الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأيضًا؛ فقولهم: «أمرُّوها كما جاءت» : يقتضي إبْقاءُ دلالتهَا على ما هي عليهِ، فإنَّها جاءتْ ألْفاظًا دالةً على معاني؛ فلو كانتْ دلالتهَا منْتفيةً؛ لكانَ الواجبُ أنْ يقالَ:«أمرُّوا لفظهَا مع اعْتقادِ أنَّ المفْهومَ منها غيرُ مرادٍ» ، أو «أمرُّوا لفْظَهَا مع اعْتقادِ أنَّ الله لا يوصفُ بما دلَّتْ عليهِ حقيقةً» . وحينئذٍ فلا تكونُ قدْ أُمرَّتْ كما جاءتْ، ولا يقال حينئذٍ: بلا كيفٍ؛ إذْ نفيُ الكيفِ عمَّا ليسَ بثابتٍ لغوٌ مِنَ القولِ (1).
فلا يقالُ إنَّ السَّلفَ - رحمهم الله تعالى - تلقَّوا النُّصوصَ فلم يفهموها، ففوَّضوا معناها. ولا يجوزُ أن يشتملَ القرآنُ على ما لا يُعلمُ معناه (2) - حاشاهم منْ ذلكَ - «بل كفُّوا عَنِ الثرثرةِ، والتشدُّقِ، لا عجزًا بحمدِ الله عَنِ الجدالِ والخصامِ، ولا جهلًا بطرقِ الكلامِ، وإنَّما أمسكوا عَنِ الخوضِ في ذلكَ عنْ علمٍ ودرايةٍ، لا عنْ جهلٍ وعمايةٍ» (3).
السؤالُ الخامسُ
كيف استوى على العرش
؟
مِنَ المعلومِ أنَّ صفاتِ كلِّ موصوفٍ تناسبُ ذاتهُ وتلائمُ حقيقتهُ؛ فمنْ لم يفهمْ منْ صفاتِ الرَّبِّ - الذي ليس كمثله شيءٌ - إلَّا ما يناسبُ المخلوق فقدْ ضلَّ في عقلهِ ودينهِ.
فقولُ السَّائلِ: كيفَ استوى؟ بمنزلةِ قولهِ: كيفَ ينزلُ؟ وقولهِ: كيفَ يسمعُ؟ وكيفَ يبصرُ؟ وكيفَ يعلمُ ويقدرُ؟ وكيفَ يخلقُ ويرزقُ؟
فنحنُ نعلمُ معنى الاستواءِ ولا نعلمُ كيفيَّتهُ، ونعلمُ معنى السَّمعِ والبصرِ والعلمِ والقدرةِ، ولا نعلمَ كيفيَّةَ ذلكَ. ونعلم معنى الرَّحمةِ والغضب والرضا والفرحِ والضَّحكِ ولا نعلمَ كيفيَّةَ ذلكَ (4).
(1) راجع: مجموع الفتاوى (5/ 39 - 42).
(2)
انظر: مجموع الفتاوى (13/ 285).
(3)
الذيل على طبقات الحنابلة (2/ 207).
(4)
انظر: شرح حديث النزول (ص132 - 133).
قالَ الإمامُ الشافعيُّ رحمه الله: «ما صحَّ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالهُ فلا يقالُ فيهِ لِمَ وكيفَ» (1).
وقالَ البربهاريُّ رحمه الله: «ولا يقولُ في صفاتِ الربِّ: كيفَ؟ ولمَ؟ إلَّا شاكٌ في الله تبارك وتعالى» (2).
وقالَ الإمامُ أبو بكرٍ الإسماعيليُّ رحمه الله: «وأنَّهُ عز وجل استوى على العَرْشِ، بلا كَيْفٍ؛ فإنَّ اللهَ تعالى انتهى منْ ذلكَ إلى أنَّه استوى على العرشِ، ولم يَذْكُرْ كيفَ كانَ استواؤُهُ» (3).
وقالَ عبدُ العزيز بن يحيى المكي رحمه الله (240هـ) في «الردِّ على الزنادقة والجهمية» : «فقال الجهميُّ: أخبرني كيفَ استوى على العرشِ؟ أهوَ كمَا يُقالُ: استوى فلانٌ على السريرِ، فيكون السريرُ قد حوى فلانًا وحدَهُ إذا كانَ عليهِ، فيلزمكَ أنْ تقولَ: إنَّ العرشَ قدْ حوى الله وحدَهُ إذا كانَ عليه، لأنَّا لا نعقلُ الشَّيءَ على الشيءِ إلَّا هكذا. قالَ: فيُقالُ لهُ: أمَّا قولكَ: كيفَ استوى؟ فإنَّ الله لا يجري عليهِ كيفَ، وقدْ أخبرنَا أنَّهُ استوى على العرشِ، ولم يخبرنا كيفَ استوى، فوجبَ على المؤمنينَ أنْ يصدِّقوا ربَّهم باستوائهِ على العرشِ، وحرَّمَ عليهم أنْ يصفوا كيفَ استوى، لأنَّهُ لمْ يخبرهمْ كيفَ ذلكَ، ولمْ ترهُ العيونُ في الدنيا فتصفهُ بما رأتْ، وحرَّمَ عليهم أنْ يقولوا عليهِ منْ حيثُ لا يعلمونَ، فآمنوا بخبرهِ عَنِ الاستواءِ، ثمَّ ردُّوا علمَ كيفَ استوى إلى الله» (4).
(1) أخرجه ابن أبي بطة في «الإبانة» (3/ 203) رقم (157)، بإسناد صحيح.
(2)
شرح السنة (ص70).
(3)
اعتقاد أئمة الحديث (ص50)، لأبي بكر الإسماعيلي.
(4)
درء تعارض العقل والنقل (6/ 117 - 118).
وقال الحافظ إسماعيلُ بنُ محمدٍ التيميُّ رحمه الله (535هـ): «الاستواءُ معلومٌ كونهُ مجهولُ كيفيَّتهُ، واستواءُ نوحٍ على السفينةِ معلومٌ كونهُ معلومٌ كيفيَّتهُ؛ لأنَّهُ صفةٌ لهُ، وصفاتُ المخلوقينَ معلومةٌ كيفيَّتها. واستواءُ الله على العرشِ غيرُ معلوم كيفيَّتهُ؛ لأنَّ المخلوقَ لا يعلمُ كيفيَّةَ صفاتِ الخالقِ؛ لأنَّهُ غيبٌ ولا يعلمُ الغيبَ إلَّا الله، ولأنَّ الخالقَ إذا لمْ يشبه ذاتهُ ذاتَ المخلوقِ لمْ يشبه صفاتهُ صفات المخلوق. فثبتَ أنَّ الاستواءَ معلومٌ، والعلمُ بكيفيَّتهِ معدومٌ، فعلمهُ موكولٌ إلى الله تعالى، كما قال: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]» (2).
وقال السفاريني رحمه الله:
(1) الحجة في بيان المحجة (1/ 243 - 244).
(2)
الحجة في بيان المحجة (2/ 258 - 259).
سُبْحَانَهُ قَدِ «اسْتَوَى» كَمَا وَرَدَ
…
مِنْ غَيْرِ كَيْفٍ قَدْ تَعَالَى أَنْ يُحَدَّ (1)
وقدْ قَالَ بعضهم، مخاطبًا للزمخشريِّ، منكرًا عَلَيهِ نفيَ الصِّفاتِ، شعرًا:
قُلْ لِمَنْ يفهمُ عنِّي مَا أقولُ
…
قِصَرَ القَوْلِ فذا شرحٌ يَطُولُ
أَنْتَ لَا تفهمُ إيَّاك وَلَا
…
من أنْتَ وَلَا كيفَ الوُصولُ
لَا وَلَا تدري خَفَايا رُكِّبَتْ
…
فيكَ حارَتْ فِي خَبَايَاهَا العُقُولُ
أَنْتَ أَكْلُ الخُبْزِ لَا تَعْرِفُه
…
كيفَ يجري منكَ أم كيفَ تَبُولُ
أينَ منكَ الرُّوحُ فِي جَوْهَرِهَا
…
كيفَ تَسْرِي فيكَ؟ أم كيف تجولُ؟
فإذا كانَتْ طَوايَاكَ التي
…
بين جَنْبَيكَ كذا فِيهَا ضلولُ
كيفَ تَدْرِي مَنْ على العرشِ استوى
…
لَا تَقُل كَيْفَ اسْتَوَى كَيْفَ النُّزُولُ (2)
وما أحْسن ما قيل:
عَلىَ عرْشِهِ الرَّحْمَنُ سُبْحَانَهُ اسْتَوىَ
…
كَمَا أَخْبَرَ القُرْآنُ وَالمُصْطَفَى رَوَى
وَذَاكَ اسْتِواءٌ لَائِقٌ بِجَلَالِهِ
…
وَأَبْرَأُ مِنْ قَوْلِي لَهُ العرْشُ قَدْ حَوَى
فَمَنْ قَالَ مِثْلَ الفُلْكِ كَانَ اسْتِواَؤُهُ
…
عَلَى جَبَلِ الجودِي مِنْ شَاهِقٍ هَوَى
وَمَنْ يَتَّبِعْ مَا قَدْ تَشاَبَهَ يَبْتَغِي
…
بِهِ فِتْنَةً أَوْ يَبْغِي تَأْوِيلَهُ غَوَى
فَلَمْ أَقُلِ اسْتَوْلَى وَلَسْتُ مُكَلَّفًا
…
بِتَأْوِيِلِهِ كَلَّا وَلَمْ أَقُلِ احْتَوَى
ومَنْ قَالَ لي كَيْفَ اسْتَوَى لَا أُجِيبُهُ
…
بِشَيء سِوَى أَنِّي أَقُولُ لَهُ اسْتَوَى (3)
(1) العقيدة السفارينية (ص54)، تحقيق: أشرف عبد المقصود.
(2)
الدرر السنية (3/ 291 - 292).
(3)
شرح العقيدة السفارينية (ص101).