الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثمَّ ذكرَ الألوسيُّ عدةَ نصوصٍ لأئمَّةِ الإسلامِ على إقرارِ الصِّفاتِ لله تعالى ولا سيَّما صفةُ العلوِّ لهُ تعالى، وقالَ:«وأئمَّةُ السَّلفِ لم يذهبوا إلى غيرهِ تعالى» .
أقولُ: يعني الألوسيُّ: أنَّ معنى الآية عندَ السَّلفِ أأمنتم الله الذي في السَّماءِ أي في العلوِّ، بأنَّ المرادَ منْ قولهِ «من» هو اللهُ تعالى لا غيرُ.
ثمَّ قالَ الألوسيُّ أيضًا: «وحديثُ الجاريةِ منْ أقوى الأدلَّةِ لهم في هذا البابِ، وتأويلهُ بما أوَّلَ بهِ الخلفُ خروجٌ عن دائرةِ الإنصافِ عندَ أولي الألبابِ» (2).
وهذا كلامٌ في غايةِ الإنصافِ لمنْ فهمهُ (3).
الشُّبْهَةُ الحَادِيَةُ عَشْرَةَ
لوْ كانَ تعالى فوقَ العرشِ لما صحَّ القولُ بأنَّهُ تعالى قريبٌ منْ عبادهِ
.
والجوابُ على هذهِ الشُّبهةِ أنْ يقالَ:
ليسَ فِي القرآنِ وصفُ الرَّبِّ بالقربِ منْ كلِّ شيءٍ أصلًا؛ بلْ قربهُ الّذي فِي القرآنِ خاصٌّ لا عامٌّ، كقولهِ تَعَالَى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، فهوَ سُبْحَانهُ قريبٌ ممَّنْ دعاهُ.
وهذا القربُ من الدَّاعي هوَ قربٌ خاصٌّ، لَيْسَ قربًا عامًّا منْ كلِّ أحدٍ؛ فهوَ قريبٌ منْ داعيهِ وقريبٌ منْ عابدهِ.
(1) روح المعاني (29/ 15).
(2)
التنبيهات السنية (ص108 - 111).
(3)
بيان تلبيس الجهمية (2/ 75).
عنْ أبي موسى الأشْعري رضي الله عنه قالَ: كنَّا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فارتفعت أصْواتنا بالتكبيرِ فقالَ: «أيُّها الناسُ ارْبَعُوا على أنْفُسِكم! إنكمْ ليسَ تدْعُونَ أصمَّ ولا غائبًا إنَّكم تدْعون سميعًا قريبًا وهو معكم أقْربُ إلى أحَدِكُم من عُنُقِ رَاحِلَتِهِ» (1).
وذلكَ لأنَّ الله سبحانهُ قريبٌ منْ قلبِ الدَّاعي فهوَ أقربُ إليهِ منْ عنقِ راحلتهِ. فالمعنى يكونُ بتقريبهِ قلبِ الدَّاعي إليهِ، كما يقربُ إليهِ قلبُ السَّاجدِ؛ كما ثبتَ في «الصَّحيحِ»:«أَقْرَبُ ما يَكُونُ العَبْدُ من رَبِّهِ وهو سَاجِدٌ» (2).
فالساجدُ إذا سجدَ يتقربُ قلبهُ وروحهُ إلى اللهِ تعالى، والسجودُ هو نهايةُ خضوعِ العبدِ وتواضعهُ، والعبد كلما تواضع رفعهُ الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله» (3).
فالمتواضُع للهِ: الَّذِي ذلَّ واستكان للهِ تعالى لا لخلقه يكون قلبه قريبًا من الله، فيرفعه اللهُ بذلكَ، فهو في الظاهرِ هابطٌ نازلٌ، وفي الباطن - وهوَ فِي الحَقِيقَةِ - صاعِدٌ عالٍ (4) كَما قَالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا مِن آدَمِيٍّ إِلَّا فِي رَأسِهِ حَكَمَةٌ (5) بِيَدِ مَلَكٍ، فَإِذَا تَوَاضَعَ قِيلَ لِلمَلَكِ: ارفَع حَكَمَتَهُ، وَإِذَا تَكَبَّرَ قِيلَ لِلمَلَكِ: ضَع حَكَمَتَهُ» (6).
(1) رواه البخاري (2992 و4202 و6384 و6409 و6610 و7386)، ومسلم (2704).
(2)
رواه مسلم (482).
(3)
قطعة من حديث رواه مسلم (2588).
(4)
بيان تلبس الجهمية (6/ 67 - 68) طبعة مجمع الملك فهد.
(5)
الحَكَمَةُ: ما أحاط بحنكي الفرس من لجامه، وفيها العِذاران؛ وهما من الفرس كالعارضين من وجه الإنسان.
(6)
رواه الطبراني (12939)، وحسنه لغيره الألباني? في صحيح الترغيب والترهيب (2895).
فالسَّاجدُ يقربُ الرَّبُّ إليه فيدنو قلبهُ منْ ربِّهِ، وإنْ كانَ بدنهُ على الأرضِ. ومتى قربَ أحدُ الشيئينِ منَ الآخرِ صارَ الآخرُ إليهِ قريبًا بالضَّرورةِ. وإنْ قدِّرَ أنَّهُ لمْ يصدرْ منَ الآخرِ تحرُّكٌ بذاتهِ، كما أنَّ منْ قرُبَ منْ مكةَ قربتْ مكةُ منهُ.
وقَالَ صلى الله عليه وسلم فيما يروي عنْ ربِّهِ عز وجل: «مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» (1).
فكلَّما تقرَّبَ العبدُ باختيارهِ قدرَ شبرٍ زادهُ الرَّبُّ قربًا إليهِ حتَّى يكون كالمتقرِّبِ بذراعٍ. فكذلكَ قربُ الرَّبِّ منْ قلبِ العابدِ، وهو ما يحصلُ في قلبِ العبدِ منْ معرفةِ الرَّبِّ والإيمانِ بهِ، وهوَ المثلُ الأعلى؛ وذلكَ أنَّ العبدَ يصيُر محبًّا لما أحبَّ الرَّبُّ، مبغضًا لما أبغضَ، مواليًا لمنْ يوالي؛ معاديًا لمنْ يعادي؛ فيتحدُ مرادهُ معَ المرادِ المأمورِ بهِ الذي يحبُّهُ الله ويرضاهُ (2).
وقالَ صلى الله عليه وسلم: «أقربُ مَا يكونُ الرَّبُّ من العبدِ فِي جوفِ الليلِ الآخِرِ، فَإِنِ استطَعْتَ أن تكونَ ممن يذكُرُ اللهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ» (3).
وليسَ هذا القربُ كقربِ الخلقِ المعْهودِ منهم، كما ظنَّهُ منْ ظنَّهُ مِنْ أهلِ الضَّلالِ؛ وإنَّما هوَ قربٌ ليسَ يشبهُ قربَ المخْلوقينَ، كما أنَّ الموصوفَ بهِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] (4)؛ بَلِ الرَّبُّ تعالى فوقَ سمواتهِ على عرشهِ، والعبدُ في الأرضِ (5).
(1) رواه مسلم (2687).
(2)
مجموع الفتاوى (5/ 503 - 513).
(3)
رواه النسائي (572)، وصححه الألباني في «صحيح سنن النسائي» (557).
(4)
فتح الباري (3/ 116 - 117)، لابن رجب الحنبلي.
(5)
مدارج السالكين (3/ 272)[دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الثانية].
وقال سبحانه وتعالى: {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61]، وقال عز وجل:{وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ *} [هود: 90].
ومعلومٌ أنَّ قولَهُ سبحانه وتعالى: {قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61] مقرونٌ بالتوبةِ والاستغفارِ، أرادَ بِهِ قريبٌ مجيبٌ لاستغفارِ المستغفرينَ التائبينَ إليهِ، كَمَا أنَّه رحيمٌ ودودٌ بهم، وقدْ قرنَ القريبُ بالمجيبِ. ومعلومٌ أنَّهُ لا يقالُ إنَّهُ مجيبٌ لكلِّ موجودٍ، وإنَّما الإجابةُ لمنْ سألهُ ودعاهُ، فكذلكَ قربهُ سبحانه وتعالى.
وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].
فذكَّر الخبرَ وهوَ «قريبٌ» عن لفظِ «الرَّحمةِ» وهيَ مؤنثةٌ، إيذانًا بقربهِ تَعَالَى مِنَ المحسنينَ؛ فكأنَّهُ قَالَ: إنَّ الله برحمتهِ قريبٌ مِنَ المحسنينَ.
ويوضِّحُ ذَلِكَ: أنَّ الرَّحمةَ لمَّا كانتْ صفةً منْ صفاتِ الله تَعَالَى، وصفاتهُ قائمةٌ بذاتهِ؛ فإذا كانتْ قريبةً مِنَ المحسنينَ، فهوَ قريبٌ سُبْحَانهُ منهم قطعًا.
فالرَّبُّ تبارك وتعالى قريبٌ مِنَ المحسنينَ ورحمتهُ قريبةٌ منهمْ وقربهُ يستلزمُ قربَ رحمتهِ. ففي حذفِ التَّاءِ هاهنا تنبيهٌ عَلَى هذهِ الفائدةِ العظيمةِ الجليلةِ وإنَّ الله تَعَالَى قريبٌ مِنَ المحسنينَ وذلكَ يستلزمُ القربينِ قربهُ وقربَ رحمتهِ. ولو قَالَ: إنَّ رحمةَ الله قريبةٌ مِنَ المحسنينَ، لم يدلَّ عَلَى قربهِ تَعَالَى منهم.
وإنْ شئتَ قلتَ: قربهُ تبارك وتعالى مِنَ المحسنينَ، وقربُ رحمتهِ منهم متلازمانِ لا ينفكُّ أحدهما عَنِ الآخرِ؛ فإذا كانتْ رحمتهُ قريبةً منهم، فهوَ أيضًا قريبٌ منهم، وإذا كان المعنيانِ متلازمينِ صحَّ إرادةُ كلِّ واحدٍ منهما.
فكانَ فِي بيانِ قربهِ سبحانه وتعالى مِنَ المحسنينَ مِنَ التَّحريضِ عَلَى الإحسانِ واستدعائهِ مِنَ النُّفوسِ وترغيبها فيه، غايةُ حظٍّ لها، وأشرفهُ، وأجلُّهُ عَلَى الإطلاقِ. وهو أفضلُ إعطاءٍ أعطيهُ العبدُ، وهو قربهُ تبارك وتعالى منْ عبدهِ. الّذي هو غايةُ الأماني، ونهايةُ الآمالِ، وقرَّةُ العيونِ، وحياةُ القلوبِ وسعادةُ العبدِ كلُّها.
فكانَ فِي العدولِ عنْ قريبةٍ إِلَى قريبٍ من استدعاءِ الإحسانِ وترغيبِ النُّفوسِ فيهِ، مَا لا يتخلَّفُ بعدَهُ إلَّا منْ غلبتْ عَلَيهِ شقاوتهُ. وَلَا قوَّةَ إلَّا بالله.
فتبيَّنَ منْ هَذَا: أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى قريبٌ مِنَ المحسنينَ بذاتهِ ورحمتهِ قربًا لَيْسَ لهُ نظيرٌ وهوَ مَعَ ذَلِكَ فوقَ سماواتهِ عَلَى عرشهِ كَمَا أنَّهُ سُبْحَانهُ يقربُ منْ عبادهِ فِي آخرِ الليلِ وهوَ فوقَ عرشهِ ويدنو منْ أهلِ عرفةَ عشيّةَ عرفةَ وهوَ عَلَى عرشهِ؛ فإنَّ علوَّهُ سُبْحَانهُ عَلَى سماواتِهِ مِنْ لوازمِ ذاتهِ فلا يكونُ قطُّ إلَّا عاليًا، وَلَا يكونُ فوقهُ شيءٌ البتّةَ كَمَا قَالَ أعلمُ الخلقِ:«وأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ» (1).
الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ عَشْرَةَ
قال عبدُ القاهر البغداديُّ: قال عليٌّ: كانَ اللهُ ولا مكانَ، وهوَ الآنَ على ما عليهِ كانَ (2).
(1) انظر: مجموع الفتاوى (5/ 493)، وبدائع الفوائد (3/ 17 - 32)، ومختصر الصواعق (2/ 268 - 271). والجملة المذكورة قطعة من حديث: رواه مسلم (2713).
(2)
الفرق بين الفرق (ص321)[طبعة دار الآفاق الجديدة - بيروت، الطبعة الثانية].
والكلامُ المذكورُ كذبٌ مفترًى على عليٍّ رضي الله عنه، وقد اتَّفقَ أهلُ العلمِ بالحديثِ أنَّهُ موضوعٌ مختلقٌ مفترى، وليسَ هو في شيءٍ منْ دواوينِ الحديثِ لا كبارهَا ولا صغارهَا، ولا رواهُ أحدٌ منْ أهلِ العلمِ بإسنادٍ صحيحٍ ولا ضعيفٍ، ولا بإسنادٍ مجهولٍ، وإنَّما تكلَّمَ بهذهِ الكلمةِ متأخرو الجهميَّةِ، فتلقَّاهُ مِنْ هؤلاءِ الذينَ وصلوا إلى آخرِ التجهُّمِ، وهوَ التَّعطيلُ والإلحادُ
…
وهذهِ المقولةُ قصدَ بها المتكلِّمةُ الجهميَّةُ نفيَ الصِّفاتِ التي وصفَ بهَا نفسهُ منْ استواءهِ على العرشِ وغيرِ ذلكَ
…
وهمْ دائمًا يهذونَ بهذهِ الكلمةِ في مجالسهمْ، وهي أجلُّ عندهمْ منْ قولهِ تعالى:{الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5] ومنْ حديثِ الجاريةِ.
الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ عَشْرَةَ
سبحانَ الله!! كيفَ قوبلَ هذَا الكلامُ بأعظمِ القبولِ، وقدِّمَ على الآياتِ القرآنيةِ والأحاديثِ النبويةِ الدَّالةِ على علوِّ الله على العرشِ. فليسَ الدينُ بكثرةِ الكلامِ ولكنْ بالهدى والسدادِ.
والكلامُ على الأثرِ المذكورِ منْ وجهينِ:
الأوَّلُ:
هذَا الكلامُ وأشباهُه ممَّا اتَّفَقَ أهلُ المعرفةِ على أنَّهُ مكذوبٌ عنْ جعفرٍ، والكذبُ على جعفر كثيرٌ منتشرٌ. والذي نقلهُ العلماءُ الثقاتُ عنهُ معروفٌ، يخالفُ روايةَ المفترينَ عليهِ (2).
الثاني:
(1) الرسالة القشيرية (1/ 40 - 41).
(2)
الاستقامة (1/ 191).
أنَّ المعاني المذكورةَ فيهِ صحيحةٌ إلَّا قولهُ «أو على شيءٍ» ففيهِ مصادمةٌ لقولهِ تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5] فإنَّ استواءَ الرَّبِّ سبحانه بغيرِ كيفيَّةٍ كما قالَ الإمامُ مالكٍ وغيرهُ. وجلَّ الله سبحانهُ أنْ يكونَ محمولًا أو محصورًا؛ بلْ جميعُ الخلقِ محمولونَ بقدرتهِ محصورونَ في قبضتهِ. تعالى الله عمَّا يقولُ المعطِّلة والمشبِّهةُ علوًّا كبيرًا (1).
الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ عَشْرَةَ
قال الزرقانيُّ: إذا كنتم تأخذونَ بظواهرِ النُّصوصِ على حقيقتها، فماذا تفعلونَ بمثلِ قوله تعالى:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]، مَعَ قولهِ تعالى:{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام: 3]؟ أتقولونَ: إنَّهُ في السَّماءِ حقيقةً؟ أم في الأرضِ حقيقةً؟ أمْ فيهما معًا حقيقةً؟ وإذا كانَ في الأرضِ وحدهَا حقيقةً فكيفَ تكونُ لهُ جهةُ فوق ولا يقالُ: لهُ جهةُ تحت؟ ولماذا يشارُ إليهِ فوق ولا يشارُ إليهِ تحت؟ (2).
إنَّ هذا الكلامَ أشبهُ بكلامِ أهلِ الجهلِ والضَّلالِ، ومنْ لا يدري ما يخرجُ منهُ منَ المقالِ، منْ كلامِ أهلِ العقلِ والعلمِ والبيانِ، وهوَ أشبهُ بكلامِ جهَّالِ القصَّاصِ والمغالطينَ، منْ كلامِ العلماءِ المجادلينَ بالحقِّ (3).
(1) تنبيه النبيه والغبي في الرد على المدارسي والحلبي (ص28 - 29).
(2)
مناهل العرفان (2/ 316)، طبعة دار الكتب العلمية - الأولى.
(3)
بيان تلبيس الجهمية (1/ 369 - 370).
فهوَ يحاولُ إثباتَ التناقضِ في آياتِ القرآنِ ليدعمَ بتعطيلهِ وإنكارهِ لصفَّةِ علوِّ الله تعالى، وإلَّا فالجوابُ واضحٌ، ولا تناقضٌ ولا اضطرابٌ في كلامِ الله تعالى، لأننا نقولُ: إنَّهُ لا شكَّ: أنَّ الله تعالى في السماء، أي على السماء، ولا نقول: إنَّه في الأرض. كما لا نقول: إنَّهُ فيهما. ولا نقول أيضًا: إنَّه يشارُ إليهِ إلى التحتِ. كما لا نقولُ: إنَّهُ يشارُ إليهِ إلى التحتِ والفوق جميعًا. بل نقولُ: إنَّهُ فوقَ العالمِ عالٍ على خلقهِ، ويشارُ إليهِ إلى جهةِ الفوقِ سبحانه وتعالى.
ولا يناقضُ ذلكَ قولهُ تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام: 3](1). فإنَّ معنى الآيةِ كما قالَ الإمامُ أحمدُ رحمه الله: هوَ إلهُ منْ في السّماواتِ وإلهُ منْ في الأرضِ، وهو على العرشِ وقدْ أحاطَ علمهُ بما دونَ العرشِ، ولا يخلو منْ علمِ الله مكانٌ. ولا يكونُ علمُ الله في مكانٍ دونَ مكانٍ، فذلكَ قولهُ:{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12](2).
قالَ الآجُرِيُّ رحمه الله: ومما يُلبِّسونَ بهِ على منْ لا علمَ معهُ احتجوا بقولهِ عز وجل: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام: 3] وبقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84].
وهذا كلُّهُ إنَّما يطلبونَ بهِ الفتنةَ، كمَا قالَ الله تعالى:{فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7].
(1) التنبيهات السنية (ص200 - 201).
(2)
الرد على الجهمية (ص39)[المطبعة السلفية - القاهرة، الطبعة الأولى].
وعندَ أهلِ العلمِ منْ أهلِ الحقِّ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ *} [الأنعام: 3] فهوَ كما قالَ أهلُ العلمِ ممَّا جاءتْ بهِ السُّننُ: إنَّ الله عز وجل على عرشهِ، وعلمهُ محيطٌ بجميعِ خلقهِ، يعلمُ ما تسرُّونَ وما تعلنونَ، يعلمُ الجهرَ منَ القولِ ويعلمُ ما تكتمونَ.
وقولهُ عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] فمعناه: أنَّه جلَّ ذكرهُ إلهُ منْ في السَّمواتِ، وإلهُ منْ في الأرضِ، إلهٌ يعبدُ في السَّموات، وإلهٌ يعبدُ في الأرضِ، هكذا فسَّرهُ العلماءُ (1).
الشُبْهَةُ الخَامِسَةُ عَشْرَةَ
قالَ صاحبُ كتابِ حسن المُحَاجَجَة (2): إذا كانَ الله تعالى - عندكم - فوقَ العالمِ بائنًا منهُ خارجًا منهُ فهوَ - إذًا - إمَّا أنْ يكونَ مماسًّا للعالمِ أو منفصلًا عنهُ، فإنْ قلتم: إنَّهُ مماسُّ للعالمِ فأنتم مبتدعةٌ مجسمةٌ. وإنْ قلتم: إنَّهُ منفصلٌ عَنِ العالمِ - فيقالُ - إذن - توجدُ المسافةُ بيَن العالمِ وبيَن الله تعالى فهذهِ المسافةُ إنْ كانتْ عدميَّةً فصارَ الله مماسًّا بالعالمِ، وإنْ كانتْ وجوديَّةً فهي جزءٌ مِنَ العالمِ، فيلزم أنَّ الله منفصلٌ عَنِ العالمِ بجزءٍ مِنَ العالم.
والجوابُ أنْ يقالَ:
إنَّ السَّلفَ قالوا: إنَّ اللهَ تعالى فَوْقَ العالَمِ بائنٌ عنهُ وهذا القدرُ كافٍ في العقيدةِ، ولم يخوضوا في المسافةِ، هلْ بينَ الله وبيَن العالمِ مسافةٌ أمْ لا، وكمْ مقدارُ هذهِ المسافةِ وهلْ تلكَ المسافةُ جزءٌ منَ العالمِ أمْ لا؟ وذلكَ لوجهينِ:
الأولُ:
خشيةَ الدخولِ في الكيفِ.
والثاني:
خشيةَ الدخولِ في دائرةِ الغيبِ بدونِ خبرٍ منَ الله تعالى.
(1) الشريعة (ص1072 - 1105)، تحقيق: الدكتور عبد الله بن عمر بن سليمان الدميجي.
(2)
(ص14).
فالواجبُ على المسلمِ أنْ يعتقدَ أنَّ الله تعالى فوقَ العرشِ وقاهرٌ فوقَ عبادهِ عالٍ على الكونِ بائنٌ عنْ خلقهِ، ولا يدخلُ في الكيفِ.
وإننا نعلمُ بالاضطرارِ منْ دينِ الإسلامِ: أنَّ الموجودَ موجودانِ: خالقٌ ومخلوقٌ.
فالله تعالى بذاتهِ وصفاتهِ خالقٌ، وما سواهٌ عالمٌ - وهوَ الكونُ - وهوَ مخلوقٌ والله تعالى فوقَ الكونِ بائنٌ عنْ خلقهِ. فليسَ وراءَ هذا الكونِ شيءٌ موجودٌ غير الله تعالى لا المسافةُ ولا غيرهَا.
فالذي يُنْكِرُ علوَّ الله تعالى على خلقهِ بشبهةِ المسافةِ. فهُوَ المُشَبِّهُ في الحَقِيقَةِ أَوَّلًا؛ لأنَّهُ قدْ شبَّهَ فوقيَّةَ الله تعالى، بفوقيَّةِ رجلٍ على سطحِ بيتهِ، ولذلكَ دخلَ في المسافةِ وكيفيَّتها.
ثُمَّ هُوَ المُعَطِّلُ ثَانِيًا؛ لأنَّهُ عطَّلَ صفةَ علوِّ الله تعالى خشيةَ المسافةِ.
ثُمَّ هُوَ المُشَبِّهُ ثَالِثًا؛ لأنَّهُ قدْ وقعَ في أشنعِ ممَّا فرَّ منهُ وهو خوفُ الوقوعِ في التَّشبيهِ. لأنَّهُ لمَّا عطَّلَ صفةَ علوِّ الله تعالى خشيةَ التَّشبيهِ وقالَ: إنَّ الله لا داخلَ العالمِ ولا خارجهُ ولا فوقهُ ولا تحتهُ؛ شبَّهَ الله تعالى بالمعدومِ بل بالممتنعِ (1).
فتبًّا لذوي العقولِ الخائضةِ، والقلوب المعطِّلةِ، والنَّفوسِ الجاحدةِ، فما قدروا الله حقَ قدرهِ، والأرضُ جميعًا قبضتهُ يومَ القيامةِ، والسماواتُ مطوياتٌ بيمينهِ سبحانه وتعالى عمَّا يشركون.
فاسمعْ وتعقَّلْ ما يقالُ لكَ وتدبَّرْ ما يلقى إليكَ، والجأ إلى الإيمانِ بالغيبِ، فليسَ الخبرُ كالمعاينة. ودعِ المكابرةَ والمراءَ، فإنَّ المراءَ في القرآنِ كفرٌ، ما أنا قلتهُ بلِ المصطفى صلى الله عليه وسلم قاله (2).
(1) التنبيهات السنية (ص395 - 400).
(2)
انظر: مختصر العلو (ص100).
الشُّبْهَةُ السَّادِسَةُ عَشْرَةَ
كان في الأزلِ ليسَ مستويًا على العرشِ، وهو الآن على ما عليه كانَ، فلا يكونُ على العرش؛ لأنَّ الاستواءَ فعلٌ حادثٌ - كانَ بعدَ أنْ لمْ يكنْ - فلو قامَ بهِ الاستواءُ لقامتْ بهِ الحوادثُ، وإنَّ قيامَ الحوادثِ بذاتهِ تغيُّرٌ والله منزَّهٌ عنِ التغيُّرِ.
ينبغي أن يعلمَ بأنَّ المشتغلينَ بعلمِ الكلامِ إذا قالوا: «لا تحلُّهُ الحوادثُ» أوهموا النَّاسَ أنَّ مرادهم أنَّهُ لا يكونُ محلًا للتغيراتِ والاستحالاتِ ونحو ذلكَ منَ الأحداثِ التي تحدثُ للمخلوقينَ فتحيلهم وتفسدهم، وهذا معنى صحيح، ولكن مقصودهم بذلكَ أنَّهُ لا ينزلُ إلى السَّماءِ الدنيا، ولا يأتي يومَ القيامةِ ولا يجيءُ، ولا يغضبُ بعدَ أنْ كانَ راضيًا، ولا يرضى بعدَ أنْ كانَ غضبانَ، ولا يقومُ بهِ فعلٌ البتةَ، ولا أمرٌ مجددٌ بعدَ أنْ لمْ يكنْ، ولا استوى على عرشهِ بعدَ أنْ لمْ يكنْ مستويًا عليهِ، ولا يغضبُ يومَ القيامةِ غضبًا لمْ يغضبْ قبلهُ مثلهُ، ولنْ يغضبَ بعدهُ مثلهُ، ولا ينادي عبادهُ يومَ القيامةِ بعدَ أنْ لمْ يكنْ مناديًا لهم، فإنَّ هذهِ كلَّها حوادثُ، وهو منزَّهٌ عنْ حلولِ الحوادثِ (1)؛ فإنَّ هذا مِنَ اللبسِ والتلبيسِ، وتسميةِ المعاني الصحيحةِ الثابتةِ بالأسماءِ القبيحةِ المنفِّرةِ، وتلكَ طريقةٌ للنُّفاةِ مألوفةٌ وسجيةٌ معروفةٌ (2).
والجوابُ على الشُّبهةِ المذكورةِ - التي هيَ أوهنُ منْ بيتِ العنكبوتِ - منْ وجوهٍ:
الأولُ:
(1) الصواعق المرسلة (ص935 - 936).
(2)
الصواعق المرسلة (ص1500).
منْ قالَ لكم إنَّ الحادثَ لا يقومُ إلَّا بحادثٍ. منْ أينَ جاءتْ هذهِ القاعدةُ؟ هلْ هيَ في القرآنِ الكريمِ؟ هلْ هيَ في السنَّةِ المطهَّرةِ؟ هلْ هيَ في العقلِ؟ وكلُّ منْ أمعنَ النَّظرَ وفهمَ حقيقةَ الأمرِ علمَ أنَّ السَّلفَ كانوا أعمقَ منْ هؤلاءِ علمًا، وأبرَّ قلوبًا، وأقلَّ تكلُّفًا، وأنَّهم فهموا منْ حقائقِ الأمورِ ما لمْ يفهمهُ هؤلاءِ، الذين خالفوهم، وقبلوا الحقَّ وردُّوا الباطلَ ومنْ هداهُ الله سبحانه وتعالى أيقنَ فسادَ هذا الكلامِ (1).
الوجهُ الثاني:
إننا نقابلُ هذهِ القاعدةِ الفاسدةِ بقاعدةٍ أكملَ منهَا وأوضحَ وهوَ: أنَّ الفعَّالَ لما يريدُ أكملُ منَ الذي لا يفعلُ. والله سبحانه وتعالى يفعلُ ما يشاءُ، والله يحدثُ ما يشاءُ، لا معقِّبَ لحكمهِ، فمَا منْ فعلٍ يفعلهُ إلَّا وقدْ حدثَ بعدَ أنْ لمْ يكنْ. وأنتم إذا عطَّلتم الله عز وجل عنِ الأفعالِ الإختياريةِ - كالاستواءِ والنزولِ والضحكِ والفرحِ والغضبِ - معنى ذلك: وصفتموهُ بأنقص ما يكونُ «والكَمَالُ في اتِّصَافِهِ بهذه الصِّفَاتِ؛ لا في نَفْي اتِّصَافِهِ بها» (2).
وقال ابنُ القيِّم رحمه الله:
(1) انظر: النبوات (ص79)، وشرح حديث النزول (ص417)، ودرء التعارض (1/ 39، 40، 98) و (3/ 454).
(2)
مجموع الفتاوى (6/ 242).
(3)
درء تعارض العقل والنقل (2/ 6).
وَالرَّبُّ لَيْسَ مُعَطَّلًا عَنْ فِعْلِهِ
…
بَلْ كُل يَوْمٍ رَبُّنَا فِي شَانِ (1)
الوجهُ الثالثُ:
«لفظُ التغيُّرِ لفظٌ مجملٌ. فالتغيُّر في اللغةِ المعروفةِ لا يرادُ بهِ مجرَّد كون المحلِّ قامتْ بهِ الحوادثُ» (2)؛ بلْ إنَّ لفظَ التغيُّرِ في كلامِ النَّاس المعروفِ: يتضمَّنُ استحالةَ الشيءِ.
والنَّاسُ إنَّما يقولونَ تغيَّر: لمنِ استحالَ منْ صفةٍ إلى صفةٍ.
فالإنسانُ مثلًا: إذا مرضَ، وتغيَّرَ في مرضهِ؛ كأن اصفرَّ لونهُ أو شحبَ، أو نحلَ جسمهُ: يقالُ: غيَّرهُ المرضُ.
وكذا إذا تغيَّر جسمهُ بجوعٍ أو تعبٍ، قيلَ قد تغير.
وكذا إذا غيَّرَ لونَ شعرِ رأسهِ ولحيته؛ قيلَ قد غير ذلكَ.
وكذا إذا تغيَّر خلقهُ ودينهُ؛ مثل أنْ يكونَ فاجرًا فيتوبُ، ويصيرُ برًّا. أو يكون برًا، فينقلبُ فاجرًا. فهذا يقالُ عنهُ: إنَّهُ قد تغيَّر.
ومنْ هذا البابِ، قولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لما أُتيَ بأبي قحافةَ، ورأسهُ ولحيتهُ كالثَّغامة:«غيِّروا هذا بشيءٍ، واجْتَنِبُوا السَّوادَ» (3).
وكذا الشمسُ إذا اصفرَّت، قيلَ: تغيَّرت. ويقالُ: وقتُ العصرِ ما لم يتغيَّر لونُ الشمسِ.
والأطعمةُ إذا استحالَ لونها أو ريحهَا؛ يقالُ: تغيَّرت أيضًا.
يقولُ الله سبحانه وتعالى عَنِ الجنَّةِ ونعيمهَا: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد: 15].
فاللبنُ يتغيَّر طعمهُ منَ الحلاوةِ إلى الحموضةِ، ونحو ذلكَ.
والماءُ الكثيرُ إذا وقعت النجاسةُ فيهِ لم ينجس، إلَّا أنْ يتغيَّر طعمهُ أو لونهُ أو ريحهُ، وقولهم: إذا نجسَ الماءُ بالتغيُّر زالَ بزوالِ التغير.
(1) الكافية الشافية (ص90).
(2)
جامع الرسائل (2/ 44)، وانظر: مجموع الفتاوى (6/ 249).
(3)
أخرجه مسلم (1663).
«وكذلكَ يقالُ: فلانٌ قد تغيَّر على فلانٍ إذا صارَ يبغضهُ بعدَ المحبةِ، فإذا كان ثابتًا على مودتهِ لمْ يسم هشتهُ إليهِ وخطابهُ لهُ تغيُّرًا.
وإذا جرى على عادتهِ في أقوالهِ وأفعالهِ فلا يقالُ أنَّهُ قدْ تغيَّر، قالَ الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، ومعلومٌ أنَّهم إذا كانوا على عادتهم الموجودةِ يقولونَ ويفعلونَ ما هو خيرٌ لم يكونوا قد غيَّروا ما بأنفسهم، فإذا انتقلوا عنْ ذلكَ فاستبدلُّوا بقصدِ الخيِر قصدَ الشرِّ، وباعتقادِ الحقِّ اعتقادَ الباطلِ، قيلَ: قدْ غيَّروا بأنفسهم، مثل منْ كانَ يحبُّ الله ورسولَهُ والدَّارَ الآخرةَ فتغيَّر قلبهُ وصارَ لا يحبُّ الله ورسولهُ والدَّارَ الآخرة، فهذا قد غيَّر ما في نفسه» (1).
والمقصودُ أنَّ مثلَ هذهِ الأمور يقالُ لها تغيُّرٌ.
أمَّا ما يقومُ بالإنسانِ منْ أفعالٍ: كتكلمهِ، ومشيهِ، وقيامهِ، وقعودهِ، وطوافهِ، وصلاتهِ، وركوبهِ، وأمرهِ، ونهيهِ، فلا يقالُ إنَّ هذا تغيُّرٌ.
فالنَّاسُ لا يقولونَ للإنسان إذا كانتْ عادتهُ أنْ يقرأ القرآنَ ويصلِّي الخمسَ أنَّهُ كلَّما قرأ وصلَّى: قدْ تغيَّر، وإنِّما يقولونَ ذلكَ لمنْ لمْ تكنْ عادتهُ هذهِ الأفعال، فإذا تغيَّرت صفتهُ وعادتهُ قيلَ: إنَّهُ قدْ تغيَّر.
وكذلكَ النَّاسُ لا يقولونَ للشمسِ والكواكبِ إذا كانتْ ذاهبةً مِنَ المشرقِ إلى المغربِ: إنَّها متغيَّرةٌ.
ولا يقولونَ: للماءِ إذا جرى معَ بقاءِ صفائهِ أنَّهُ تغيَّرَ.
(1) جامع الرسائل (2/ 45)، وانظر: مجموع الفتاوى (6/ 249 - 250)، ودرء تعارض العقل والنقل (3/ 74 - 75).
ولا يقالُ عندَ الإطلاقِ للفاكهةِ والطعامِ إذا حُوِّلَ منْ مكانٍ إلى مكانٍ: أنَّهُ تغيَّرَ. ويقولونَ: تغيَّرَ الهواءُ، إذا بردَ بعدَ السخونةِ، ولا يكادونَ يسمُّونَ مجرَّدَ هبوبهِ تغيُّرًا، وإنْ سمِّي بذلكَ فهم يفرِّقونَ بينَ هذا وهذا.
ولهذا لمْ يطلقْ على الصفةِ الملازمةِ للموصوفِ أنَّها مغايرةٌ لهُ، لأنَّهُ لا يمكنُ أنْ يستحيلَ عنهَا ولا يزايل.
والنَّاسُ إذا قيلَ لهم: التغيُّرُ على الله ممتنعٌ، فهموا منْ ذلكَ الاستحالةَ والفسادَ، مثلَ انقلابِ صفاتِ الكمالِ إلى صفاتِ نقصٍ، أو تفرُّقِ الذاتِ، ونحو ذلكَ ممَّا يجبُ تنزيهُ الله عنهُ. واللهُ أَجَلُّ وأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَخْطُرَ بِقُلُوبِ المُؤْمِنِينَ قيامُ القَبَائِحِ والآفَّاتِ والعُيوبِ به سبحانه وتعالى (1).
وأمَّا كونهُ سبحانهُ يتصرَّفُ بقدرتهِ، فيخلقُ، ويستوي، ويفعلُ ما يشاءُ بنفسهِ، ويتكلَّمُ إذا شاءَ، ونحو هذا، فهذا لا يسمُّونهُ تغيُّرًا. فإنَّ صفةَ الموصوفِ اللازمةِ لهُ لا تُسمَّى تغيُّرًا.
فالرَّبُّ تعالى لمْ يزلْ ولا يزالُ موصوفًا بصفاتِ الكمالِ، منعوتًا بنعوتِ الجلالِ والاكرامِ، وكمالهُ منْ لوازمِ ذاتهِ، فيمتنعُ أنْ يزولَ عنهُ شيءٌ منْ صفاتِ كمالهِ، ويمتنعُ أن يصيَر ناقصًا بعدَ كمالهِ.
و «هذا الأصلُ» عليهِ قولُ السلفِ، وأهلُ السنَّةِ: أنَّهُ لمْ يزلْ موصوفًا بصفاتِ الكمالِ، ولا يزالُ كذلكَ، فلا يكونُ متغيِّرًا، وهذا معنى قولِ منْ يقولُ: يا مَنْ يغيِّر، ولا يتغيَّر! (2).
وذكرَ البخاريُّ عنْ نُعيم بنِ حَمَّاد أنَّهُ قالَ: إنَّ العَرَبَ لا تعرف الحَيَّ من المَيِّتِ إلَّا بالفِعْلِ، فَمَنْ كان له فعلٌ فهو حَيٌّ، ومَنْ لم يَكُنْ له فِعْلٌ فهو مَيِّتٌ (3).
(1) درء تعارض العقل والنقل (2/ 239).
(2)
مجموع الفتاوى (6/ 249 - 250).
(3)
خلق أفعال العباد (ص117)، تحقيق: بدر البدر.
ولكن حججَ النُّفاةِ مبناها على ألفاظٍ مجملةٍ موهمة، كما قالَ الإمامُ أحمدُ: يَتَكَلَّمُونَ بالمُتَشَابَهِ من الكَلَامِ، ويلَبِّسونَ على جُهَّالِ النَّاسِ بما يُشَبِّهُونَ عليهم، حتى يَتَوَهَّمَ الجاهلُ أنهم يُعَظِّمونَ اللهَ، وهم إنَّما يقودهم قولُهم إلى فِرْيَةٍ على اللهِ (1).
فقدْ تبيَّنَ بهذا الكلامِ أنَّ المشتغلينَ بعلمِ الكلامِ «قدْ خالفوا صريحَ المعقولِ، وسلبوا الكمالَ عمَّنْ هوَ أحقُّ بالكمالِ منْ كلِّ ما سواهُ، ولمْ يكفهمْ ذلكَ حتَّى جعلوا الكمالَ نقصًا، وعدمهُ كمالًا، فعكسوا الأمرَ، وقلبوا الفطرَ، وأفسدوا العقولَ، فتأمَّل شبههم الباطلة، وخيالاتهم الفاسدة التي عارضوا بها الوحي هلْ تقاومُ الأدلَّةَ الدَّالَّةَ على إثباتِ العلوِّ والفوقيَّةِ للرَّبِّ سبحانه وتعالى؟ ثمَّ اخترْ لنفسكَ بعدُ ما شئتَ» (2).
وفي ختامِ الرّدِّ على الشُّبهاتِ نقولُ: إنَّ النُّصوصَ الدَّالَّةَ على علوِّ الله على خلقهِ كثيرةٌ منتشرةٌ، قد بهرت المتكلِّمين بكثرتها وقوَّتها، وليس معهم في نفي ذلكَ، لا عقلٌ صريحٌ، وَلَا نقلٌ صحيحٌ. فهم يظنُّون أنَّ معهم عقلياتٍ، وإنَّما معهم جهلياتٌ:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ *} [النور: 39] فهمْ لا يرجعونَ في قولهم إلى آيةٍ مِنَ التنزيلِ محكمةٌ، ولا روايةٌ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم صحيحةٌ، فارقوا الدَّليلَ واتَّبعوا أهواءَ قومٍ قدْ ضلُّوا مِنْ قبلُ وأضلُّوا كثيرًا وضلُّوا عنْ سواءِ السَّبيل (3).
(1) درء تعارض العقل والنقل (4/ 72 - 75).
(2)
انظر: الصواعق (ص917).
(3)
إغاثة اللهفان (ص127).