الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(أحدُهما): أنَّهُ المتكلِّمُ، وأنَّهُ منهُ نزلَ، ومنهُ بدأ وَهُوَ الَّذِي تكلَّم بِهِ.
(والثاني): علوُّ اللهِ سبْحَانَهُ فَوْقَ خلقهِ، فإنَّ النزولَ والتنزيلَ الذِي تعقلهُ العقولُ، وتعرفهُ الفِطَرُ: هُوَ وصولُ الشيءِ مِنْ أعلى إِلَى أسفلَ. والرَّبُّ تَعَالَى إنَّما يخاطِبُ عبادَهُ بِمَا تعرِفُهُ فِطَرُهُم، وتَشْهَدُ بِهِ عقولُهم.
قال ابنُ القيِّم رحمه الله:
واللهُ أخبرَنَا بأنَّ كتابَهُ
…
تنزيلُه بالحقِّ والبُرهَانِ
أيكونُ تنزيلًا وليسَ كلامَ مَنْ
…
فوقَ العبادِ أذاكَ ذو إمْكَانِ
أيكونُ تنزيلًا من الرَّحمنِ والرَّ
…
حمنُ لَيسَ مباينَ الأَكوَانِ (1)
الثامنُ:
التَّصْرِيحُ باختصاصِ بعضِ المخلوقاتِ بأنَّهَا عندهُ، وأنَّ بعضَها أقربُ إليهِ منْ بعضٍ
.
قال سبحانه وتعالى: {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38]. {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ *} [الأنبياء: 19]. {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11]. {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ *} [القمر: 54 - 55]. {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 21]. {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ *} [الأعراف: 206].
(1) الكافية الشافية (ص109 - 110).
فدلَّتْ هذهِ الآيةُ على أنَّ الذينَ عندهُ همْ قريبونَ إليهِ و «لو كانَ موجبُ العنديةِ معنًى عامًا، كدخولهمْ تحتَ قدرتهِ ومشيئتهِ وأمثالِ ذلكَ: لكانَ كلُّ مخلوقٍ عندهُ؛ ولم يكنْ أحدٌ مستكبرًا عنْ عبادتهِ، بلْ مسبِّحًا لهُ ساجدًا، وقدْ قالَ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] وهوَ سبحانهُ وصفَ الملائكةَ بذلكَ ردًّا على الكفَّارِ المستكبرينَ عنْ عبادتهِ» (1).
قال ابنُ القيِّم رحمه الله:
لَوْ لَمْ يَكُنْ سُبْحَانَه فَوقَ الوَرَى
…
كَانُوا جَمِيعًا عِنْدَ ذِي السُّلْطَانِ
وَيَكُونُ عِنْدَ اللهِ إبْليسُ وَجِبـ
…
ـرِيلُ هُمَا في العِنْد مُسْتَوِيَانِ (2)
وقالَ تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *} [آل عمران: 169].
قَالَ مَسْرُوقٌ رحمه الله: سَأَلْنَا عَبْدَ اللهِ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *} [آل عمران: 169]. قَالَ: أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ - يَعْنِي: النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم: «أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُم اطِّلاعَةً فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟» (3).
(1) مجموع الفتاوى (5/ 165 - 166).
(2)
الكافية الشافية (ص112).
(3)
رواه مسلم (1887).
وقالَ ابنُ خُزيمةَ رحمه الله: فكلُّ منْ لهُ فهمٌ بلغةِ العربِ، يعلمُ أنَّ اطِّلاعَهُ إلى الشَّيءِ لا يكونُ إلَّا مِنْ أعلى إلى أسفلَ. ولو كانَ كما زعمَتِ الجهميَّةُ أنَّ اللهَ مَعَ الإنسانِ وأسفلُ منهُ، وفي الأرضِ السابعةِ السفلى كما هوَ في السَّماءِ السَّابعةِ، لمْ يكنْ لقولهِ:«فَيَطَّلِعُ إِلَيْهِمْ رَبُّكَ اطِّلاعَةً» معنًى (1).
وَتَدبَّرِ الأحاديثَ التاليةَ:
1 -
عَنْ جَابِرِ بنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟» ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ! وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ: «يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الأولَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ» (2).
2 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنهما أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللهَ عز وجل إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» (3).
3 -
عن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزولُ قَدَمُ ابنِ آدمَ يومَ القيامةِ مِنْ عِنْدِ ربِّهِ حتَّى يُسألَ عنْ خمسٍ: عنْ عُمُرهِ فيمَ أفناهُ، وعنْ شبابهِ فِيمَ أبلاهُ، ومالِهِ من أينَ اكتسبَهُ وفِيمَ أَنْفَقَهُ، وماذا عَمِلَ فِيما عَلِمَ» (4).
(1) التوحيد (ص381).
(2)
رواه مسلم (430).
(3)
رواه مسلم (2700).
(4)
رواه الترمذي (2416)، وحسنه الألباني رحمه الله في «صحيح سنن الترمذي» (1969).
4 -
عنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قالَ: جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: يا رسولَ الله، إنِّي رأيتُني الليلةَ وأنا نائمٌ، كأنِّي أصلِّي خلفَ شجرةٍ، فسجَدَتُ فسجدتِ الشجرةُ لسجودي، فسمعتُها وهي تقولُ:«اللَّهمَّ اكتُبْ لي بها عندكَ أجْرًا، وضَعْ عنِّي بها وِزْرًا، واجْعَلْها لي عندكَ ذُخْرًا، وتَقَبَّلْها منِّي كما تَقَبَّلْتَها منْ عبدِكَ داودَ» (1).
5 -
عنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: سمعتُ رسولَ اللهُ صلى الله عليه وسلم يقولُ: «كانَ رَجُلَانِ في بني إسرائيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ، فكانَ أحدُهمَا يُذْنِبُ، والآخرُ مجتهد في العبادةِ، فكانَ لا يزالُ المجتهدُ يرى الآخَرَ على الذَّنْبِ فيقولُ: أَقْصِر. فوجَدَهُ يومًا على ذنبٍ فقالَ لهُ: أَقْصِرْ. فقالَ خَلِّني ورَبِّي أَبُعِثْتَ عليَّ رقيبًا؟ فقالَ: واللهِ! لا يغفرُ اللهُ لكَ - أو لا يُدْخِلُكَ اللهُ الجنَّةَ! - فقبضَ أرواحَهُما، فاجْتَمَعا عندَ رَبِّ العالمينَ، فقالَ لهذا المجتهدِ: أَكنتَ بي عالِمًا، أو كنتَ عَلَى ما فِي يَدَيَّ قادرًا؟ وقالَ للمُذنبِ: اذْهَبْ فادخُلِ الجنَّةَ بِرحمتي، وقالَ للآخَرِ: اذْهَبُوا بهِ إلى النَّارِ» . قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده، لتكلَّم بكلمة أَوْبَقَتْ دنياه وآخرتَه (2).
(1) رواه الترمذي (584)، وحسّنه الألباني رحمه الله في «صحيح سنن الترمذي» (473).
(2)
رواهُ أبو داود (4901)، وصححهُ المحدث الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (4097).
6 -
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ جَلَالِ اللهِ مِمَّا تَذْكُرُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ وَالتَّهْلِيلَ لَيَنْعَطِفْنَ حَوْلَ الْعَرْشِ، لَهُنَّ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، يُذَكِّرنَّ بِصَاحِبِهَنَّ. أَفلَا يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ عِندَ اللهِ مَنْ يُذَكِّرُ بِهِ؟!» (1).
فانظرْ ما تضمَّنه هذا الكلامُ الوجيزُ البليغُ المشتملُ على هذا المعنى العظيمِ الجليلِ الذي لا يجدُ سامعُهُ مَغْمَزًا لهُ ولا مَطْعَنًا فيهِ ولا تَشْكِيكًا ولا سُؤالًا يوردهُ عليهِ، بلْ يأخذُ بقلبهِ وسمعهِ (2).
7 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا قَضَى اللهُ الْخَلْقَ، كَتَبَ فِي كِتَابِهِ، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي» (3).
قالَ ابنُ خزيمة رحمه الله: فالخبرُ دالٌّ على أنَّ ربَّنا جلَّ وعلا فوقَ عرشهِ الذي كتابهُ - أنَّ رحمتهُ غلبتْ غضبهُ - عندهُ (4).
وقالَ صدِّيق حسن خان رحمه الله: وهذا يَدُلُّ على العِنْدِيَّةِ والعلوِّ والفَوْقِيَّةِ. ونحنُ نُؤْمنُ بهِ، بلا كيفٍ ولا تمثيلٍ، ولا نُنْكِرُه، ولا نُؤَوِّلُهُ كأهلِ الكلامِ. وهذا هوَ سبيلُ السَّلفِ في مسائلِ الصِّفاتِ.
(1) أخرجه ابن ماجه (3809)، والحاكم (1/ 503) وصححه على شرط مسلم. ووافقه الذهبيُّ. وصححه المحدِّث الألباني رحمه الله في «صحيح سنن ابن ماجه» (3071).
(2)
الصواعق (ص483).
(3)
أخرجه البخاري (3194) و (7404) و (7422) و (7453) و (7553) و (7554)، ومسلم (2751).
(4)
التوحيد (ص105).
والحديثُ: دليلٌ على سبقِ الرحمةِ وغلبتهَا على الغضبِ والسُّخطِ. وهذا هو اللائقُ بشأنِ أرحمِ الراحمينَ. ولولا ذلكَ لكنَّا جميعًا خاسرينَ هالكينَ. نعوذُ بالله منْ غضبِ الله ونتوبُ إليهِ منْ سخطهِ. ونرجو رحمتَه وكَرَمَه وفضلَهُ ولُطْفَهُ. وما أحقَّهُ بذلكَ (1).
قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله:
وَاذْكُرْ حَدِيثًا فِي الصَّحِيحِ تَضَمَّنَتْ
…
كَلِمَاتُهُ تَكْذِيبَ ذِي البُهْتَانِ
لَمَّا قَضَى الله الخَلِيقَةَ ربُّنَا
…
كَتَبتْ يَدَاهُ كِتَابَ ذِي الإِحْسَانِ
وَكِتَابُهُ هُوَ عِنْدَهُ وَضْعٌ عَلى الـ
…
ـعَرْشِ المجِيدِ الثَّابِتِ الأرْكَانِ
إنِّي أنَا الرَّحمنُ تَسْبِقُ رَحْمَتِي
…
غَضَبِي وَذَاكَ لرأفتِي وَحَنَانِي (2).
قالَ الشيخُ الغنيمانُ حفظهُ الرحمنُ: والحقُّ أنَّ قولَهُ: «عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ» على ظاهرهِ، وأنَّ كلَّ تأويلٍ لهُ عنْ ظاهرهِ، تبديلٌ للمعنى الذي أرادهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ونحنُ نؤمنُ إيمانًا يقينًا قاطعًا وكلُّ المؤمنينَ أنَّ الرسولَ أحرصُ على عقيدةِ المسلمينَ، وعلى تنزيهِ الله - تعالى - منْ هؤلاءِ المحرِّفينَ لكلامهِ. وهوَ كذلكَ أقدرُ على البيانِ والإيضاحِ منهم، وهوَ كذلكَ أعلمُ بالله، وما يجبُ لهُ وما يمتنعُ عليهِ منْ هؤلاءِ المُتَخَبِّطِينَ.
فهذا كتابٌ خاصٌّ، وضعَهُ عندهُ فوقَ عرشهِ، مُثبتًا فيهِ ما ذكرَ، لزيادةِ الاهتمامِ به، ولا ينافي ذلكَ أنْ يكونَ مكتوبًا أيضًا فى اللَّوحِ المحفوظِ. وهوَ كتابٌ حقيقةً، كتبهُ - تعالى - كما ذكرَ لنَا رسولُنا حقيقةً، وهو عندَ الله حقيقةً، فوقَ عرشِهِ حقيقةً (3).
(1) السراج الوهاج (11/ 62 - 63).
(2)
الكافية الشافية (ص142).
(3)
شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (1/ 391).