَا يقبل لصَاحبه عملا
وحمده يتَضَمَّن أصلين الْإِخْبَار بمحامده وصفات كَمَاله والمحبة لَهُ عَلَيْهَا فَمن أخبر بمحاسن غَيره من غير محبَّة لَهُ لم يكن حامدا وَمن أحبّه من غير إِخْبَار بمحاسنه لم يكن حامدا حَتَّى يجمع الْأَمريْنِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يحمد نَفسه بِنَفسِهِ ويحمد نَفسه بِمَا يجريه على أَلْسِنَة الحامدين لَهُ من مَلَائكَته وأنبيائه وَرُسُله وعباده الْمُؤمنِينَ فَهُوَ الحامد لنَفسِهِ بِهَذَا وَهَذَا فَإِن حمدهم لَهُ بمشيئته وإذنه وتكوينه فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي جعل الحامد حامدا وَالْمُسلم مُسلما وَالْمُصَلي مُصَليا والتائب تَائِبًا فَمِنْهُ ابتدأت النعم واليه انْتَهَت فابتدأت بِحَمْدِهِ وانتهت إِلَى حَمده وَهُوَ الَّذِي ألهم عَبده التَّوْبَة وَفَرح