الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شُبُهَاتٌ والرَّدُّ عَلَيْهَا
اعلمْ رحمكَ اللهُ بأنَّ النُّصوصَ الدَّالَّةَ على علوِّ الله على العرشِ: لا تخفى على ذي عيانٍ؛ بل أجلى منْ ضياءِ الشمسِ في البيانِ، لكنْ لمن له فهمٌ ثاقبٌ، وعقلٌ كاملٌ، وبصرٌ ناقدٌ.
وهذه النُّصوصُ الدَّالَّةُ على علوِّ الله على العرش «لمْ يعارضْهَا قطُّ صريحٌ معقولٌ، فضلًا عنْ أنْ يكونَ مقدَّمًا عليهَا، وإنَّما الذي يعارضُهَا «جهليَّاتٌ» ، و «ضلالاتٌ» ، و «خيالاتٌ» ، و «شبهاتٌ مكذوباتٌ» ، و «أوهامٌ فاسدةٌ» ، وأنَّ تلك الأسماء ليستْ مطابقةً لمسمَّاها، بلْ هي منْ جنسِ تسميةِ الأوثانِ «آلهةً» و «أربابًا» ، وتسميةِ «مسيلمةَ الكذَّاب» وأمثاله «أنبياء»:{إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى *} [النجم: 23]» (1)، مبناهَا عَلَى معانٍ متشابهةٍ وألفاظٍ مجملةٍ، فمتى وقعَ الاستفسارُ والبيانُ ظهرَ أنَّ ما عارضهَا شبهٌ سوفسطائيةٌ (2)، لا براهين عقلية.
قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله:
فَأَدِلَّةُ الإِثْبَاتِ حَقًّا لَا يَقْو
…
مُ لَهَا الجِبَالُ وَسَائِرُ الأكْوَانِ
تَنْزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ وَوَحْيُهُ
…
مَعْ فِطْرَةِ الرَّحمنِ وَالبُرْهَانِ
أنَّى يُعَارضُها كِنَاسَةُ هَذِهِ الـ
…
أذْهَانِ بِالشُّبُهَاتِ وَالهَذَيَانِ
وَجَعَاجِعٌ وَفَرَاقِعٌ مَا تَحْتَهَا
…
إلَّا السَّرابُ لوَارِدٍ ظَمْآنِ (3)
(1) درء تعارض العقل والنقل (5/ 255 - 256).
(2)
بين شيخ الاسلام رحمه الله في «بيان تلبيس الجهمية» 1/ 324): أنَّ كلمةَ السَّفْسَطَةِ تتضمن إنكارَ الحقِّ، وتمويهَهُ بالباطل؛ فكُلُّ من جحد حقًا معلومًا، ومَوَّهَ ذلك بباطل فهو مُسَفْسِطٌ.
(3)
الكافية الشافية (ص154).
وإنَّ المشتغلينَ بعلمِ الكلامِ جعلوا أقْوالهم التي ابتدعوهَا، أصولَ دينهمْ - وإن سمُّوها «أصولَ العلم والدِّين» فهي «تَرْتِيبُ الأُصُولِ في مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ والمَعقُولِ» - ومعتقدهمْ في ربِّ العالمينَ هيَ المحكمةُ، وجعلوا قولَ الله ورسولهِ هو المتشابهُ الذي لا يستفادُ منهُ علمٌ ولا يقينٌ، ثمَّ ردُّوا تشابهَ الوحيِ إلى محكمِ كلامهم وقواعدهم.
وهذا كمَا أحدثوهُ مِنَ الأصولِ التي نفوا بها صفاتِ الرَّبِّ جل جلاله، ونعوتِ كمالهِ، ونفوا بها كلامهُ، وتكليمَهُ، وعلوَّهُ على عرشهِ، محكمًا، وجعلوا النُّصوصَ الدَّالَّةِ على خلافِ تلكِ القواعدِ والأصولِ متشابهةً يقضي بتلكَ القواعدِ عليها وتردُّ النُّصوصُ إليها.
وأمَّا أهلُ العلمِ والإيمانِ فطريقهم عكسُ هذهِ الطريقةِ منْ كلِّ وجهٍ، يجعلونَ كلامَ اللهِ ورسولهِ هو الأصلُ الذي يُعْتَمَدُ عليهِ، ويردُّ ما يتنازعُ النَّاسُ فيهِ إليهِ، فمَا وافقهُ كانَ حقًّا، وما خالفهُ كانَ باطلًا، وإذا وردَ عليهم لفظٌ مشتبهٌ ليسَ في القرآنِ ولا في السنَّةِ [كالحيِّزِ والجهةِ والمكانِ والجسمِ والحركةِ] لمْ يتلقَّوهُ بالقبولِ، ولمْ يردُّوهُ بالإنكارِ حتَّى يسْتفصلوا قائلهُ عنْ مرادهِ، فإنْ كانَ حقًّا موافقًا للعقلِ والنَّقلِ قبلوهُ، وإنْ كانَ باطلًا مخالفًا للعقلِ والنَّقلِ ردُّوهُ، ونصوصُ الوحيِ عندهم أعْظمُ وأكْبَرُ في صدورهم مِنْ أنْ يقدِّموا عليها ألْفاظًا مجملةً، لها معانٍ مشْتبهةٍ (1).
(1) الصواعق (ص991 - 992)، وانظر:«فتح الباري» (7/ 239 - 241) لابن رجب الحنبلي.
وهذا أصلٌ مهمٌّ، منْ تصوَّرهُ وتدبَّرهُ انتفعَ بهِ غايةَ النَّفعِ وتخلَّصَ بهِ منْ ضلالِ المتفلسفينَ، وحيرةِ المتكلِّمينَ، «وعرفَ حقيقةَ الأقوالِ الباطلةِ، وما يلزمها مِنَ اللَّوازمِ، وعرفَ الحقَّ الذي دلَّ عليهِ صحيحُ المنقولِ، وصريحُ المعقولِ لا سيَّما في هذهِ الأصولِ التي هي أصولُ كلِّ الأصولِ، والضَّالُّونَ فيها لما ضيَّعوا الأصولَ حُرِموا الوصول» (1). والأصولُ اتِّباعُ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم (2). كما قيل:
أيُّها المُغْتَدِي لِتَطْلُبَ عِلْمًا
…
كُلُّ عِلْمٍ عَبْدٌ لِعِلْمِ الرَّسُولِ
تَطْلُبُ الفِرْعَ كي تُصَحِّحَ حكمًا
…
ثُمَّ أَغْفَلْتَ أَصْلَ أَصْلِ الأُصُولِ (3)
قالَ شيخُ الإسلامِ رحمه الله: الرسولُ صلى الله عليه وسلم بيَّنَ الأصولَ الموصلةَ إلى الحقِّ أحسنَ بيانٍ، وبيَّنَ الآياتِ الدَّالةَ على الخالقِ سبحانُه، وأسمائهِ الحسنى، وصفاتهِ العليا، ووحدانيتهِ، على أحسنِ وجهٍ.
وأمَّا أهلُ البدعِ منْ أهلِ الكلامِ والفلسفةِ ونحوهم فهمْ لم يثبتوا الحقَّ، بلْ أصَّلوا أصولًا تناقضُ الحقَّ، فلمْ يكفهم أنَّهم لم يهتدوا ولم يدلُّوا على الحقِّ، حتَّى أصَّلوا أصولًا تناقضُ الحقَّ، ورأوا أنَّها تناقضُ ما جاء بهِ الرسول صلى الله عليه وسلم، فقدَّموها على ما جاءَ بهِ الرسولُ (4) صلى الله عليه وسلم فيا بئسَ ما أصَّلوا وما فرَّعوا.
(1) مجموع الفتاوى (8/ 27).
(2)
مجموع الفتاوى (13/ 157).
(3)
مجموع الفتاوى (13/ 158).
(4)
مجموع الفتاوى (16/ 439 - 440).