الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإنْ قالَ قائلٌ: فقدْ جاءَ الحديثُ بلفظِ: «ارحَمُوا أهلَ الأرضِ يرحَمْكُم أهلُ السَّماءِ» (1).
والجوابُ أنْ يقالَ: الروايةُ الأولى أولى بالصَّوابِ كمَا قالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ في «الإمتاعِ» (ص66). وقالَ في معنى الحديثِ:
إنَّ مَنْ يرحَمْ مَنْ في الأرضِ قد
…
آنَ أنْ يرحمَهُ مَنْ في السَّمَا
فارحَمِ الخَلْقَ جميعًا إنَّما
…
يَرْحَمُ الرَّحْمَنُ فينا الرُّحَمَا
العاشرُ:
شهادَتُهُ صلى الله عليه وسلم التي هيَ أصدقُ شهادةٍ عند اللهِ وملائكتِهِ وجميعِ المؤمنينَ لمنْ قالَ: «إنَّ ربَّهُ في السَّماءِ» بالإيمانِ
، وشهدَ عليهِ أفراخُ جهمٍ بالكفرِ.
وصرَّحَ الشَّافعيُّ بأنَّ هذا الذي وصفتهُ منْ أنَّ ربَّهَا في السَّماءِ إيمانٌ، فقالَ في كتابهِ (2) في «بابِ عتقِ الرقبةِ المؤمنةِ» ، وذكرَ حديثَ الأمةِ السَّوداءِ التي سوَّدتْ وجوهَ الجهميَّةِ، وبيَّضتْ وجوهَ المحمَّديَّةِ، فلمَّا وصفتِ الإيمانَ قالَ:«أَعْتِقْهَا فإنَّهَا مُؤمِنَةٌ» ، وهي إنَّمَا وصفتْ كونَ ربِّهَا في السَّماءِ، وأنَّ محمَّدًا عبدهُ ورسولهُ، فَقَرَنَتْ بينهما في الذِّكرِ، فجعلَ الصَّادقُ المصدوقُ مجموعَهُما هو الإيمانُ (3).
قالَ شيخُ الاسلامِ الصَّابونيُّ رحمه الله: وإنَّما احتجَّ الشَّافعيُّ - رحمةُ الله عليهِ - على المخالفينَ
…
بهذا الخبرِ لاعتقادهِ أنَّ اللهَ سبحانهُ فوقَ خلقهِ وفوقَ سبعِ سمواتهِ على عرشهِ كمَا هوَ معتقدُ المسلمينَ أَهلِ السنَّةِ والجماعةِ سلفِهِم وخَلَفِهِم، إذْ كانَ رحمه الله لا يروي خبرًا صحيحًا لا يقولُ بهِ (4).
(1) رواه أحمد في «المسند» (2/ 160)(6494) - بترقيم أحمد شاكر وقال: إسناده صحيح. راجع: «السلسلة الصحيحة» (925).
(2)
الأم (5/ 298).
(3)
إعلام الموقعين (2/ 316).
(4)
عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص43).
وقال الحافظُ إسماعيلُ بنُ محمدٍ التيميُّ رحمه الله: فحكمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بإيمانها حينَ قالتْ: إنَّ اللهَ في السماءِ، وتحكمُ الجهميَّةُ بكفرِ منْ يقولُ ذلكَ (1).
وقالَ ابنُ القيِّم رحمه الله:
وَاذْكُرْ شَهَادَتَهُ لِمَنْ قَدْ قَالَ رَبـ
…
ـي فِي السّمَا بحَقِيقَةِ الإيمَانِ
وَشَهَادَةَ العَدْلِ المعَطِّل للذِي
…
قَدْ قَالَ ذَا بِحَقِيقَةِ الكُفْرَانِ
وَاحْكُمْ بأيِّهِمَا تَشَاءُ وإنَّنِي
…
لأَراكَ تَقْبَلُ شَاهِدَ البُطْلَانِ
إنْ كُنْتَ مِنْ أتْبَاعِ جَهْمٍ صَاحِب التَّـ
…
ـعْطِيلِ والبُهْتَانِ وَالعُدْوَانِ (2)
(1) الحجة في بيان المحجة (2/ 115).
(2)
الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية (ص143).
الحادي عَشَرَ:
التَّصريحُ بالاستواءِ مقرونًا بأداة «على» مختصًّا بالعرشِ - الذي هو أعلى المخلوقاتِ وأنْزَهِهَا وأطْهَرِهَا وأنْوَرِهَا وأشْرَفِهَا ذاتًا وقَدْرًا وأوسَعِهَا - مصاحبًا في الأكثرِ لأداةِ «ثمَّ» الدَّالَّةِ على الترتيبِ والمهلةِ.
قالَ سبحانه وتعالى ومَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حديثًا؟ -: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة: 4](1).
وقالَ سبحانه وتعالى في وصفِ كتابهِ العزيزِ: {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّماواتِ العُلَى * الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 4 - 5].
(1) قال ابنُ القيِّم رحمه الله في «مدارج السالكين» (1/ 42 - 43): «الرحمنُ: الذي الرحمةُ وصفُه. والرحيمُ: الراحمُ لعباده. ولهذا يقولُ تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43] {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117]، ولم يجىء رحمنٌ بعباده، ولا رحمنٌ بالمؤمنين، مع ما في اسم «الرحمن» الذي هو على وزن فَعْلَان من سعة هذا الوصف، وثبوت جميع معناه الموصوف به. ألا ترى أنَّهم يقولون: غضبان، للممتلئ غضبًا، ونَدْمَان وحَيْران وسَكْران ولَهْفان لمن مُلىء بذلك، فبناء فعلان للسعة والشمول. ولهذا يقرن استواؤه على العرش بهذا الاسم كثيرًا فاستوى على عرشه باسم الرحمن، لأنَّ العرش محيط بالمخلوقات، وقد وسعها. والرحمة محيطة بالخلق واسعة لهم، كما قال تعالى:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، فاستوى على أوسع المخلوقات بأوسع الصفات. فلذلك وسعت رحمته كلَّ شيء. وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا قضَى اللهُ الخلقَ كتبَ في كتابٍ، فهو عنده موضوعٌ على العرشِ. إنّ رحمَتِي تَغْلِبُ غَضِبي» .
فتأمَّلِ اختصاصَ هذا الكتابِ بذكرِ الرحمةِ، ووَضْعَهُ عنده على العرشِ، وطابِقْ بين ذلك وبين قوله:{الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]، وقوله:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَانُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59]، يَنْفَتِحْ لك بابٌ عظيمٌ من معرفةِ الربِّ تبارك وتعالى».
وقدْ فسَّرَ الطبريُّ رحمه الله الاستواءَ: بالعلوِّ والارتفاعِ (1).
وقالَ مجاهدٌ رحمه الله: «استوى: عَلَا على العرشِ» (2).
وقالَ سفيانُ الثوريُّ: كنتُ عندَ ربيعةَ بنِ أبي عبد الرحمن فسألهُ رجلٌ فقالَ: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]، كيفَ استوى؟ فقالَ:«الاستواءُ غيرُ مجهولٍ، الكيفُ غيرُ معقولٍ، ومِنَ الله الرسالةُ، وعلى الرسولِ البلاغُ، وعلينا التَّصديقُ» (3).
وقالَ رجلٌ للإمامِ مالكٍ: يا أبا عبدِ الله: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]، كيفَ استوى؟ قالَ:«الكيفُ غيرُ معقولٍ، الاستواءُ منهُ غيرُ مجهولٍ، والإيمانُ بهِ واجبٌ، والسؤالُ عنهُ بدعةٌ، وإنِّي أخافُ أنْ تكونَ ضَالًّا، وأمرَ بهِ فأُخرج» (4).
(1) انظر: جامع البيان (1/ 191).
(2)
أخرجه البخاري (13/ 414) معلَّقًا، وصحح إسناده ابن حجر في «تغليق التعليق» (5/ 3455).
(3)
أخرجه الذهبي في «العلو» (ص911)، وصححه.
(4)
أخرجه الذهبي في «العلو» (ص954) وقال: «هذا ثابتٌ عن مالك» .
(5)
العلو (ص954).
وقالَ بِشْر بنُ عمر رحمه الله (207هـ): «سمعتُ غيرَ واحدٍ منَ المفسِّرينَ يقولونَ: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]، على العرشِ ارتفع» (1).
وقالَ يزيدُ بنُ هارون رحمه الله (206هـ) وقيلَ لهُ: مَنِ الجهميَّةُ؟ قالَ: «منْ زعمَ أنَّ {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5] على خلافِ ما يَقِرُ في قلوبِ العامَّةِ فهوَ جهميٌّ» (2).
(1) أخرجه الذهبي في العلو (ص1011)، وقال الألباني في «مختصر العلو» (ص160):«وهذا إسناد صحيح مسلسل بالثقات الحفاظ» .
(2)
أخرجه أبو داود في «المسائل» (ص268) بسند جيد.
(3)
العلو (2/ 1031).
وقالَ إمامُ الأئمَّةِ ابن خزيمة رحمه الله (311هـ): «فنحنُ نؤمنُ بخبرِ الله جلَّ وعلا أنَّ خالقَنا مستوٍ على عرشهِ، لا نبدِّلُ كلامَ الله ولا نقولُ قولًا غيرَ الذي قيلَ لنا، كمَا قالتِ المعطِّلةُ والجهميَّةُ: إنَّهُ استولى على عرشهِ لا استوى، فبدَّلوا قولًا غيرَ الذي قيلَ لهم كفعلِ اليهودِ لمَّا أمِرُوا أنْ يقولوا: حِطَّةٌ، فقالوا: حِنْطَةٌ، مخالفينَ لأمرِ الله جلَّ وعلا، كذلكَ الجهميَّة» (1).
وقالَ العلَّامةُ الشنقيطيُّ رحمه الله: «وقدْ أشارَ تعالى في سورةِ الفرقانِ أنَّ وصفَ الله بالاستواءِ صادرٌ عنْ خبيرٍ بالله وبصفاتهِ، عالمٌ بما يليقُ بهِ، وبما لا يليقُ وذلكَ في قولهِ تعالى:{الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَانُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا *} [الفرقان: 59].
فتأمَّلْ قولَهُ: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59]، بعدَ قولهِ:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَانُ} [الفرقان: 59]، تعلم أنَّ منْ وصفَ الرحمنَ بالاستواءِ على العرشِ خبيرٌ بالرحمنِ وبصفاتهِ لا يخفى عليهِ اللائقُ مِنَ الصِّفاتِ وغيرِ اللائقِ. فالذي نبَّأنا بأنَّهُ استوى على عرشهِ هو العليمُ الخبيرُ الذي هو الرحمنُ، وقدْ قالَ تعالى:{وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14].
وبذلكَ تعلم أنَّ منْ يدَّعي أنَّ الاستواءَ يستلزمُ التَّشبيهَ، وأنَّهُ غيرُ لائقٍ غيرُ خبيرٍ، نعمْ واللهِ هوَ غيرُ خبيرٍ» (2).
(1) كتاب التوحيد (ص101)، طبعة دار الكتب العلمية - بيروت.
(2)
أضواء البيان (7/ 468).