الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَسْئِلَةٌ وأَجْوِبَتُهَا
السؤالُ الأولُ
اخْتَلَفَ رجلانِ فِي الاعْتِقَادِ؛ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى فِي السّمَاءِ فَهُوَ ضَالٌ. وَقَالَ الآخَرُ: إنَّ الله لَا يَنْحَصِرُ فِي مَكَانٍ فِبَيِّنُوا لَنَا مَا نَتَّبِعُهُ وَمَا الصَّوَابُ فِي ذَلِكَ؟
قالَ شيخُ الاسلامِ رحمه الله: مَنِ اعتقدَ أنَّ الله تعالى فِي جوفِ السَّمَاواتِ محصورٌ محاطٌ بهِ، أو مفتقرٌ إِلَى العرشِ، أَوْ غيرِ العرشِ - مِنَ المخلوقاتِ - أَوْ أَنَّ استواءَهُ عَلَى عرشهِ كاستواءِ المخلوقِ عَلَى كرسيِّهِ؛ فَهُوَ ضالٌّ مبتدعٌ جاهلٌ.
ومَنِ اعتقدَ أنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَاوَات إلهٌ يعبدُ، وَلَا عَلَى العرشِ ربٌّ يصلَّى لَهُ ويسجدُ، وأنَّ محمَّدًا لَمْ يعرجْ بِهِ إِلَى ربِّهِ، وَلَا نزلَ القرآنُ منْ عندهِ، فَهُوَ معطِّلٌ فرعونيٌّ، ضالٌّ مبتدعٌ؛ فإنَّ فرعونَ كذَّبَ موسى في أنَّ ربَّه فوقَ السَّموات، وقالَ:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأََظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37].
ونبيُّنا محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، صدَّق موسى عليه السلام، أنَّ ربَّهُ تعالى فوقَ السَّمواتِ، فلمَّا كانَ ليلة المعراجِ، وعرجَ بهِ إلى اللهِ عز وجل؛ وفرضَ عليهِ خمسينَ صلاةً؛ ذكرَ أنَّهُ رجعَ إلى موسى وقالَ لهُ: ارجعْ إلى ربِّكَ فاسألهُ التَّخفيفَ لأمَّتكَ.
فمنْ وافقَ فرعونَ وخالفَ موسى ومحمَّدًا عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ، فهوَ ضالٌّ؛ ومَنْ مثَّلَ اللهَ تعالى وشَبَّهَهُ بخلقهِ، فهو ضَالٌّ.
والقائلُ الذي قالَ: منْ لَمْ يعتقدْ أَنَّ الله فِي السّمَاءِ فَهُوَ ضالٌّ، إنْ أرادَ بذلكَ منْ لَا يعتقد أنَّ الله فِي جوفِ السَّمَاء، بحيثُ تحصرُهُ وتحيطُ بِهِ فَقَدْ أخطأَ. وإنْ أرادَ بذلكَ منْ لَمْ يعتقدْ مَا جاءَ بِهِ الكتابُ والسنَّةُ، واتَّفقَ عَلَيهِ سلفُ الأمَّةِ وأئمَّتها، مِنْ أنَّ الله تعالى فَوْقَ سماواته عَلَى عرشهِ، بائنٌ منْ خلقهِ، فَقَدْ أصابَ؛ فإنَّه منْ لَمْ يعتقدْ ذَلِكَ يكونُ مكذِّبًا للرسولِ صلى الله عليه وسلم، متَّبعًا غيرَ سبيلِ المؤمنينَ؛ بلْ يكونُ فِي الحقيقةِ معطِّلًا لربِّهِ نافيًا لَهُ؛ فَلَا يكونُ لَهُ فِي الحقيقةِ إلهٌ يعبدهُ، وَلَا ربٌّ يسألهُ، ويقصدهُ. وهذا قولُ الجهميَّةِ ونحوهمْ منْ أتباعِ فرعونَ المعطِّل.
واللهُ سبحانهُ قدْ فطرَ العبادَ - عربهم وعجمهم - على أنَّهم إذا دعوهُ توجَّهتْ قلوبهم إلى العلوِّ، ولا يقصدونَهُ تحتَ أرجلهمْ، ولهذا قَالَ بعضُ العارفينَ: مَا قَالَ عارفٌ قطٌّ: يَا الله!! إِلَّا وجدَ فِي قلبهِ - قبلَ أَنْ يتحرَّكَ لسانهُ - معنًى يطلبُ العلوَّ، لَا يلتفتُ يمنةً وَلَا يسرةً.
وأمَّا القائلُ الذي يقولُ: «إنَّ الله تعالى لا ينحصرُ في مكانٍ» إنْ أرادَ بهِ أنَّ الله تعالى لا ينحصرُ في جوفِ المخلوقاتِ، وأنَّه لا يحتاجُ إلى شيءٍ منها، فقدْ أصابَ، وإنْ أرادَ أنَّ الله سبحانه وتعالى ليسَ فوقَ السمواتِ، ولا هوَ مستوٍ على العرشِ استواءً لائقًا بذاتهِ، وليسَ هناكَ إلهٌ يعبدُ، ومحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم لم يعرجْ بهِ إلى اللهِ تعالى؛ فهذا جهميٌّ فرعونيٌّ معطِّلٌ.
ومنشأُ الضَّلالِ أنْ يظنَّ الظانُّ أنَّ صفاتِ الرَّبِّ سبحانهُ كصفاتِ خلقهِ، فيظنُّ أنَّ الله تعالى على عرشهِ، كالملكِ المخلوقِ على سريرهِ؛ فهذا تمثيلٌ وضلالٌ، وذلكَ أنَّ الملِكَ مفتقرٌ إلى سريره، ولو زالَ سريرهُ لسقطَ، واللهُ عز وجل غنيٌّ عَنِ العرشِ، وعنْ كلِّ شيءٍ، وكلُّ ما سواه محتاجٌ إليه، وهوُ حاملٌ العرشَ وحملةَ العرشِ، وعلوُّه عليهِ لا يوجبُ افتقارَهُ إليهِ، فإنَّ الله تعالى قدْ جعلَ المخلوقاتِ عاليًا وسافلًا، وجعلَ العالي غنيًّا عَنِ السَّافلِ، كمَا جعلَ الهواءَ فوقَ الأرضِ، وليسَ هو مفتقرًا إليهَا، وجعلَ السَّماءَ فوقَ الهواءِ، وليسَتْ محتاجةً إليهِ. فالعليُّ الأعلى ربُّ السمواتِ والأرضِ وما بينهمَا أولى أنْ يكون غنيًّا عَنِ العرشِ، وسائرِ المخلوقاتِ، وإنْ كانَ عاليًا عليهَا سبحانه وتعالى عمَّا يقولُ الظالمونَ علوًّا كبيرًا.
والنَّاسُ في هذا البابِ ثلاثةُ أصنافٍ: أهلُ الحلولِ والاتحادِ، وأهلُ النَّفيِ والجحودِ، وأهلُ الإيمانِ والتَّوحيدِ والسنَّةِ.
فأهلُ الحلولِ يقولونَ: إنَّه بذاتهِ في كلِّ مكانٍ، وقدْ يقولونَ بالاتحادِ والوحدةِ فيقولونَ: وجودُ المخلوقاتِ وجودُ الخالقِ
…
وأمَّا أهلُ النَّفيِ والجحودِ فيقولونَ: لا هوَ داخلُ العالمِ ولا خارجٌ ولا مباينٌ لهُ ولا حالٌّ فيهِ، ولا فوقَ العالمِ ولا فيهِ، ولا ينزلُ منهُ شيءٌ، ولا يصعدُ إليهِ شيءٌ، ونحو ذلكَ. وهذا قولُ متكلِّمةِ الجهميَّةِ المعطلِّةِ، كمَّا أنَّ الأوَّلَ قولُ عبَّادِ الجهميَّةِ؛ فمتكلِّمةُ الجهميَّةِ لا يعبدونَ شيئًا، ومتعبِّدةُ الجهميَّةِ يعبدونَ كلَّ شيءٍ، وكلامهم يرجعُ إلى التَّعطيلِ والجحودِ الذي هو قولُ فرعونَ.
وقدْ علمَ أنَّ الله تعالى كانَ قبلَ أنْ يخلقَ السَّمواتِ والأرضَ ثمَّ خلقهما؛ فإمَّا إنْ يكونَ دخلَ فيهما وهذا حلولٌ باطلٌ، وإمَّا أنْ يكونَا دخلا فيهِ وهوَ أبطلُ وأبطلُ، وإمَّا أنْ يكونَ الله سبحانهُ بائنًا عنهما لم يدخلْ فيهما ولمْ يدخلا فيهِ، وهذا قولُ أهلِ الحقِّ والتَّوحيدِ والسنَّةِ.
ولأهلِ الجحودِ والتَّعطيلِ في هذا البابِ شبهاتٍ (1)، يعارضونَ بها كتابَ الله عز وجل وسنَّةَ رسولهِ صلى الله عليه وسلم، وما أجمعَ عليهِ سلفُ الأمَّةِ وأئمَّتهَا، ومَا فطرَ الله تعالى عليهِ عبادهُ، وما دلَّتْ عليهِ الدلائلُ العقليةُ الصحيحةُ؛ فإنَّ هذهِ الأدلَّةَ كلَّها متَّفقةٌ على أنَّ الله تعالى فوقَ مخلوقاتهِ، عالٍ عليهَا، قدْ فطرَ اللهُ تعالى على ذلكَ العجائزَ والأعرابَ والصبيانَ في الكتَّابِ؛ كما فطرهمْ على الإقرارِ بالخالقِ تعالى.
وقدْ قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الصَّحيحِ: «كلُّ مولودٍ يولدُ على الفطرة فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه كما تُنْتِجُ البهيمةُ بهيمةً جمعاءَ هل تُحِسُّونَ فيها منْ جدعاءَ» ثمَّ قالَ أبو هريرة رضي الله عنه: اقرؤوا إنْ شئتم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30](2).
وهذا معنى قولِ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ رحمه الله: «عليكَ بدينِ الأعرابِ والصبيانِ في الكتَّابِ، وعليكَ بما فَطَرَهُمُ اللهُ تعالى عليه» ؛ فإنَّ الله سبحانهُ فطرَ عبادهُ على الحقِّ، والرسلُ بعثوا بتكميلِ الفطرةِ وتقريرهَا، لا بتحويلِ الفطرةِ وتغييرهَا.
(1) قال ابن القيم رحمه الله: «وكيفَ تكونُ الآراءُ والخيالاتُ وسوانحُ الأفكارِ دينًا يُدانُ بهِ ويُحْكَمُ بهِ على اللهِ ورسولهِ؟! سبحانكَ هذا بهتانٌ عظيمٌ!» .
(2)
رواه البخاري (1358 و1359 و1385 و4775 و6599)، ومسلم (2658) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأمَّا أعداءُ الرُّسلِ كالجهميَّةِ الفرعونيَّةِ ونحوهم: فيريدونَ أنْ يغيِّروا فطرةَ الله تعالى ودينَهُ عز وجل، ويوردونَ على النَّاسِ شبهاتٍ بكلماتٍ مشتبهاتٍ، لا يفهمُ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ مقصودَهُمْ بها، ولا يحسنُ أنْ يجيبهم. وأصلُ ضلالهم تكلُّمهمْ بكلماتٍ مجملةٍ؛ لا أصلَ لها في كتابِ الله تعالى؛ ولا سنَّةِ رسولهِ صلى الله عليه وسلم؛ ولا قالها أحدٌ منْ أئمَّةِ المسلمينَ، كلفظِ التحيُّزِ والجسمِ والجهةِ ونحو ذلك.
فمنْ كانَ عارفًا بحلِّ شبهاتهم بيَّنها، ومنْ لمْ يكنْ عارفًا بذلكَ فليعرضْ عنْ كلامهمْ، ولا يقبلُ إلَّا ما جاءَ بهِ الكتابُ والسنَّةُ، كمَا قالَ تعالى:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68]. ومنْ يتكلَّمُ في الله تعالى وأسمائهِ وصفاتهِ بما يخالفُ الكتابَ والسنةَ فهوَ مِنَ الخائضينَ في آياتِ الله تعالى بالباطلِ.
وكثيرٌ منْ هؤلاءِ ينسبُ إلى أئمَّةِ المسلمينَ ما لمْ يقولوه؛ فينسبونَ إلى الشافعيِّ، وأحمدَ بن حنبلٍ ومالكٍ، وأبي حنيفة؛ مِنَ الاعتقاداتِ ما لم يقولوا، ويقولونَ لمنِ اتبعهم: هذَا اعتقادُ الإمامِ الفلانيِّ؛ فإذا طولبوا بالنَّقلِ الصَّحيح عَنِ الأئمَّة تبيَّنَ كذبهم.
وقالَ الشَّافعيُّ: حُكْمِي في أهلِ الكلامِ: أن يُضربوا بالجَرِيدِ والنِّعالِ، ويُطافُ بهم في القَبَائِلِ والعَشَائِرِ، ويقالُ: هذا جزاءُ مَنْ تَركَ الكتابَ والسُّنَّةَ، وأقبلَ على الكَلَامِ.
قالَ أبو يوسفَ القاضي: مَنْ طَلَبَ الدِّينَ بالكلام تَزَنْدَقَ.
قالَ أحمد: ما ارْتَدَى أحدٌ بالكَلَامِ فَأَفْلَحَ.
قال بعضُ العلماءِ: المُعَطِّلُ يعبدُ عدمًا، والمُمَثِّلُ يعبدُ صنمًا. المعطِّل أعمى، والممثِّل أعشى (1)؛ ودينُ الله بين الغالي فيهِ والجافي عنهُ.
(1) الأعشى: مرادف للأعمى، أو هو سيئ البصر بالليل والنهار.
وقدْ قالَ تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] والسنَّةُ في الإسلامِ كالإسلامِ في المللِ. والحمدُ لله ربِّ العالمين (1).
السؤالُ الثاني
إذا كانَ الله تعالى إنَّما استوى على العرشِ بعدَ أنْ خلقَ السماواتِ والأرضَ في ستةِ أيَّامٍ، فقبلَ ذلكَ لمْ يكنْ على العرشِ؟
قالَ شيخُ الإسلامِ رحمه الله: الاسْتِوَاءُ علوٌّ خاصٌّ، فكلُّ مستوٍ عَلَى شيءٍ عالٍ عَلَيهِ، وليسَ كلُّ عالٍ عَلَى شيءٍ مستوٍ عَلَيهِ.
ولهذا لَا يقالُ لكلِّ مَا كانَ عاليًا على غيرهِ أنَّهُ مستوٍ عليهِ، واستوى عليهِ؛ ولكن كلُّ ما قيلَ فيهِ أنَّه استوى على غيرِه، فإنَّهُ عالٍ عَلَيهِ.
والذي أخبرَ اللهُ أنَّهُ كانَ بعدَ خلق السَّماواتِ والأرضِ «الاستواءُ» لا مطلقُ العلوِّ، مَعَ أنَّهُ يجوزُ أنَّهُ كانَ مستويًا عليهِ قبلَ خلقِ السَّماواتِ والأرضِ لمَّا كانَ عرشهُ على الماءِ، ثمَّ لمَّا خلقَ هذا العالمَ كانَ عاليًا عليهِ ولمْ يكنْ مستويًا عليهِ، فلمَّا خلقَ هذا العالمَ استوى عليهِ.
فالأصلُ أنَّ علوَّهُ على المخلوقاتِ وصفٌ لازمٌ لهُ، كمَا أنَّ عظمتَهُ وكبرياءهُ وقدرتهُ كذلكَ، وأمَّا «الاستواءُ» فهو فعلٌ يفعلهُ سبحانه وتعالى بمشيئتهِ وقدرتهِ، ولهذا قالَ فيهِ:{ثُمَّ اسْتَوَى} [يونس: 3].
ولهذا كانَ الاستواءُ مِنَ الصفاتِ السَّمعيةِ المعلومةِ بالخبرِ، وأمَّا علوُّه على المخلوقاتِ فهوَ عندَ أئمَّةِ أهلِ الإثباتِ من الصِّفاتِ العقليةِ المعلومةِ بالعقلِ مَعَ السمعِ (2).
(1) مجموع الفتاوى (5/ 258 - 261).
(2)
مجموع الفتاوى (5/ 523).
السؤالُ الثالث
ما هو التعليقُ على قولِ الدسوقي: «أصولُ الكفرِ ستةٌ - وعدَّ خمسةً منها ثمَّ قال: سادسًا: التمسكُ في أصولِ العقائدِ بمجرَّدِ ظواهِرِ الكتابِ والسنَّةِ من غير عَرْضِها على البراهينِ العقليَّةِ والقواطعِ الشرعيةِ
…
إلى أن قال: والتمسُّكُ في أصولِ العقائدِ بمجرَّد ظواهرِ الكتابِ والسنةِ من غير بصيرةٍ في العقلِ وهو أصلُ ضلَالةِ الحَشَوِيَّةِ، فقالوا بالتَّشبيه والتَّجسيم والجهةِ عملًا بظاهرِ قولهِ تعالى:{عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]» (1).
ويا للهِ العجبُ! كيفَ كانَ الصَّحابةُ والتَّابعونَ قبلَ وضعِ هذهِ القوانينِ التي أتى اللهُ بنيانها مِنَ القواعدِ وقبلَ استخراج هذه الآراءِ والمقاييسِ والأوضاعِ هل كانوا مهتدينَ مكتفينَ بالنُّصوصِ أمْ كانوا على خلافِ ذلكَ؟ حتَّى جاء المتأخرونُ فكانوا أعلمَ منهم وأهدى وأضبطَ للشَّريعة منهم وأعلمَ باللهِ وأسمائهِ وصفاتهِ وما يجبُ لهُ وما يمتنعُ عليهِ منهم؟ فواللهِ لأنْ يلقى الله عبدهُ بكلِّ ذنبٍ ما خلا الإشراك لخيرٌ منْ أنْ يلقاهُ بهذا الظنِّ الفاسدِ والاعتقادِ الباطلِ (2).
والقولُ بأنَّ الأخذَ بظاهرِ الكتابِ والسنَّةِ منْ أصولِ الكفرِ لا يصدرُ البتةَ عنْ عالمٍ بكتابِ الله وسنَّةِ رسوله وإنَّما يصدرُ عمَّن لا علمَ لهُ بالكتابِ والسنَّةِ أصلًا، لأنَّه لجهلهِ بهما يعتقدُ ظاهرهما كفرًا والواقعُ في نفسِ الأمرِ أنَّ ظاهرهما بعيدٌ ممَّا ظنَّه أشدَّ منْ بعدِ الشمسِ مِنَ اللمسِ (3).
وهذا يتبيَّن منْ وجوهٍ:
الوجهُ الأولُ:
ينبغي أنْ يعلمَ بأنَّ كلَّ ما أخبرَ الله بهِ فهوَ حقٌّ، ويستحيلُ أنْ يلزمَ عليهِ باطلٌ.
(1) حاشية الدسوقي على أم البراهين (ص219)، للسنوسي.
(2)
إعلام الموقعين (4/ 457).
(3)
أضواء البيان (7/ 438).
ولا يخفى على أحدٍ أنَّ الذي يقول: إنَّ الأخذَ بظاهرِ قوله تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5] يلزمُ منهُ الكفرُ والتشبيهُ والضَّلالُ. أنَّ إلزامهُ هذا اعتراضٌ صريحٌ على منْ أخبرَ بالاستواءِ وهو الله جلَّ وعلا (1).
الوجهُ الثاني:
لا شكَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، عالمٌ كلَّ العِلْمِ، بأنَّ الظاهرَ المتبادرَ ممَّا مدحَ الله بهِ نفسه، في آياتِ الصِّفاتِ هو التنزيهُ التَّامُّ عنْ صفاتِ الخلقِ، ولو كان يخطرُ في ذهنهِ أنَّ ظاهرهُ لا يليقُ، لأنَّهُ تشبيهٌ بصفاتِ الخلقِ، لظهرَ التحذيرُ منهُ ومنْ أصحابهِ وتواترَ أعظمَ ممَّا حذَّروا مِنَ الدَّجالِ الأعورِ الكذَّابِ، ولبادرَ كلَّ المبادرةِ إلى بيانِ ذلكَ، لأنَّه لا يجوزُ في حقِّهِ تأخيرُ البيانِ عنْ وقتِ الحاجةِ إليهِ، ولا سيَّما في العقائدِ، ولا سيَّما فيما ظاهرهُ الكفرُ والتشبيهُ. ولو أخَّرَ البيانَ لكانَ قدْ كلَّفَ العبادَ ما لا سبيلَ إليهِ (2).
ألا ترى أنَّ المتكلِّمينَ لمَّا اعتقدوا قبحَ هذه الظواهرِ تواترَ عنهمُ التَّحذيرُ عنهَا والتأويلُ لها وصنَّفوا في ذلكَ وأيقظوا الغافلينَ، وعلَّموا الجاهلينَ، وكفَّروا المخالفينَ، وأشاعوا ذلكَ بينَ المسلمينَ؛ بل بينَ العالمينَ. فكانَ أحقَّ منهم بذلك سيِّدُ المرسلينَ، وقدماءُ السابقينَ، وأنصارُ الدِّينِ (3).
الوجهُ الثالثُ:
لوْ علمَ الأئمَّةُ أنَّ حملَ النُّصوصِ على ظاهرهَا كفرٌ لوجبَ عليهم تبيينُ ذلكَ، وتحذيرُ الأمَّةِ منهُ؛ فإنَّ ذلكَ من تمامِ نصيحةِ المسلمينَ، فكيفَ كانوا ينصحونَ الأمَّةَ فيما يتعلَّقُ بالأحكام العمليةِ ويَدَعونَ نصيحتهم فيما يتعلَّقُ بأصولِ الإعتقاداتِ!! هذا من أبطلِ الباطلِ (4).
(1) انظر: منع جواز المجاز (ص61).
(2)
أضواء البيان (7/ 449).
(3)
إيثار الحق على الخلق (ص138 - 139).
(4)
فتح الباري (7/ 231)، لابن رجب الحنبلي.
الوجهُ الرابعُ:
إنَّ القولَ المذكورَ يتضمنُ الظنَّ السَّيِّءَ بالله تبارك وتعالى.
ومنْ ظنَّ بالله سبحانه وتعالى أنَّه أَخبرَ عنْ نفسهِ وصفاتهِ وأفْعالهِ بما ظاهرهُ باطلٌ، وتشْبيهٌ، وتمْثيلٌ، وتركَ الحقَّ، لمْ يخبرْ بهِ، وإنَّما رمزَ إليهِ رموزًا بعيدةً، وأشارَ إليه إشاراتٍ مُلْغِزةً لمْ يصرِّحْ بهِ، وصرَّح دائمًا بالتَّشبيهِ والتمثيلِ والباطلِ، وأرادَ منْ خلقهِ أنْ يُتْعِبوا أذْهانهم وقواهم وأفْكارهمْ في تحريفِ كلامهِ عنْ مواضعهِ، وتأويلهِ على غيرِ تأويلهِ، ويتطلَّبوا لهُ وجوهَ الاحتمالاتِ المستكرهةِ، والتأويلاتِ التي هي بالألغازِ والأحاجي أشْبهُ منها بالكشفِ والبيانِ (1)،
(1) قال ابن القيم رحمه الله في «إعلام الموقعين» (4/ 307): «قال بعضُ أهل العلم: كيف لا يخشى الكذب على الله ورسوله من يحمل كلامه على التأويلات المستنكرة والمجازات المستكرهة التي هي بالألغاز والأحاجي أولى منها بالبيان والهداية؟ وهل يأمن على نفسه أنْ يكون ممن قال الله فيهم: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18]» ..
وأحالهمْ في معْرفةِ أسْمائهِ وصفاتهِ على عقولهمْ وآرائهمْ، لا على كتابهِ، بلْ أرادَ منهمْ أنْ لا يحْملوا كلامهُ على ما يعْرِفونَ منْ خطابهمْ ولغتهم، معَ قدْرتهِ على أنْ يصرِّحَ لهمْ بالحقِّ الذي ينبغي التَّصْريحُ بهِ، ويريحهمْ مِنَ الألفاظِ التي توقعهمْ في اعْتقادِ الباطلِ، فلمْ يفعلْ، بلْ سلكَ بهمْ خلافَ طريقِ الهدى والبيانِ، فقدْ ظنَّ به ظنَّ السَّوءِ، فإنَّه إنْ قالَ: إنَّهُ غيرُ قادرٍ على التعْبيرِ عَنِ الحقِّ باللفظِ الصَّريحِ الذي عبَّر بهِ هوَ وسلفُهُ، فقدْ ظنَّ بقدْرتهِ العجزَ، وإنْ قالَ: إنَّهُ قادرٌ ولمْ يبيِّنْ، وعدَلَ عنِ البيانِ، وعَنِ التَّصْريحِ بالحقِّ إلى ما يوْهمُ، بلْ يُوقِعُ في الباطلِ المحالِ، والاعْتقادِ الفاسدِ، فقدْ ظنَّ بحكمتهِ ورحمتهِ ظنَّ السَّوء، وظنَّ أنَّهُ هوَ وسلفهُ عبَّروا عَنِ الحقِّ بصريحهِ دونَ اللهِ ورسولهِ، وأنَّ الهدى والحقَّ في كلامهم وعباراتهم. وأمَّا كلامُ الله، فإنَّما يؤخذُ منْ ظاهرهِ التَّشبيهُ، والتَّمثيلُ، والضَّلالُ، وظاهرُ كلامِ المتهوِّكين (1) الحيارى، هوَ الهدى والحقُّ، وهذا منْ أسوإ الظنِّ بالله، فكلُّ هؤلاءِ مِنَ الظَّانينَ بالله ظنَّ السَّوء، ومِنَ الظَّانينَ بهِ غيرَ الحقِّ ظنَّ الجاهليةِ (2).
الوجهُ الخامسُ:
أنَّ الذينَ يقولونَ: إنَّ الأخذَ بظاهرِ الكتابِ والسنَّةِ منْ أصولِ الكفرِ لا يعلمونَ ما هيَ الظواهرُ وأنَّهم يعتقدونَ شيئًا ظاهر النص. والواقع أنَّ النَّص لا يدلُّ عليهِ بحالٍ مِنَ الأحوالِ فضلًا عنْ أنْ يكونَ ظاهره. فبنوا باطلًا على باطلٍ، ولا شكَّ أنَّ الباطلَ لا يُبنى عليه إلَّا الباطل. ولو تصوَّروا معاني ظواهرِ الكتابِ والسنَّةِ على حقيقتها لمنعهم ذلكَ، منْ أن يقولوا ما قالوا.
(1) التَّهَوُّك: كالتَّهَوُّر، وهو الوقوع في الأمر بغير رَوِيَّة.
(2)
زاد المعاد (3/ 231).