الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشُّبْهَةُ السَّادِسَةُ
لو كانَ الله فوقَ العرشِ للزمَ إمَّا أنْ يكونَ أكبرَ مِنَ العرشِ أو أصغرَ أو مساويًا وكلُّ ذلكَ مِنَ المحالِ
.
اعلمْ رحمكَ الله بأنَّ «طريقةَ سلفِ الأمَّةِ وأئمَّتها: أنَّهم يصفونَ الله بما وصفَ بهِ نفسهُ وبما وصفهُ بهِ رسولهُ: منْ غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ: إثباتٌ بلا تمثيلٍ، وتنزيهٌ بلا تعطيلٍ، إثباتُ الصفاتِ، ونفيُّ مماثلةِ المخلوقاتِ، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] فهذا ردٌّ على الممثِّلةِ {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ردٌّ على المعطِّلةِ» (1). وهذهِ: معالجةٌ: لسقمِ الأوهامِ، ودواءٌ لداءِ الأسقامِ، وشفاءٌ لأوامِ الجهلِ: على وجهِ الكمالِ والتمامِ (2).
ومنْ فهمَ هذه الآيةَ الكريمةَ حقَّ فهمها، وتدبَّرها حقَّ تدبُّرها مشى بها عندَ اختلافِ المختلفينَ في الصِّفاتِ على طريقةٍ بيضاءَ واضحةٍ، ويزدادُ بصيرةً إذا تأمَّلَ معنى قولهِ:{وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] فإنَّ هذا الإثباتَ بعدَ ذلكَ النَّفيَّ للمثلِ، قَدِ اشتملَ على بردِ اليقينِ، وشفاءِ الصُّدورِ، وانثلاجِ القلوبِ.
فاقدرْ يا طالبَ الحقِّ قدرَ هذهِ الحجَّةِ النيِّرةِ، والبرهانِ القويِّ، فإنَّك تحطِّمُ بها كثيرًا مِنَ البدعِ، وتهشِّمُ بها رؤوسًا مِنَ الضلالةِ، وترغِمُ بها آنافَ طوائفَ مِنَ القاصرينَ المتكلِّفينَ، والمتكلِّمينَ المتأوِّلينَ، ولا سيِّما إذا ضممتَ إليهِ قولَ الله سبحانهُ:{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] فإنَّكَ حينئذٍ قدْ أخذتَ بطرفي حبلِ ما يسمُّونهُ علمُ الكلامِ وعلمُ أصولِ الدِّينِ (3).
والردُّ على الشُّبهةِ المذكورةِ أنْ يقالَ:
(1) منهاج السنة (2/ 523).
(2)
السراج الوهاج (10/ 525 - 526).
(3)
فتح البيان (12/ 282).
إنَّ الله سبحانه وتعالى الموصوفَ بصفاتِ المجدِ والكبرياءِ والعظمةِ والجلالِ، «أكْبرُ منْ كلِّ شيءٍ ذاتًا وقدْرًا ومعنًى وعزَّةً وجلالةً، فهوَ أكْبرُ مِنْ كلِّ شيءٍ في ذاتهِ وصفاتهِ وأفْعالهِ كمَا هوَ فوقَ كلِّ شيءٍ، وعالٍ على كلِّ شيءٍ، وأعظمُ مِنْ كلِّ شيءٍ، وأجلُّ منْ كلِّ شيءٍ في ذاتهِ وصفاتهِ وأفْعالهِ (1). فهوَ الحيُّ القيُّومُ الذي ليسَ كمثلهِ شيءٌ في حياتهِ وقيُّوميَّتهِ، العليُّ الذي ليسَ كمثلهِ شيءٌ في علوِّهِ بلْ هوَ منفردٌ بذاتهِ وصفاتهِ عنْ مماثلةِ مخلوقاتهِ، فلهُ أعظمُ المباينةِ وأجلُّها وأكملُها كما لهُ منْ كلِّ صفةِ كمالٍ أعظمُها وأكملُها» (2).
والقائلُ الذي قالَ: لو كانَ الله فوقَ العرشِ للزمَ إمَّا أنْ يكونَ أكبرَ مِنَ العرشِ أو أصغرَ أو مساويًا، وكلُّ ذلكَ مِنَ المحالِ، ونحو ذلكَ مِنَ الكلامِ: فإنَّه لمْ يفهمْ منْ كونِ الله على العرشِ إلَّا ما يثبتُ لأيِّ جسمٍ كانَ على أيِّ جسمٍ كانَ، وهذا اللازمُ تابعٌ لهذا المفهومِ، أمَّا استواءٌ يليقُ بجلالِ الله تعالى ويختصُّ بهِ، فلا يلزمهُ شيءٌ مِنَ اللَّوازمِ الباطلةِ، التي يجبُ نفيهَا، كما يلزمُ منْ سائرِ الأجسامِ. وصارَ هذا مثلُ قولِ الممثِّلِ: إذا كان مستويًا على العرشِ فهوَ مماثلٌ لاستواءِ الإنسانِ على السريرِ أو الفلكِ، إذْ لا يُعلمُ الاستواءُ إلَّا هكذا فإنَّ كليهما مثَّلَ وكليهما عطَّلَ حقيقةَ ما وصفَ بهِ نفسَهُ، وامتازَ الأوَّلُ بتعطيلِ كلِّ اسمٍ للاستواء الحقيقيِّ، وامتازَ الثاني بإثباتِ استواءٍ هوَ منْ خصائصِ المخلوقينَ (3).
(1) الصواعق (ص1379).
(2)
الصواعق المرسلة (ص1338).
(3)
مجموع الفتاوى (5/ 27 - 28).
واعلمْ أنَّهُ ليسَ في العقلِ الصَّريحِ ولا في شيءٍ مِنَ النَّقلِ الصَّحيحِ ما يوجبُ مخالفةَ الطريقَ السَّلفيةَ أصلًا.
ثمَّ المخالفونَ للكتابِ والسُّنَّةِ وسلفِ الأمَّةِ - مِنَ المتأوِّلينَ لهذا البابِ - في أمرٍ مريجٍ؛ فإنَّ منْ أنكرَ الرؤيةَ يزعمُ أنَّ العقلَ يحيلُهَا، وأنَّهُ مضطرٌ فيهَا إلى التأويلِ،
…
ومنْ يزعمُ أنَّ الله ليسَ فوقَ العرشِ؛ يزعمُ أنَّ العقلَ أحالَ ذلكَ وأنَّهُ مضطرٌ إلى التأويلِ.
ويكفيكَ دليلًا على فسادِ قولِ هؤلاءِ: أنَّه ليسَ لواحدٍ منهم قاعدةٌ مستمرةٌ فيما يحيلهُ العقلُ، بلْ منهمْ منْ يزعمُ أنَّ العقلَ جوَّزَ وأوجبَ، ما يدَّعي الآخرُ أنَّ العقلَ أحالهُ (2). يعرفُ هذا كلُّ منصفٍ، ومنْ أنكرهُ فليصفِّ فهمهُ وعقلهُ عنْ شوائبِ التعصُّبِ والتمذهُّبِ؛ فإنَّهُ إنْ فعلَ ذلك أسفرَ الصبحُ لعينيهِ (3).
(1) مجموع الفتاوى (5/ 285).
(2)
مجموع الفتاوى (5/ 28 - 29).
(3)
فتح البيان (4/ 305).
والعجبُ أنَّ مِنْ هؤلاءِ مَنْ يصرِّحُ بأنَّ عقلَهُ إذا عارضَهُ الحديثُ - لا سيَّما في أخبارِ الصِّفاتِ - حملَ الحديثَ على عقلهِ وصرَّحَ بتقديمهِ على الحديثِ، وجعلَ عقلهُ ميزانًا للحديثِ. فليتَ شعري هلْ عقلهُ هذا كان مصرَّحًا بتقديمهِ في الشَّريعةِ المحمَّديةِ، فيكونُ من السبيلِ المأمورِ باتباعهِ، أمْ هوَ عقلٌ مبتدعٌ جاهلٌ ضالٌ حائرٌ خارجٌ عَنِ السَّبيلِ؟! (1).
ثمَّ نقولُ للجميعِ: بعقلِ مَنْ منكم يوزنُ كلامُ الله ورسولهِ؟! وأيُّ عقولكم تُجعلُ معيارًا لهُ؟! فما وافقهُ قُبِلَ وأُقِرَّ عَلَى ظاهرهِ وما خالفَه رُدَّ أو أوِّلَ أو فُوِّض (3).
(1) مجموع الفتاوى (4/ 57 - 58).
(2)
الصواعق (ص734 - 735).
(3)
الصواعق (ص783).
ونحنُ نقولُ: إذا تعارضَ النَّقلُ وهذه العقولُ أُخِذَ بالنَّقلِ الصَّريحِ ورُمِيَ بهذهِ العقولِ تحتَ الأقدامِ وحطَّتْ حيثُ حَطَّها الله وحَطَّ أصحابها (1).
فقبحًا لهاتيك العقولِ فإنَّها
…
عقالٌ على أصْحابها ووبال (2)
ورحمَ اللهُ الإمامَ مالكَ بنَ أنسٍ حيثُ قالَ: «كلَّما جاءنا رجلٌ أجدلَ منْ رجلٍ تركنا ما نزلَ به جبرائيلُ على محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لجدلهِ» (3).
(1) الصواعق (ص791).
(2)
شفاء العليل (2/ 821)، طبعة مكتبة العبيكان.
(3)
أخرجه الذهبي في «العلو» (ص950) بسند صحيح.
وفي ختام الردِّ على الشُّبهةِ المذكورةِ نقولُ للمشتغلينَ بعلمِ الكلامِ «إذا علمَ الإنسانُ بالعقلِ أنَّ هذا رسولُ الله وعلمَ أنَّهُ أخبرَ بشيءٍ، ووجدَ في عقلهِ ما ينافي خبرهُ، كان الواجبُ عليه أنْ يسلِّم لما أخبر بهِ الصَّادقُ الذي هو أعلمُ منهُ، وينقادُ لهُ ويتَّهمُ عقلَهُ، ويعلَمُ أنَّ عقلَهُ بالنِّسبةِ إليهِ أقلُّ منْ عقلِ أجهلِ الخلقِ بالنسبةِ إليهِ هوَ، وأنَّ التَّفاوتَ الذي بينهما في العلمِ والمعرفةِ بالله تعالى وأسمائهِ وصفاتهِ وأفعالهِ ودينهِ أعظمُ بكثيرٍ كثيرٍ مِنَ التفاوتِ الذي بينَ منْ لا خبرةَ لهُ بصناعةِ الطبِّ، ومنْ هو أعلمُ أهلِ زمانهِ بها. فيالله العجبُ إذا كان عقلهُ يوجبُ عليهِ أنْ ينقادَ لطبيبٍ يهوديٍّ فيما يخبرُ بهِ منْ قوى الأدويةِ والأغذيةِ والأشربةِ والأضمدةِ والمسهِّلاتِ وصفاتهَا وكميَّاتها ودرجاتها، مَعَ ما عليهِ في ذلكَ من الكَلَفَة والألمِ ومقاساةِ المكروهاتِ، لظنِّه أنَّ هذا أعلمُ بهذا الشَّأنِ منهُ، وأنَّهُ إذا صدَّقهُ كانَ في تصديقهِ حصولُ الشِّفاءِ والعافيةِ، مَعَ علمهِ بأنَّه يخطىءُ كثيرًا، وأنَّ كثيرًا مِنَ النَّاسِ لا يشفى بما يصفهُ الطبيبُ، بلْ يكونُ استعمالهُ لما يصفهُ سببًا منْ أسبابِ هلاكهِ، وأنَّ أسبابَ الموتِ أغلاطُ الأطباءِ، فكمْ لهمْ منْ قتيلٍ أسكنوهُ المقابرَ بغلطهم وخطئهم؟ وإنْ كان خطأُ الطبيبِ إصابةَ المقاديرِ، وكيفَ لا يسلكُ هذا المسلكَ مَعَ الرسل «صلواتُ الله وسلامهُ عليهم» وهمُ الصَّادقونَ المصْدقون؟ ولا يجوزُ أن يكونَ خبرهم على خلافِ ما أخبروا بهِ والذين عارضوا أقوالهم بعقولهم عندهم مِنَ الجهلِ والضَّلالِ المركَّبِ والبسيطِ ما لا يحصيهِ إلَّا منْ هوَ بكلِّ شيءٍ محيط (1).
(1) الصواعق (ص822 - 823).
الشُّبْهَةُ السَّابِعَةُ
يستدلُّ المشتغلونَ بعلمِ الكلامِ بقولِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا قَامَ أَحَدُكمْ إِلَى الصَّلَاةِ، فَإِنَّ اللهَ قِبَلَ وَجْهِهِ، فَلَا يَبْصُق قِبَلَ وَجْهِهِ» (1)، على نفي العلوِّ.
قَالَ ابنُ عبدِ البرِّ رحمه الله تعليقًا عَلَى هذا الحديث: وقد نزعَ بهذا الحديثِ بعضُ مَنْ ذهبَ مذهبَ المعتزلةِ فِي أنَّ الله عز وجل فِي كلِّ مكانٍ، وليس عَلَى العرشِ، وهذا جدلٌ منْ قائلهِ (2).
وقالَ شيخُ الاسلامِ رحمه الله: الحديثُ حقٌّ على ظاهرهِ، وهوَ سبحانهُ فَوْقَ العَرْشِ وهوَ قِبَلَ وجهِ المصلِّي، بل هذا الوصفُ يثبتُ للمخلوقاتِ.
فإنَّ الإنسانَ لو أنَّهُ يناجي السَّماءَ أو يناجي الشَّمسَ والقمرَ لكانت السَّماءُ والشمسُ والقمرُ فوقهُ، وكانتْ أيضًا قبلَ وجههِ؛ مَعَ أنَّ الشمسَ قدْ تشرقُ وقدْ تغربُ، فتنحرفُ عنْ سمتِ الرأسِ، فكيفَ بمنْ هوَ فوق كلِّ شيءٍ دائمًا لا يأفلُ ولا يغيبُ سبحانه وتعالى!!
وقد ضربَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المثلَ بذلكَ - ولله المثلُ الأعلى - ولكن المقصودَ بالتمثيلِ بيانُ جوازِ هذا وإمكانهُ، لا تشبيهَ الخالقِ بالمخلوقِ - فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«ما مِنْكُم من أحدٍ إلا سيرى رَبَّهُ مَخْلِيًّا به» فقال له أبو رزين العقيلي: كيفَ يا رسول الله وهو واحدٌ ونحنُ جميع؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «سأنبِّئُكَ بمثل ذلك في آلاء الله، هذا القمرُ كُلُّكُم يراه مَخْلِيًّا به، وهو آيةٌ من آياتِ الله، فاللهُ أكبرُ» (3). وقال: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» (4).
(1) رواه البخاري (406 و753 و1213 و6111)، ومسلم (547).
(2)
التمهيد (14/ 157).
(3)
رواه ابن ماجه (180)، وحسَّنه الألباني في «صحيح سنن ابن ماجه» (150).
(4)
رواه البخاري (554 و573 و4851 و7434 و7435 و7436)، ومسلم (633).
فشبَّهَ الرؤيةَ بالرؤيةِ، وإنْ لم يكنْ المرئيُّ مشابهًا للمرئيِّ؛ فالمؤمنونَ إذا رأوا ربَّهم يومَ القيامةِ وناجوهُ كلٌّ يراهُ فوقهُ قِبَلَ وجههِ، كما يُرى الشمسُ والقمرُ، ولا منافاةَ أصلًا.
ومنْ كانَ لهُ نصيبٌ مِنَ المعرفةِ بالله، والرسوخِ في العلمِ بالله: يكونُ إقرارهُ للكتابِ والسنَّةِ على ما هما عليهِ أوكد (1).
فقدْ تبيَّن بهذا الكلامِ «أنَّ ما جاءَ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في هذا البابِ وغيرهِ، كلُّهُ حقٌّ يصدِّقُ بعضهُ بعضًا، وهو موافقٌ لفطرةِ الخلائقِ، وما جعلَ فيهِ مِنَ العقولِ الصَّريحةِ، والقصودِ الصَّحيحةِ، لا يخالفُ العقلَ الصَّريحَ، ولا القصدَ الصَّحيحَ، ولا الفطرةَ المستقيمةَ، ولا النَّقلَ الصحيحَ الثَّابتَ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
وإنَّما يظنُّ تعارضها: منْ صدَّقَ بباطلٍ، مِنَ النقولِ، أو فهمَ منهُ ما لم يدلَّ عليهِ؛ أو اعتقدَ شيئًا ظنَّهُ مِنَ العقلياتِ وهوَ مِنَ الجهلياتِ. أو مِنَ الكشوفاتِ وهوَ مِنَ الكسوفاتِ» (2).
الشبهة الثامنة
يستدلُّ المشتغلونَ بعلمِ الكلامِ بقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَنتَ الظّاهِرُ فَلَيسَ فَوْقَكَ شيءٌ، وَأَنْتَ البَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شيءٌ» (3) عَلَى نفيِ العلوِّ.
وهذا الاستدلالُ باطلٌ منْ وجهينِ:
الوجهُ الأوَّلُ:
قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَنتَ الظّاهر فَلَيسَ فَوْقَكَ شيءٌ» إثباتٌ صريحٌ لفوقيَّةِ اللهِ عَلَى كلِّ شيءٍ، ونفيُها عنْ كلِّ شيءٍ؛ فإنَّ الظاهرَ معناه: هو العالي فوقَ كلِّ شيءٍ فلا شيءَ أعلى منهُ. وهذا غايةُ الكمالِ في العلوِّ أنْ لا يكون فوقَ العالي شيءٌ موجودٌ، واللهُ موصوفٌ بذلكَ (4).
(1) مجموع الفتاوى (5/ 107، 577) و (6/ 569).
(2)
مجموع الفتاوى (6/ 580).
(3)
رواه مسلم (2713).
(4)
درء تعارض العقل والنقل (7/ 11).
وكلُّ شيءٍ علا شيئًا فقدْ ظهرَ، قال الله عز وجل:{فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا *} [الكهف: 97] أي يعلوا عليهِ (1). ومنهُ قولهُ تعالى: {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 23] أي: يرتفعونَ ويصعدونَ ويعلونَ عَلَيهِ (أي عَلَى الدُّرجِ).
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] أي: ليعليهُ، ومنهُ ظهرُ الدَّابةِ، لأنَّه عالي عَلَيهَا.
ويُقالُ: ظهرَ الخطيبُ عَلَى المنبرِ، وظاهرُ الثَّوبِ أعلاهُ، بخلافِ بطانتهِ. وكذلكَ ظاهرُ البيتِ أعلاهُ، وظاهرُ القولِ مَا ظهرَ منهُ وبانَ. وظاهرُ الإنسانِ خلافُ باطنهِ، فكلَّمَا عَلَا الشيءُ ظهرَ (2).
قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله:
والظَّاهرُ العَالِي الَّذِي مَا فَوقَهُ
…
شَيءٌ كَمَا قَدْ قَالَ ذُو البُرْهَانِ
حَقًّا رَسُولُ الله ذَا تَفْسِيرُهُ
…
وَلَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِضَمَانِ
فَاقْبَلْهُ لَا تَقْبَلْ سِوَاهُ مِنَ التَّفَا
…
سِيرِ التِي قِيلَتْ بِلَا بُرْهَانِ
والشَّيءُ حِينَ يَتِمُّ مِنْه عُلُوُّهُ
…
فَظُهورُهُ فِي غَايَةِ التِّبْيَانِ
أوَ مَا تَرَى هَذِي السَّمَا وَعُلُوَّهَا
…
وَظُهُورَهَا وَكَذَلِكَ القَمَرَانِ (3)
الوَجْهُ الثاني:
أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «وَأَنْتَ البَاطِن فَلَيْسَ دُونَكَ شيءٌ» ولمْ يقلْ: «فليسَ تحتكَ شيءٌ» .
(1) التمهيد (8/ 97).
(2)
مجموع الفتاوى (5/ 244)، وانظر: شرح الواسطية (1/ 181) لابن عثيمين رحمه الله، وفتح الباري (4/ 276 - 277) لابن رجب، وجامع البيان (م11/ج25/ص43) و (م11/ج27/ص124 - 125).
(3)
الكافية الشافية (ص113 - 114).
والمعنى: لَيْسَ دونَ الله شيءٌ، لا أحدٌ يدبِّر دونَ الله، لا أحدٌ ينفردُ بشيءٍ دونَ الله، وَلَا أحدٌ يخفى عَلَى الله، كلُّ شيء فاللهُ محيطٌ بهِ، ولهذا قَالَ:«لَيْسَ دُونَكَ شيء» يعني: لا يحولُ دونَكَ شيءٌ، وَلَا يمنعُ دونكَ شيءٌ، وَلَا ينفعُ ذا الجدِّ منكَ الجدُّ
…
وهكذا (1).
الشُّبْهَةُ التَّاسِعَةُ
قال الجويني: «فإن استدلوا - يعني أهلُ السنَّةِ - بظاهرِ قولهِ تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5] فالوجهُ معارضتهم بآي يساعدوننَا على تأويلها: منها قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]
…
فنسألهم عنْ معنى ذلكَ، فإنْ حملوهُ على كونهِ معنا بالإحاطةِ والعلمِ، لم يمتنعْ حملُ الاستواءِ على القهرِ والغلبةِ» (2).
قال ابنُ قدامة رحمه الله: قلنَا: نحنُ لم نتأوَّل شيئًا، وحملُ هذه اللَّفظاتِ عَلَى هذهِ المعاني ليسَ بتأويلٍ، لأنَّ التأويلَ صرفُ اللَّفظ عنْ ظاهرهِ، وهذهِ المعاني هي الظاهرُ منْ هذهِ الألفاظِ بدليلِ أنَّهُ المتبادرُ إلى الأفهامِ منهَا.
وإذا تقرَّرَ هَذَا فالمتبادرُ إلى الفهمِ منْ قولهم: «اللهُ معكَ» أي بالحفظِ والكلاءةِ، ولذلكَ قَالَ اللهُ تعالى - فيما أخبرَ عنْ نبيِّهِ -:{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] وقال لموسى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] ولوْ أرادَ أنَّهُ بذاتهِ مَعَ كلِّ أحدٍ لمْ يكنْ لهمُ بذلكَ اختصاصٌ لوجودهِ فِي حقِّ غيرهم كوجودهِ فيهم، ولم يكنْ ذلك موجبًا لنفيِ الحزنِ عن أبي بكرٍ وَلَا علَّةَ لهُ.
فعُلمَ أنَّ ظاهرَ هذهِ الألفاظِ هوَ مَا حُملتْ عَلَيهِ فلمْ يكنْ تأويلًا.
(1) شرح العقيدة الواسطية (2/ 51)، للعلامة ابن عثيمين رحمه الله.
(2)
الإرشاد للجويني (ص40).
ثمَّ لَوْ كانَ تأويلًا فمَا نحنُ تأوَّلنا، وإنَّما السَّلفُ رحمةُ الله عليهم الّذي ثبتَ صوابهم ووجبَ اتِّباعهم هم الذين تأوَّلوه، فإنَّ ابنَ عبّاسٍ والضحاكَ ومالكًا وسفيانَ وكثيرًا مِنَ العلماءِ قالوا فِي قوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد: 4] أي علمهُ.
ثمَّ قدْ ثبتَ بكتابِ اللهِ والمتواترِ عنْ رسولِ اللهِ وإجماعِ السَّلفِ أنَّ الله تعالى فِي السَّمَاءِ عَلَى عرشهِ، وجاءتْ هذهِ اللَّفظةُ مَعَ قرائنَ محفوفةٍ بها دالَّةً عَلَى إرادةِ العلمِ منهَا وهوَ قوله:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [المجادلة: 7] ثمَّ قَالَ فِي آخرهَا: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75] فبدأهَا بالعلمِ وختمهَا بهِ، ثمَّ سياقهَا لتخويفهم بعلمِ الله تعالى بحالهمْ، وأنَّهُ ينبئهم بما عملوا يومَ القيامةِ ويجازيهم عَلَيهِ.
وهذهِ قرائنُ كلُّها دالَّةٌ عَلَى إرادةِ العلمِ. فقد اتَّفقَ فيهَا هذهِ القرائنُ ودلالةُ الأخبارِ عَلَى معناها ومقالةُ السَّلفِ وتأويلهم فكيفَ يلحقُ بها مَا يخالفُ الكتابَ والأخبارَ ومقالاتِ السَّلفِ؟!! فهذا لا يخفى عَلَى عاقلٍ إنْ شاءَ الله تعالى، وإنْ خفيَ فقدْ كشفناهُ وبيَّنَّاهُ بحمدِ الله تعالى (1).
وقال العلامةُ يحيى بن أبي الخير العمراني: فإنْ قال قائلٌ: فلمَ تأوَّلتم قولَ الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7] الآية.
(1) ذم التأويل (ص45 - 46).
قلنا لهُ: لأنَّ القرآنَ يعاضدُ بعضُهُ بعضًا، وقدْ أخبرَ الله تعالى أنَّهُ على العرشِ استوى، وأخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم. فعلمنَا أنَّ هناك معنًى يختصُّ بهِ العرشُ دونهُ، فقلنَا هو على العرشِ استوى، ولا نكيِّفُ الاستواءَ؛ بلْ نصدِّقُ ونؤمنُ بهِ إيمانًا مجملًا، وأنَّهُ تعالى الله أنْ يكونَ في الحشوشِ والأمكنةِ الدنيئةِ فنزَّهناهُ عنهَا، وحملنا هذهِ الآيةِ على الإحاطةِ والعلمِ لذكرهِ العلمَ في ابتداءِ الآيةِ وآخرهَا، كما حملنا قولهُ تعالى لموسى وهارون:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] على النَّصرِ والتأييدِ وإنْ كانَ يسمعُ كلامَ فرعونَ ويراهُ كما يسمعُ كلامهمَا ويراهما، وليس كذلكَ هذهِ الآياتُ والأخبارُ التي وردتْ بصفاتِ الذَّاتِ فإنَّ العقولَ تقصرُ عنْ معرفةِ المرادِ بها فلزمنَا بالضَّرورةِ التَّصديقُ بها والإمساكُ عنها (1).
وقالَ شيخُ الإسلامِ ابن تيميَّة رحمه الله: إنَّ الكتابَ والسنَّةَ يحصلُ منهما كمالُ الهدى والنُّورِ لمنْ تدبَّر كتابَ الله وسنَّةَ نبيِّهِ، وقصدَ اتِّباعَ الحقِّ، وأعرضَ عنْ تحريفِ الكلمِ عنْ مواضعهِ، والإلحادِ في أسماءِ اللهِ وآياتهِ.
ولا يحسبُ الحاسبُ أنَّ شيئًا منْ ذلكَ يناقضُ بعضهُ بعضًا البتّةَ، مثل أنْ يقولَ القائلُ: ما في الكتابِ والسنَّةِ منْ أنَّ الله فوقَ العرشِ يخالفُ الظاهرَ منْ قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] ونحو ذلكَ، فإنَّ هذا غلطٌ.
(1) الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (2/ 634 - 635).
وذلكَ أنَّ الله معنا حقيقةً، وهوَ فوقَ العرشِ حقيقةً، كمَا جمعَ اللهُ بينهمَا في قولهِ سبحانه وتعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4]. فأخبرَ أنَّه فوقَ العرشِ يعلمُ كلَّ شيءٍ، وهوَ معنا أينما كنَّا.
وذلكَ أنَّ كلمةَ (مع) في اللُّغةِ إذا أطلقتْ فليسَ ظاهرهَا في اللُّغةِ إلَّا المقارنةَ المطلقةَ؛ منْ غيرِ وجوبِ مماسةٍ أو محاذاةٍ عنْ يمينٍ أو شمالٍ؛ فإذا قيِّدتْ بمعنًى مِنَ المعاني دلَّتْ على المقارنةِ في ذلكَ المعنى. فإنَّه يقالُ: ما زلنا نسيرُ والقمرُ معنَا أو والنَّجمُ معنا. فاللهُ مَعَ خلقهِ حقيقةً، وهو فوقَ عرشهِ حقيقةً.
ثمَّ هذهِ «المعيةُ» تختلفُ أحكامُهَا بحسبِ المواردِ فلمَّا قالَ: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} [الحديد: 4] إلى قولِه: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]. دلَّ ظاهرُ الخطابِ على أنَّ حكمَ هذهِ المعيَّةِ ومقتضاهَا أنَّه مطَّلعٌ عليكمْ؛ شهيدٌ عليكم ومهيمنٌ عالمٌ بكمْ، وهذا معنى قولِ السَّلفِ: إنَّه معهم بعلمهِ، وهذا ظاهرُ الخطابِ وحقيقتهُ.
وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الأهْلِ» (1). فهو سبحانهُ مَعَ المسافرِ في سفرهِ ومع أهلهِ في وطنهِ، ولا يلزمُ منْ هذا أن تكونَ ذاتهُ مختلطةً بذواتهم، كمَا قالَ:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح: 29] أي: معهُ على الإيمانِ، لا أنَّ ذاتهم في ذاتهِ، بل همْ مصاحبونَ لهُ، وقوله:{فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 146] يدلُّ على موافقتهم في الإيمانِ وموالاتهم.
(1) رواه مسلم (1342).
فاللهُ تعالى عالمٌ بعبادهِ وهوَ معهم أينما كانوا، وعلمهُ بهم منْ لوازمِ المعيَّةِ (1).
وكذلكَ في قولهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} إلى قوله: {هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7]. فإنَّهُ افتتحَ الآيةَ بالعلمِ وختمهَا بالعلمِ، فكانَ السِّياقُ يدلُّ على أنَّه أرادَ أنَّهُ عالمٌ بهم (2).
ولمَّا قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لصاحبهِ في الغارِ: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] كانَ هذا أيضًا حقًّا على ظاهرهِ، ودلَّتِ الحالُ على أنَّ حكمَ هذهِ المعيَّةِ هنا معيةُ الاطِّلاعِ، والنَّصرِ والتأييدِ.
وكذلكَ قولهُ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ *} [النحل: 128] وكذلك قولهُ لموسى وهارونَ: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 4]. هنا المعيةُ على ظاهرهَا، وحكمهَا في هذهِ المواطنِ النَّصرُ والتأييدُ (3).
فلفظُ «المعيَّةِ» قد استعملَ في الكتابِ والسنَّةِ في مواضعَ، يقتضي في كلِّ موضعٍ أُمورًا لا يقتضيهَا في الموضعِ الآخرِ، فإمَّا أنْ تختلفَ دلالتها بحسبِ المواضعِ، أو تدلُّ على قدرٍ مشتركٍ بينَ جميعِ مواردهَا - وإن امتازَ كلُّ موضعٍ بخاصيَّةٍ - فعلى التقديرينِ ليسَ مقتضاها أنْ تكونَ ذاتُ الرَّبِّ عز وجل مختلطةً بالخلقِ، حتَّى يقال قدْ صرفتْ عن ظاهرهَا.
(1) مجموع الفتاوى (5/ 231).
(2)
مجموع الفتاوى (5/ 495).
(3)
مجموع الفتاوى (5/ 104).
ومنْ علمَ أنَّ «المعيةَ» تضافُ إلى كلِّ نوعٍ منْ أنواعِ المخلوقاتِ - كإضافةِ الربوبيةِ مثلًا - وأنَّ الاستواءَ على الشيءِ ليسَ إلَّا للعرشِ، وأنَّ الله يوصفُ بالعلوِّ والفوقيَّةِ الحقيقيةِ، ولا يوصفُ بالسُّفولِ ولا بالتحتيَّةِ قطُّ، لا حقيقةً ولا مجازًا: عُلِمَ أنَّ القرآنَ على مَا هوَ عليهِ مِنْ غيرِ تحريفٍ (1).
الشُّبْهَةُ العَاشِرَةُ
قالَ النَّسفي في قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] أي: من ملكوته في السَّماءِ؛ لأنَّها مسكنُ ملائكتهِ، ومنها منزلُ قضاياه وكتبهِ وأوامرهِ ونواهيهِ، فكأنَّهُ قالَ: أأمنتم خالقَ السَّماءِ وملكَهُ؛ أو لأنَّهم [أي المشركين] كانوا يعتقدونَ التَّشبيهَ، وأنَّه في السَّماء، وأنَّ الرحمةَ والعذابَ ينزلانِ منهُ؛ فقيل لهمْ على حسبِ اعتقادهم: أأمنتمْ منْ تزعمونَ أنَّه في السَّماءِ وهو متعالٍ عَنِ المكانِ (2).
أقولُ وبالله التوفيق: هذا تحريفٌ لكتابِ الله تعالى؛ فقدْ حرَّف هذهِ الآيةَ بتحريفينِ فاضحينِ:
أمَّا التَّحريفُ الأوَّلُ: فهوَ تأويلُ قولهِ تعالى: {مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] بمنْ ملكوتهُ في السَّماءِ، يعني أنَّ الله تعالى ليسَ في السَّماءِ بلْ ملكوتهُ في السَّماءِ، وهذا تحريفٌ محضٌ؛ لأَنَّهُ خارجٌ عنْ لغةِ العربِ ولا يقتضيهِ سياقُ هذهِ الآيةِ البتةَ؛ فإنَّ كلمةَ «من» اسمُ موصولٍ بمعنى «الذي» والمرادُ هوَ الله تعالى وكلمةُ «في» بمعنى «على» و «السَّماء» هو «العلوُّ» فكلُّ ما علا فهو سماء، فكلمةُ «في» ليستْ للظرفيَّةِ، و «السَّماء» ليسَ المرادُ منهَا الفلكَ والجسمَ، بل المرادُ جهة العلوِّ.
(1) مجموع الفتاوى (5/ 102 - 106).
(2)
مدارك التنزيل وحقائق التأويل (4/ 222) للنسفي.
فمعنى هذه الآيةِ الكريمةِ عندَ سلفِ هذهِ الأمَّةِ وأئمَّةِ السنةِ: أمَا تخافونَ الله الذي هوَ على السَّماءِ العالي على خلقهِ وفوقَ عبادهِ أنْ يرسلَ عليكمْ حاصبًا، وأنْ يخسفَ بكمُ الأرضَ.
ثمَّ سياقُ هذهِ الآيةِ وكلمةُ «منْ» الموصولةُ، وكلمةُ «يرسل» وكلمةُ «يخسف» معَ كثرةِ تلكَ الآياتِ القرآنيةِ والأحاديثِ النبويَّةِ وفطرةِ جميعِ بني آدمَ كلِّها تدلُّ دلالةً قاطعةً على أنَّ تأويلَ النَّسفيِّ لهذهِ الآيةِ تحريفٌ وهميٌ، كما تدلُّ على أنَّ الصحيحَ الحقَّ الصريحَ هو أنَّ الله تعالى في جهةِ العلوِّ فوقَ العالمِ عالٍ على خلقهِ أجمعين.
وأمَّا التَّحريفُ الثاني: وهوَ قولُ النَّسفيِّ: إنَّ هذهِ الآيةَ محمولةٌ على زعمِ المشركينَ من المشبِّهةِ: أنَّ الله تعالى فوقَ السَّماءِ، فقالَ الله تعالى لهم: أنتم أيُّها المشركونَ المشبِّهونَ تعتقدونَ أنَّ الله تعالى في السَّماءِ، فلمَ لا تخافونهُ.
أقولُ: قصدَ النَّسفيُّ أنَّ عقيدةَ كونِ الله تعالى في السَّماءِ، مِنَ العقائدِ الفاسدةِ للمشبِّهةِ المشركينَ، وليستْ هذهِ العقيدةُ مِنَ العقائدِ الصحيحةِ للموحِّدينَ المسلمينَ!!.
وانظرْ أيُّها المسلمُ كيفَ حرَّفَ المصنِّفُ معنى هذهِ الآيةِ!! حتَّى جعلَ العقيدةَ السَّلفيةَ - أي العلوُّ لله تعالى - عقيدةً للمشبِّهةِ المشركينَ، فقدْ حكمَ على عقيدةِ جميعِ الأنبياءِ والمرسلينَ والصَّحابةِ والتَّابعينَ وأئمَّةِ هذا الدِّينِ - وهي عقيدةُ علوِّ الله تعالى على خلقهِ - بأنَّها عقيدةُ المشبِّهةِ المشركينَ.
وقدْ ردَّ عليه علامةُ العراقِ الألوسيُّ المفسِّرُ حيثُ قالَ: